تأثر بعالم المنشدين.. وأصدر مجموعته الأولى «ثلاث شجيرات تثمر برتقالا» عام 1970 لا يعرف كثير من الناس أن كثيرا من الأدباء والشعراء والكتّاب يعيشون مآسيهم الاجتماعية وهم يبدعون أجمل كتاباتهم، ويضطرون أحيانا إلى امتهان أعمال فى غاية التواضع، من أجل شراء كتاب والبحث عن مأوى وقوت اليوم، وهناك شعراء استفاضوا فى التعبير عن هذه المأساة مثل الشاعر عبد الحميد الديب، الذى حصل على لقب «شاعر البؤس» بجدارة، وربما كان جيل الستينيات من الأجيال التى عاشت فى ظروف اجتماعية طاحنة، وكان البعض منهم يتحايل على هذه الظروف بكتابة الأغانى، أو اللجوء إلى الكتابة للأطفال، أو العمل فى الصحافة، هذا إذا لم يستطع الواحد منهم أن يعمل فى وظيفة اجتماعية عادية، ومعظم أبناء جيل الستينيات عملوا فى وظائف تقليدية فى مقتبل حياتهم، لكنهم هجروها فى ما بعد، وتفرغوا للكتابة، وأبرز هؤلاء أمل دنقل وعبد الرحمن الأبنودى ويحيى الطاهر عبد الله وغيرهم، ولكن البعض التحقوا بوظائف وتمترسوا بها مثل إبراهيم أصلان ومحمد البساطى وبهاء طاهر وآخرين، وكان يحيى الطاهر عبد الله لا يعمل سوى الكتابة، وكان يحمل ورقة فى جيبه تقول بأنه «كاتب قصة قصيرة»، وهذه هى المهنة التى يتقنها يحيى، وأبدع فيها أجمل القصص، وقدمه يوسف إدريس وعبد الفتاح الجمل، ونشر قصصه فى شتى المجلات والصحف المرموقة، وكانت قصته «محبوب الشمس» من عيون الأدب القصصى فى ذلك الزمان، وأسس هو ورفاقه منظومة إبداعية حقيقية بعد جيل يوسف إدريس الذى كان يشكل حائطا منيعا لموهبته الخارقة، واستطاع يحيى أن يبهر يوسف إدريس نفسه، ولذلك حصل يحيى على لقب «أمير القصة»، ودان له الجميع باكتشاف إبداعى كبير، وهو القصة الأغنية، وكان يحيى يحفظ قصصه، ويقرؤها بافتتان على الأصدقاء، لأنه كان متأثرا بعالم المنشدين فى الجنوب البعيد بمحافظة قنا، وقبل أن تصدر مجموعته الأولى «ثلاث شجيرات تثمر برتقالا» عام 1970، كان يحيى قد حقق صيتا مصريا وعربيا كبيرا، وترجمت بعض قصصه إلى لغات أجنبية، وكما لجأ كثيرون إلى الكتابة للأطفال فقد مارس يحيى هذا النوع من الكتابة، ولأنه موهوب مثل زملائه سيد حجاب وعبد الرحمن الأبنودى ومجدى نجيب وأحمد هاشم الشريف، فقد كتب قصصا فى غاية الجمال، ولا أعرف لماذا لم يجمع شعراؤنا وكتّابنا هؤلاء قصصهم وأشعارهم فى كتب ومجلدات، مصحوبة برسومات لكبار الفنانين، لأننى أعرف أن عاطلين عن موهبة الكتابة للأطفال هم الذين كتبوا ونشروا غثاءهم فى كتب لا تغنى ولا تسمن من جوع للإبداع. جدير بالذكر أن والد الشاعر فؤاد حداد له عدد من قصص الأطفال قد نشرها فى مجلات «سمير»، أتحدث عن مرحلة الستينيات التى لم تكن قد انزلقت إلى الحالة التى نحن بصددها، والتى بدأت منذ السبعينيات ودفعت كثيرا من الشعراء إلى كتابة أغانى غثة، وإعلانات تجارية ركيكة وهابطة الذوق، واقرؤوا كتاب «هكذا تكلم جحا» لنجيب سرور الذى تحدث فيه عن بداية المؤامرة على إفساد ذوق المصريين عبر الفن التجارى والاستهلاكى، وهذا كنوع من إرضاء الذائقة البترولية التى كان يروق لها ذلك فى السينما والمسرح والأغانى، وأعود إلى يحيى الطاهر الذى كتب للأطفال وهو يعيش مطاردات الجوع والبوليس فى آن واحد، ونشر هذه القصص فى مجلتى «سمير» و«ميكى»، وكثيرا ما أعيد قراءة هذه القصص «أنا العاقل الرشيد»، لكنه لا يمل قراءة قصص يحيى للأطفال والكبار، والذى لم يتلوث طوال حياته التى انتهت بمأساة نهائية، إثر حادث انقلاب سيارة بيجو 7 راكب وهو ذاهب إلى قريته الجنوبية لتصوير فيلم عنه مع إحدى المستشرقات، وها هى قصة «انتحار الربيع» المنشورة فى عدد من مجلة «ميكى» الصادر فى 12 مايو 1966، ويقيم يحيى حوارا جميلا بين الحطّاب الذى يعانى من البطالة فى كل فصول العام، عدا فصل الشتاء، فطلب من الشتاء أن يبقى طوال العام حتى يجد العمل، لكن الشتاء يرحل ويتركه حسيرا فقيرا، فيتحايل الحطّاب على اغتيال الفصول الأخرى، لكنه لا يفلح، ويعود الربيع منتصرا جميلا زاهيا، هكذا كان يحيى ينشد الحياة والانتصار والحب والرقة، على شاكلة قصته البديعة: «أنا وهى وزهور العالم»، يحيى الذى رثاه أمل دنقل بعد رحيله بقوله، ومخاطبا ابنته أسماء: «ليت أسماء تعرف أن أباها صعد لم يمت هل يموت الذى كان يحيا كأن الحياة أبد عاش منتصبا بينما ينحنى القلب يبحث عما فقد». ورثاه رفيقه الشاعر عبد الرحمن الأبنودى قائلا: «يا يحيى.. يا عجبان.. يا فصيح يا رقصة.. يا زغروتة اتمكن الموت من الريح وفرغت الحدوتة كنا شقايق على البعد وع القرب.. شأن الشقايق أنا كنت راسم على بعد وخانتنى فيك الدقايق». وأصدرت مجلة «خطوة» التى أسسها مع رفاقه عددا خاصا كتب فيه صلاح عيسى ولطيفة الزيات وسيد البحراوى وآخرون، وكتب عنه يوسف إدريس مقاله الشهير «النجم الذى هوى»، ورغم أن أعمال يحيى الكاملة صدرت طبعتها الأولى عن دار المستقبل، ثم طبعتها الثانية عن دار العين، فإننا نحتاج إلى قراءة يحيى كاملا، بعد الإفراج عن قصصه البديعة التى كتبها للأطفال، مصحوبة برسوم فنانين يقدرون هذه القصص بقوة.