يخصُّنا الكاتب والباحث عمار على حسن بنشر روايته الجديدة «سلفى» على صفحات الجريدة، وذلك تزامنًا مع إصدار الطبعة الرابعة من روايته «شجرة العابد»، التى نالت جائزة اتحاد الكتاب منذ أيام وحظيت باهتمام نقاد كبار، وحصلت على عدد كبير من الجوائز فى مجالَى الإبداع الأدبى والفكرى. ومؤلف «سلفى» كاتب وباحث فى العلوم السياسية، تخرج فى كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، ولديه عدد من المؤلفات الخاصة بدراسة الجماعات الإسلامية فى مصر والوطن العربى، كما أنه كتب عددا من المؤلفات الإبداعية، منها روايات «حكاية شمردل»، و«جدران المدى»، و«زهر الخريف»، و«سقوط الصمت»، إضافة إلى مجموعات قصصية هى «عرب العطيات»، و«أحلام منسية». العتبة العشرون هنا، يا ولدى، العتبة قبل الأخيرة لدار ليست الأخيرة فى قريتنا التى نسيها الزمن، لكنها الأكثر انتظارا للقادمين. تقف الدار فى وجه المسجد، وتلثم خده الأيمن بمصطبة عريضة، تئنّ تحت عجيزة رجل بدين، ذى وجه مستدير، يشعّ نورا ذائبا فى بقعة دم خفيفة وسيعة اسمه «الشيخ إسماعيل». بعد الظهر ترشّ زوجته «سعدية» وجه المصطبة بماء بارد، تأكله الشمس وهى تهرب لتختفى خلف البيوت والنخيل. ويتدحرج هو بعد العصر، ويرمى ثقله مسندا ظهره إلى الحائط الخلفى للمسجد، ويربّع ساقيه، ثم يتنهّد بعمق، يمدّ يده إلى جيب «الصديرى»، ويُخرج ساعة بيضاء ضخمة، ويطيل النظر إليها، وكأنه يعدّ الثوانى مراقبا تقدّم الزمن على مهل نحو النهاية، وبعدها يُخرج المصحف من جيبه، ويبدأ فى تلاوة ندية عذبة، لا ينتهى منها إلا حين يؤذّن المغرب. أسرع الخطى، يا ولدى، حتى نلحق به قبل رحيل النور، لنجلس إليه، ونعرف ما عنده، فربما تجد لديه ما يُفيدك، وربّ سامع أوعى من مُبلّغ. فلا تغرنّك بساطة منظره، ولا رأسه الحاسر الذى ينتظر دوما عمامة بيضاء، تطوق طربوشا أحمر مضلعا، يبدو على ضخامته كقبة ضريح صوفى قديم. ها هو، يا ولدى، جالس فى مكانه الذى رأيته فيه آخر مرة، وها هو صوت تلاوته يأتى إلينا.. أتسمعه؟ صوت أجش لكنه حنون، يفضى إلى البكاء. هل تخشع له مثلما أخشع أنا؟ أم أنك أدمنت الأصوات الزاعقة التى تحوّل كلام الله إلى قذائف صوتية، ثم إلى قذائف من لهب، تقتل الناس بأيدى الجهلة والمتنطّعين. لماذا توقفت عن المسير؟ هِمَّ خلفى يا ولدى، لنسمع إلى هذا الرجل الطيب الذى يُعلِّم أهل قريتى طرفا من علوم الدين. لماذا تجهم وجهك من جديد؟ ابتسم، وليشرق وجهك، فعلى بُعد خطوات منك رجل يكره العبوس. ما إن يجلس فى مكانه حتى يرمى كل شىء وراء ظهره، ويبتسم فى وجه الحروف التى أمامه، والعابرون الذين قد يمرّ بعضهم، ولا يلقون عليه السلام خشية أن يقطعوا تلاوته. كذلك نحن، لن نجعل صوته يخرس حتى لمجرد رد السلام علينا. سنمشى فى هدوء، إلى أن نقف بالقرب منه، من دون أن يرانا، وعندها قد أضطرّ إلى أن أهمس لك بحكايات عن الرجل، لا تزال مترسّبة فى قعر الذاكرة. أتذكّره وهو محطوط فوق حماره، ماضيا فى طريقه إلى البندر، ليقبض مرتبه كمقيم شعائر فى هذا المسجد البسيط. حين يراه الناس راكبا حماره، يقولون فى صوت جماعى: - جيب الشيخ «إسماعيل» سيدفأ اليوم. يترك ركوبته عند رجل يقطن