- الإنجليز قتلوا الجد؟ - لا.. بل قتله جهله. فى قصة بديعة للأديبة السودانية الشابة أستيلا قايتانو، عنوانها «بحيرة بحجم ثمرة الباباى»، تجد حوارًا مشوقًا بين الجدة والحفيدة فى منزل بدائى فى قلب أدغال جنوب السودان. «قايتانو» من الجنوب، تكتب القصة بالعربية عن الإنسان الإفريقى فى جنوب السودان، وعن معاناة الإنسان عمومًا فى هذه البقعة تحت حكم الاستعمار والاستبداد العسكرى والفاشية الدينية، حسب زمن القصة فى تاريخ البلاد، وكانت قبل الانفصال تعيش فى الشمال، ولا تعرف ماذا تفعل بعد أن ينقسم السودان إلى بلدين.. هل تعيش فى منزلها بالشمال كأجنبية؟ أم تعود إلى جوبا كمواطنة تواجه المجهول؟ شخصيًّا لا أعرف الآن كيف حسمت خياراتها. فى هذه القصة التى تنقل فيها كاتبتها عوالم مدهشة عن حياة الجنوبيين وثقافاتهم وخرافاتهم المشابهة لأى خرافات فى أى مجتمع مع اختلاف الأدوات والوسائل والأبطال والتيمات، تحكى الجدة عن أسرتها التى لم يبق منها إلا الحفيدة الصغيرة. ابنتها التى ماتت وهى تضع مولودتها، وابنها الذى سحقته جاموسة هائجة بقرونها، وزوجها الذى أعدمه الإنجليز. تحب الجدة كثيرًا أن تحكى حكاية زوجها «الجد».. قتل برمحه شخصًا إنجليزيًّا، لم يكن الجد من مقاومى الاحتلال، أو وقع بينه وبين المقتول شجار، فقط لم ترق إلى الجد نظرات الإنجليزى له، فصوب رمحه إلى نحره وأرداه. حكمت محكمة إنجليزية عاجلة على الجد بالإعدام، وكان لا بد أن يُنفذ الحكم فى منطقة أخرى تبعد مسافة كبيرة، أعطى الضابط الإنجليزى الجد ورقة بيضاء وطلب منه أن يذهب إلى المعسكر، وهناك سيجد الناس فى انتظاره وسيقومون معه باللازم بعد أن يسلمهم الورقة. تقول الجدة : «كان جدك الغبى سعيدًا لأن الإنجليز أعطوه ورقة.. حمل الرسالة وقد حشرها بين شقى عودِ من البوص حتى لا تتسخ، سار مسافة كبيرة بين الأدغال، وصنع لنفسه راية صغيرة وهو لا يدرى أنها راية موته، وعندما وصل.. نُفذ الحكم فمات والدهشة مرتسمة على وجهه الغبى.. قتله جهله». تعرف الجدة جيدًا مَن قتل زوجها. الإنجليز المستعمرون أناس أشرار، إمبرياليون، متعجرفون، قتلة، سفاحون.. إلخ.. إلخ.. إلخ، لكنها أوجزت السبب دون مكابرة أو ادعاء أو تحميل الأمور أبعادًا سياسية أو نضالية: «قتله جهله»، ربما إن كان يعرف القراءة ما ذهب بنفسه حتى مقصلة الإعدام وهو مُقبل، وكأنه يقول لقاتليه: هيا أنجزوا مهمتكم. ■ ■ ■ بعض الحكام مثل هذا الجد الإفريقى، لا يجيدون القراءة، لذلك يسيرون بسعادة بالغة فى طريق النهاية، يحصدون ثمار ما زرعوه، ويتحركون فى طريق لا نهاية له إلا السقوط، لكنهم عند حدوث هذا السقوط لا يظهر بين أنصارهم مَن يملك شجاعة تلك الجدة الإفريقية وقدرتها على أن تشير بإصبع قوى إلى موضع الخلل وسبب الانهيار، لكن العكس يحدث دائمًا، يصبح السقوط مؤامرة كونية، نكسة، انقلاب، خيانة، تدبير أجهزة مخابرات. عندما أطلقت الجدة صيحتها: «قتله جهلُه»، فهمت على الأقل ما يجب العمل عليه حتى لا يتكرر هذا الغباء ثانية، وانتهى الأمر بحفيدتها متعلمة مثقفة قادرة على الدفاع عن قضاياها وأحلامها وثقافتها وهويتها. لكن لدينا فريقًا ما زال يروج أن 25 يناير ليست إلا نكسة ومؤامرة كونية، هل يمكن أن يكون فيه قدر من أمل ليتعلم شيئًا؟ أو يكون حاضرًا ليصنع شيئًا مختلفًا؟ وهو الذى لم ير الخشبة فى عينيه وشارك فى كتابة ورقة السقوط التى حملها مبارك إلى طريق نهايته وهو فرح منتشٍ، وفريق ما زال يروج أن 30 يونيو ليست إلا انقلابًا ومؤامرة كونية أيضًا، ما الأمل فيه وهو الذى لم يجد إصبع اتهام واحدًا فى أصابعه العشرة يشير به إلى نفسه بجد، ودفع مرسى فى طريق سقوطه وهو يظن أنه يحسن صنعًا. لست مغرمًا بالمسميات والتوصيفات ولا التنظيرات المختلفة، لكن أتعجب من شخص لديه قناعة أن 25 يناير نكسة، ويجتهد فى تأصيل طرحه، دون أن يصادفه ما يفيد بتمهيد مبارك الطريق لبلوغ 25 يناير، وأتعجب أكثر ممن يعتقد أن انقلابًا جرى على مرسى، دون أن يدرك كيف سار بنا مرسى والذين معه فى هذا الطريق الذى صنعه بنفسه حتى بلغ نهايته. كانت فى يديه الورقة، لكنه لم يكن يقرأ. قل إن يناير نكسة إن شئت.. لكن كمل جميلك واعترف إنها نكسة من صنع مبارك ونظامه.. وتحدث طويلًا عن الانقلاب، لكن لا تكتم الشهادة وتغفل أنه انقلاب من صنع مرسى والذين كانوا معه. لكن أن ينسى كل طرف ما جنى ويتشبث بشماعة المؤامرة الكونية، فمعناه أن الفوضى ستستمر، وأن أحدًا لن يراجع كل ما مضى، لن يكون من بينهم جدة إفريقية واعية، وإنما جد جاهل أهوج مكابر يمضى بنفسه وبنا إلى المقصلة. اسأل الجدة عن مبارك ستقول لك بوضوح: أسقطه فساده، واسألها عن مرسى سترد فورًا: أسقطه غباؤه. واسألها: متى يا جدتنا يسقط النظام القادم؟ ستقول: حين يكرر أخطاء السابقين ويعتقد أنه قد يستمر طويلًا...!