بشكل ما اعتبرته قريبى، فأمه أخت زوجة أخو زوجة أخو زوجى، لكن بالتأكيد هو جارى فى حى المنيرة، يشترى من نفس المحلات التى أشترى منها احتياجات البيت، ويجلس على المقاهى التى أمر أمامها فى الذهاب والعودة من عملى، ويعرف نفس الصنايعية الذين يدخلون بيتى لإصلاح حنفية أو تركيب زجاج شباك، عنوان بطاقته على نفس قسم شرطة السيدة زينب، وبالتأكيد قام بالتصويت فى الانتخابات فى مدرسة بستان الفاضل مثلى، لأن بيته قريب منها، وربما يكون أعطى صوته لحافظ أبو سعدة مثلى. غالبا يمر مثلى كثيرا أمام مسجد الشيخ أحمد إبراهيم، ويستمع إلى صوت الأذان نفسه الذى أسمعه، وبالتأكيد يؤدى صلاة الجمعة فيه، واحتمال كبير نكون التقينا مرات عديدة فى محطة مترو السيدة أمام شباك التذاكر، وربما سمح لى أن أتخطاه فى الدور. وقد أكون نهرته مرة وهو يقفز داخل المترو بعد تحركه، أو دافعت عنه إذا كان اقتحم عربة السيدات بالخطأ، فتكاثرت عليه الراكبات وكدن يفتكن به. قد نكون تبادلنا آراء سياسية أمام بائع الجرائد القريب من بيتينا، وبالتأكيد أكلنا فولا وطعمية من «البغل» وفطيرا من «الماوردى»، غالبا استمعنا معا إلى صراخ أمهات مستشفى أبو الريش، وإلى أصوات سيارات الإسعاف. وربما نكون استمعنا معا مرات عديدة إلى أغنية أم كلثوم المنبعثة من راديو محل العصير فى الثالثة ظهر كل يوم. كل هذا وأكثر، لأننا جيران، وبشكل ما أَقَارب، لذلك عندما وصلنى خبر استشهاده فى مهزلة مجلس الوزراء، لم أهتم بمعرفة اسمه بالكامل، عرفت أنه محمد، فذهبت لزيارة أم محمد، رأيت صورته على مدخل الشارع مكتوبا عليها «الشهيد محمد الضعيف»، ففهمت أن «الضعيف» هو اسم الشهرة. «آخر شهداء (محمد محمود) اسمه أحمد صالح، اكتشفت يوم جنازته أن اسمه العجوز.. أسماء بالتأكيد لها قصص ذهبت مع أصحابها». شابة جميلة فتحت لى الباب ودعتنى للجلوس، عرفت بعد دقائق أنها أخت محمد الصغيرة، رشا، وجاءت من الداخل سيدة أيضا جميلة، هى أمه، قالت «زى النهارده.. زى دلوقتى كان محمد قاعد هنا معايا.. قال لى تشربى معايا قهوة.. قلت له أشرب.. كان تقريبا بيودعنى، ولّا إيه؟ كان كلامه حلو أصله متعلم، واخد الدبلوم، بس بعد ما اتصاب فى يناير ماقدرش يشتغل، بس ماكانش ساكت كان بيدوّر على شغل.. ده معاه بطاقة بيروح بيها.. والله ما أنا فاكرة اسمها إيه.. تعالى يا رشا عشان تفهّميها، اسمها إيه البطاقة اللى مع أخوك». تأتى رشا من الداخل بعد أن لفت رأسها بطرحة سوداء، لتصبح مستعدة لاستقبالى، جعلتها الطرحة تبدو أجمل، بالتأكيد كان محمد جميلا مثل أخته وأمه، سألتها هو كان عنده كام سنة، قالت «عنده اتنين وتلاتين.. ماما قصدها كارنيه مصابى الثورة، أصله كان بيروح يقدمه، عشان كان عايز ياخد بيه ترخيص لكشك أو مشروع صغير». «طيب يا رشا احكيلى من الأول هو اتصاب إزاى فى الثورة؟». نظرت رشا إلى أمها، فى نفس اللحظة التى قالت فيها الأم «لأ أنا هاحكيلك، بس هى تقول اللى مش فاهماه». «هو كانت رجله زى ما تكون مكسورة، الركبة اتنقلت من مكانها بدل ما هى هنا كده زى كل الناس اتنقلت وبقت هنا.. أشارت إلى جانب ساقها من جهة الخارج وكورت يدها، وقلت كده.. رجله الشمال دى بقت عاملة كده.. وبقى بيعرج». ظلت أم محمد تحكى قصصا متداخلة عن غياب، وعن مشرحة، وعن رجل من القسم جاء ليبلغ أخاه بموته، وعن صور لجثمانه، تثبت أنه تعرض لتعذيب. وفى النهاية سألتها: هو اسمه إيه بالكامل؟ قالت: محمد محيى حسين!!