بالقرب من محطة قطار قرية «صفط اللبن» التى وجد العمدة «حيدر» عندها «عطا الله» ذات يوم بعيد، ثم يرفع ثقله إلى إحدى عربات قطار الثامنة صباحا، ليتدحرج فى شوارع لا تُقبّل قدميه، مارا بين أناس لا يعرفونه، ويعود والشمس ترفرف تحت سكاكين الضباب الأزرق المرشوش بالدم. يذهب هادئا ويعود هادئا. والمرتب لا يكفى، فيكمل الشهر بما يرزقه به الله من إحياء المآتم، وقراءة القرآن فى البيوت. يطرق الأبواب، ويقول بصوت مرتفع: يا ساتر، فيؤذن له، ليدخل، ويتربّع فى صالة البيت أو مندرة الضيوف، ويبدأ فى الترتيل. وفى مواسم الحصاد يعود عليه ترتيله بغلال تكفى أسرته طيلة السنة. لم أجده، يا ولدى، يقول لأحد من الفلاحين إن ما مدّه إليه من قمح أو فول أو ذرة أو شعير قليل، كان يأخذ ما يجود به أى منهم، حتى لو كان حفنة واحدة، ويحمد الله، ويمضى فى طريقه راضيا. ولمّا كبر سنه وثقل جسمه، كلّف ابنه «إبراهيم» بهذه المهمة، وأخذه إلى جانبه يُدرّبه على التلاوة والترتيل فى بيوت الناس. لم يكن الشيخ «إسماعيل» متبحّرا فى العلم الذى تحويه الكتب القديمة، تحملها أنت فى رأسك، وإذا سأله الناس عنها يتلو عليهم: «وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ»، ويكتفى بتفسير «الجلالين» وآخر لمعانى الكلمات، وثلاثة كتب تضمّ خطبا منبرية، يقرأها فى أيام الجمع. وحين يجلس فى المسجد قبل الصلاة وبعدها يقصده الناس بأسئلتهم، فيُجيب فى بساطة على قدر ما فى وجدانه وعقله، ويحكى بلغة يفهمها الجميع، ويجدون الدين جاريا أمامهم فى الحقول والبيوت والأسواق. دين للناس، يذوب فى حياتهم، ولا يغيب، ويجدون أنفسهم فى غنى عن أن يقولوا فى كل لحظة أى شىء عنه، متباهين بما هم عليه، مثل أصحابك، أنت يا ولدى، الذين يتوهمون أنهم رسل الله، ولا يسيرون على الأرض هونا، ويتعاملون مع سواهم على أنهم المسوخ والكفار والضالون. أرى ملامحك قد انقبضت، وامتلأت عيناك بالشك فى كلامى. ربما تريد أن تذكّرنى بما يحدث لعائلة «أبو سعيد» التى ينبذها الناس، لكن يبدو أنك قد نسيت أننى قد قلت لك إن كلام الشيخ «إسماعيل» قد بدأ يثمر أخيرا. ومن هو مثلك، أقصد «حسن» لم يكلّم الناس فى هذا الموضوع ولو مرة، بل ضبطته ذات يوم يقول لأحد الفلاحين: لو كنا فى الزمن القديم لصارت قريبات «أبو سعيد» إماءً لنا، ونسى وقتها أن الرجل قريب له، ويدافع عنه. أما الشيخ «إسماعيل» فقد صعد إلى المنبر فى إحدى الجمع، وأخرج من جيبه المشط الذى يهذّب به شعر رأسه، وقال للناس: أنتم سواسية، فهزوا رؤوسهم متطلعين، ثم راح يمرّر أصابع يده اليسرى فوق السنون، وسأل بصوت جهورى: هل تجدون سِنا من هذه أوطى من غيرها، فردّوا: لا. فقال: كذلك أنتم عند الله، لا فرق بين أبيض وأسود إلا بالتقوى، ولأن التقوى لا يحكم عليها إلا ربكم، فليس عليكم إلا أن تتساووا فى الدنيا، ولا يميّز أحدكم عن غيره إلا اجتهاد فى عمارة الأرض. كنت، يا ولدى، أسمع عن هذا الكلام فى صغرى، وكما عرفت تعجبت: كيف اهتدى هذا الرجل البسيط إلى الحكمة، وسألته قبل سنوات قليلة، فابتسم، وقال: - علّمنى فى صباى رجل صوفى، درس فى الأزهر، لازمته سنين، ألتقط كل ما يخرج من فمه، وكلما نطقت بلسانه تذكّرته، لم يكن يقول لنا: هل حفظتم السورة؟ بل كان يسأل: هل فهمتم الآيات؟ لا أزال، يا ولدى، أتذكّر حكاياته التى كان يضيف إليها من بعض تفاصيل من خياله دون أن يشطط، عن الذين عاشوا فى القرون الغابرة من الصحابة والصالحين، وذات يوم صرخ فيه «حسن»: - هذه بدع. فضحك طويلا، ثم قال له: - علّمنى شيخى أن كثيرا مما كتبه البشر عن الزمن البعيد مجرد أساطير. وتوتر الجامع بينما عينىّ «حسن» كانتا تطلق شررا، يتطاير على وجوه الجالسين، وكاد يهمّ ليوجه لكمة إلى وجه الشيخ «إسماعيل» لولا تدخل «أبو سعيد» ناهرا «حسن»: - «ليس منّا مَن لم يُوقّر كبيرنا». لكن شيخ الجامع أصرّ على ما يقول، وزاد عليه: كان شيخى يحذّر تلاميذه من أن يستسلموا للتخاريف التى سكنت بعض التفاسير، ومن التاريخ الذى صار كثيرون يُقدّسونه. ثم التفت إلى «حسن» وقال بصوت جهورى غير عابئ بغضبه: - مَن علَّمك، يا بنى، تضع كلام البشر مكان كلام الله؟ أنا أذهب إلى «كتاب الله» مباشرة، بلا واسطة، وما قصدت آياته إلا جادت لى بما انطوت عليه، وما أحكيه للناس ليس خرافات، ولا بدعا، إنما أختار الحكايات المعقولة، وأنقى ما لا يعقل منها مما علق بها مما تسرب إليها من أصحاب الذمم الخربة، والخيال المريض، ثم أحكيها للناس بما يتآلف مع زمانهم هذا. وعندها اقترب «أبو سعيد» من «حسن»، ووضع كفيه أمام عينيه، ليصد الشرر المتطاير، ونظر إلى كل الجالسين، وقال: - الشيخ «إسماعيل» يعى ما يقول، فهو تلميذ رجل شهد له كل الناس بالعلم والصلاح. لم يكن «حسن» هو الشخص الوحيد، يا ولدى، الذى يجادل الشيخ «إسماعيل»، فذات ليلة أنصت هو إلى ما يقوله أحد الوعاظ الغرباء من «جماعة التبليغ والدعوة» فلم يعجبه كلامه. كان الرجل يتعتع ويعنعن بلا معنى، ويتوه محاولا أن ينطق بلغة عتيقة مهجورة حتى يبهر الناس، ويجهد أسماعهم وأذهانهم فيقفون أمامه عاجزين. وعندها توجّه إليه الشيخ «إسماعيل»: - يَسِّر للناس ما تقوله يا بنى، اهضم ما قرأته فى الكتب القديمة، وانطق بلسان زماننا. تلعثم الرجل، فقد كان يظن أن قريتنا تخلو من أصحاب العلم، وكان يجلس مسترخيا، متوهما أن حديثه يأخذ ألباب الناس، ولا يعرف أن الوجوه الساهمة، والعيون المبحلقة فيه لا تعبّر عن انبهارها، إنما عن حيرة وتخبّط. وبعد أن لسعته العبارة التى قالها الشيخ «إسماعيل» اعتدل الواعظ الغريب فى جلسته، وراح صوته ينخفض تدريجيا، ثم لم يلبث أن استرد عافيته التى تداعت وانفرطت، وفتح فى دهاء بابا للمناظرة، فسأل الشيخ «إسماعيل» عن «الدليل الشرعى» على ما يقول. عندها ابتسم «إسماعيل»، وسأله فى هدوء: - عن أى دليل شرعى تسأل؟ إن لكل أمر أو شىء ما يدل عليه، أما أن نقول هذا شرعى أو غير شرعى، فعلى أى أساس، يا بنى، ألم تقرأ أو تسمع عن طلب الرسول لنا بأن نستفتى قلوبنا، فالحلال بيّن والحرام بيّن، وبينهما عفو، وهو الأغلب. فامتقع وجه الرجل، وقال فى غضب: - كلامك لا يُطابق رأى أهل العلم. فاقترب الشيخ «إسماعيل» منه وربت على كتفه، وقال: - مَن الذى حدّد أن يكون هناك ما تسمّيه «دليل شرعى» لكل حركاتنا وسكناتنا، لنعرف كيف نزرع ونحصد، ونضحك ونبكى، ونأكل ونشرب ونذهب إلى المراحيض، ونستمتع بزوجاتنا، ونجلس ليلا لنتسامر أو نلعب الدومينو فى غرزة «صبيح»؟ - علماء الأمة؟ - وهل هم وكلاء عن الله؟ - لا. - هل وردت فى القرآن آية تقول لنا ابحثوا عن الدليل الشرعى؟ - لا. - هل الرسول أوكل لأحد أن يجلس ويفتّش عن هذا الدليل؟ - ليس على هذا النحو المباشر، لكنّ العلماء موكلون. - وهل ما يستنتجونه مقدَّس؟ - لا. عندها قهقه الشيخ «إسماعيل» فازداد وجهه احمرارا، ورأيته فى هذه اللحظة منتشيا بانتصاره، رغم أننى قلما رأيته يتيه على الناس بعلم أو إلهام كتم ضحكته الطويلة، وقال للواعظ الغريب: - هم رجال ونحن رجال. ثم نادى «أبو سعيد» ليقيم الصلاة، وبعد أن فرغ منها ذهب إلى بيته صامتا، وهو يكفكف دموعه، بينما رأسه مطأطأ، يكاد يمسّ بطنه الكبير، وينقل قدميْه بين أحجار ضخمة متناثرة من كومة عالية، رماها جاره أمس، ليبنى بها جدارا قد ترنّح ثم انقض. عاد الشيخ «إسماعيل» بعد ساعة، وخلفه ابنه «إبراهيم» يحمل صينية عليها أطباق من البيض المقلى والجبن الطرى والعسل الأسود واللفت المخلل، وصعدا معا درجات سلم الجامع، وكان المصلّون قد انصرفوا إلى بيوتهم، ولم يبقَ سوى الوعاظ الغرباء، المعتكفين فى المسجد، حيث انتحوا جانبا، وفرشوا فوق إحدى حصر البوص، الزائدة طولا وعرضا، منديلا كبيرا محشوّا بكسور الخبز والجبن القديم. أشار الشيخ «إسماعيل» إلى ابنه أن يضع ما يحمله، فأسند الصينية على الأرض فى هدوء، لكن هذا لم يمنع اهتزاز طبق العسل، فسقطت ثلاث قطرات على الحصير. مدّ «إسماعيل» أصابعه ومسحها، ثم راح يلعقها، وهو يحط جسده إلى جانبهم، ويقول: - حتى يكون بيننا عيش وملح. وما إن انتهوا من طعامهم هذا حتى كان «إبراهيم» قد حمل براد الشاى الكبير، واقفا كملك على صينية من الخزف تكاد الورود المطبوعة على حواشيها تُرسل رائحة زكية إلى أنوف الجالسين، وحوله أكواب من الزجاج الشفاف، لها آذان مصمتة ذات ملمس خشن، تستريح الأصابع للإمساك به. وكانت ليلة مختلفة مع هؤلاء الوعاظ المتنقلين من بلدة إلى أخرى. وقبل أن ينهض الشيخ «إسماعيل» عائدا إلى بيته ليستريح، ويتركهم يكملون طقوس اعتكافهم أو ينامون، عرض عليه كبيرهم أن يخرج معهم فى سبيل الله. فضحك الشيخ وقال: - أنا قاعد هنا فى سبيل الله، والأقربون أوْلَى بمعروفى إن كان عندى ما أُقدِّمه لهم. تفهّم الرجل كلامه وموقفه، وهو ما لا تتفهمه أنت أبدا، يا ولدى، وتعتقد أن سبيل الله لا يكون إلا فى السفر والهجرة. نظر الرجل إلى الشيخ «إسماعيل» فى امتنان، وقال له: - عندك كثير يا شيخنا. هكذا هو الشيخ «إسماعيل»، يا ولدى، يُجيب على قدر السؤال، وكلما أجاب تساءل من جديد، حتى لا تعرف إن كان مجيبك يسألك أو سائلك يجيبك، وفى كل الأحوال هو يشاطرك الحيرة، وإن سألته يرد عليك: هكذا علَّمنى شيخى، وكان غزير العلم. وكنت أراه أحيانا جالسا على الدرجة الأخيرة للسلم المؤدّى إلى باب الجامع، ووجهه معلق بالمغيب. وهذه عادة تُلازمه، وعيت عليها وأنا طفل ألعب تحت شجرة النبق العالية، فى الساحة الوسعية أمام الجامع. لم تعد الشجرة موجودة، كما ترى يا ولدى، قطعها العمدة «حيدر» أيام تجبّره، لأن بغلته تعثّرت فى جانب من جذعها، فالتوت رجلها. كان الشيخ «إسماعيل» يدفن رأسه فى الشفق، والدموع تقطر ساخنة على خديه، وينسى أين هو؟ ومتى هو؟ وحين كبرت سألته عن هذا الطقس، الذى يمارسه مرة فى الأسبوع على الأقل، فصمت برهة، ثم قال: - يذهب بعضنا إلى النهر ليغسل جسده، لكن أغلبنا ينسى أن يغسل روحه. تعجّبت لكلامه، وسألته: - وأين نغسل أرواحنا؟ فأشار نحو الغروب: - فى الشمس. فاجأتنى إجابته، وفكّرت فيها قليلا، لكننى لم أحط بها خبرا، وشردت فى متاهات عديدة، لأعرف عن أى أمر يتحدّث، إلا أننى عدت إليه، لأستجلى ما قاله، فسألته: - هل دفء الشمس يغسل الروح؟ - بل يغسلها الشجن. ولذت ساعتها، يا ولدى، بصمت مطبق، غارقا فى ما يقول، لكنه لم يدعنى حائرا فى التفاصيل. تنهّد حتى كاد يلفظ رئتيه على كفيه، وقال: - الغروب يُذكّرنى بنهاية كل شىء، وكل أحد، وبالفراق الذى لا محالة آتٍ. وتنهد مرة ثانية وواصل: - تغيب هنا لتشرق فى مكان آخر، وهكذا فى دائرة لا تنتهى إلا حين يأذن لها الله، أما نحن فلسنا سوى جزء ضئيل من هذه الدائرة العملاقة، التى تسع الكون كله، المستدير لا بداية ولا نهاية. نحن جزء له بداية وله نهاية هنا على الأرض مثل قرص الشمس، الذى يولد ويموت أمام أعيننا فى ساعات قلائل. ثم مدّ ذراعه ووضع كفه فوق كتفى، وبيده الأخرى أدار وجهى نحو قرص الشمس السابح فى الدم المشع، وقال: - أرى دوما نعشى يرفرف هناك متأرجحا بين الأحمر والأزرق والأصفر، ثم يذوب تماما فى الشفق. وأشعر أن آخر نفس لى فى هذه الدنيا سيخرج فى لحظة تكون فيها الشمس تتساقَط خلف الجسر والنخيل. ها هو جالس، يا ولدى، فى مكانه بينما الشمس ترحل على مهل، وتسحب شعاعها الذابل من فوق جبينه، ومن على صفحات المصحف المستيقظ بين يديه، لكنه لا يقوم من مكانه، ويذهب ليدفن وجهه فى الشفق، فكما قلت لك، هذه عادة أسبوعية، يُمارسها كل يوم جمعة، لأنه اليوم الذى ينتهى فيه الأسبوع، فينسجم الأمر مع مشهد النهايات المعروض فى ذيل الأفق، عند جذوع النخل وشواشى الزرع والمساحات التى تطير فيها الفراشات المنهكة. اقترب، يا ولدى، لنصل إليه قبل أن ينهض، فصلاة المغرب قد جاءت، وها هو يغلق المصحف، ويمدّ كفيه ليسند كل جسده، مرتفعا قليلا عن المصطبة، قبل أن يعتدل ويتدحرج نحو سلم الجامع، ليؤمّ الناس فى الصلاة، فقد مات من سنين «أبو سعيد» الذى كان ينوب عنه أحيانا، فيرتاح هو للصلاة قاعدا فى طرف الصف الأخير. ها هو قد ترك المصطبة وأعطانا ظهره، لم يكن يرانا على ما يبدو، لأنه لو رآنا لوقف حتى نذهب معا لمصافحته. هو يعرفنى بالطبع، ويعرف أحزانى، ويعرفك أنت من كلامى عنك، فطالما مدّ يده، وكفكف دموعى، وأنا أفيض أمامه، لأفك اختناقى، حين آتى على ذكرك. لكنه يخطو نحو الشمال، وتركنا وراء ظهره واقفين. أترى هل من الأنسب أن نهرول نحوه لنُسلّم عليه؟ أم ندعه غارقا فى المعانى التى أهدتها إليه الآيات التى كان يتلوها قبل قليل، ولا نقطع عليه شردوه المؤقت فى الإشراقة التى ربما برقت فى خاطره وذهنه؟ لكن، كيف، يا ولدى، هان عليه الوجع الذى لملمه كثيرا من عينى، وأنا جالس أمامه، لا سيما فى تلك الليلة التى لا أنساها؟ جئت إليه طائعا أمر جدتك، حيت قالت لى فى حسم: - اذهب إلى الشيخ «إسماعيل» ليفتح لك الكتاب.