البعض يحاول تحويل ما حدث في مصر إلي عملية إصلاح هامشي ولكن لابد أن تستمر الثورة وتنجز مهامها ونتجاوز بعض أخطارها · الاستفتاء أظهر تحالفاً غير مكتوب بين بقايا النظام والتيار الديني بقواه المختلفة وعلي رأسها الإخوان المسلمون تحدثت في الأسبوع الماضي عن المتلهفين علي إجراء استفتاء لم يجري حوله حوار ولا تعلم عنه الغالبية إلا القليل مما يتناقض مع أبسط قواعد الديمقراطية ويوضح عدم إخلاص المؤيدين لهذا السلوك للديمقراطية. ويبين أيضاً كيف أن أولوية حصد مكاسب سياسية سريعة طغت علي كل اعتبار حتي وإن كان ذلك يعني التزييف الواقعي لإرادة الجماهير. لم تكن نتيجة الاستفتاء مفاجأة ولكن كان اتساع الفجوة بين الموافقين والمعترضين أكبر كثيرا من التوقعات. إن تطويع إرادة الشعوب وتزييفها لا يختلف كثيرا عن تزويرها فاختيار اللون الأخضر لنعم والأسود لكلمة "لا" لم يكن مصادفة والدعاية المسمومة والواسعة التي جعلت قول نعم واجباً شرعيا والأموال الهائلة التي صرفت من أجل تأييد التعديلات ناهيك عن عدم توفر فرصة زمنية كافية للتوعية والعجلة غير المبررة كانت لا بد وأن تؤدي لهذه النتيجة. اختزال الفترة الانتقالية هدف قوي الهيمنة الغربية أما أعداء الثورة أجنبيا (رغم زياراتهم للميدان) فكانت مصلحتهم متمثلة في التقصير الزمني للفترة الانتقالية حتي لا" تتجذر الثورة" (أي تصبح راديكالية) حسب ما جاء في بعض التقارير والدراسات، وبضرورة "إدارة التغيير"حتي تتحقق "الديمقراطية" للمصريين علي ألا يكون ذلك علي حساب المصالح الاسرائيلية كما جاء علي لسان توني بلير رئيس الوزراء السابق البريطاني في تصريحات أدلي بها أثناء وجوده بالقدس في 31 يناير الماضي. التحالف العملي للقوي المضادة للثورة أظهرت عملية الاستفتاء بروز تحالف واقعي وغير مكتوب بين أعداء الثورة، أقصد تحديدا سلطة النظام الباقية والتي مازالت تتمتع بعافية كبيرة وإصرار علي البقاء والسلطة وبين التيار الديني بأنواعه المختلفة وعلي رأسها الإخوان. قد يقول البعض كيف ذلك والإخوان شاركوا في الثورة، ونقول إن قوي متناقضة ذات أجندات متباينة تشارك في أي ثورة و لكن سرعان ما يظهر التباين في الأهداف وينقض فريق للاستيلاء عليها. فالإخوان في البداية، دعموا حركة الضباط الأحرار عام 1952 وسعوا لإلغاء الأحزاب السياسية حتي يبقوا وحدهم في الميدان بصفتهم جماعة وليست حزباً أملا في الهيمنة علي السلطةا وعندما بدا جليا أن آمالهم لن تتحقق سرعان ما أصبحوا أعداء لحركة الجيش. في هذا المقال أتحدث عن أعداء الثورة الشعبية من الخارج فنلاحظ وبدون دهشة تناغما بين القوي المضادة للثورة محليا وأجنبيا. فتصريح قيادي الإخوان د. سعد الكتاتني (أحد الذين ذهبوا للحوار مع عمر سليمان أثناء الثورة!!) لشبكة "سي إن إن " إن الجماعة عارضت اتفاقات كامب ديفيد....ولكن عندما تم توقيعها وأقرت أصبحت واقعا يجب احترامه" ثم تصريح وزيرة الخارجية الأمريكية، "كلينتون: أمريكا لن تعارض وصول الإخوان للسلطة.. والجماعة : واشنطن تراجع مواقفها الخاطئة" لا يمكن أن يكون هذا النوع من "قبول الآخر" محض صدفة ولا يحتاج إلي تقويل أو إلي الاستناد للاتصالات المتكررة بين الإخوان وشخصيات رسمية غربية طوال أعوام مضت شارك فيها قياديون من الإخوان مثل د.عصام العريان والتي لم ينكرها قياديون له في الجماعة. أليس من العجيب خصوصا ممن يؤمن بالديمقراطية (الفكر المستورد سابقا) أن يعتبر إقرار معاهدة خطيرة مثل كامب ديفيد (التي قننت نزع سلاح أغلب سيناء وانتقصت بشكل خطير السيادة الوطنية في غياب كامل من المناقشة الشعبية) واعتبارها واقعا. لماذا إذاً قامت الثورة؟ ألم يكن هدفها تغيير واقع؟! ثُم ماذا عن وجوب احترام معاهدة الذل والعار هذه ؟ أليس من الواجب الوطني العمل بكل الوسائل علي إلغائها ؟ ثم أين كان الإخوان عندما تكاتفت كل القوي الوطنية لمناهضة المعاهدة المشئومة ومقاومة ما سمي ب"التطبيع" مع الكيان الصهيوني؟ ألم يكن الإخوان مشغولين في هذا الوقت بضرب القوي الوطنية في الجامعات برضاء وتوجيه من السادات؟ وكانت أولوياتهم حينئذ هي أفغانستان. ماذا تريد السلطة الأمريكية؟ والسؤال هنا ماذا تريد السلطة الأمريكية وحلفاؤها خصوصا الكيان الصهيوني؟ وهل تريد حقا قوي الهيمنة الغربية ديمقراطية فعالة في مصر وباقي الأمة العربية؟ وما هي نوعية الديمقراطية التي تسعي حثيثا إليها؟ إن الاستراتيجية الأمريكية المتبعة ليس فقط في الأمة العربية وحدها بل في أماكن عديدة من العالم بما في ذلك أمريكا نفسها. تعتمد مبدأ "الدمقرطة" وهي تبني وجها ديمقراطيا يخفي هيمنة سياسية واقتصادية علي الشعوب لفترة أطول و بدرجة أعمق وتقلل من احتمالات ثورات شعبية جذرية. هذه السياسات تؤدي حتما لإفقار القطاع الأوسع من الشعب لحساب فئة صغيرة تملك الثروة (واحد في المائة من الأمريكيين يملك أكثر من 15 في المائة من الثروة) والاعتماد علي جهاز أمني كبير للحفاظ علي "الأمن" و"الاستقرار" ولكنه في الواقع حماية "النظام". وفي هذا الصدد يجدر الإشارة بما قالته سٍاندرا داي أوكونرز القاضية بالمحكمة الدستورية العليا الأمريكية وهي من المحافظين سياسيا عندما تركت منصبها "إن أمريكا تتجه حثيثاً نحو الدكتاتورية"، وهذا يشير إلي فراغ الديمقراطية الأمريكية من مضمونها الحقيقي بدرجات متصاعدة. وتستمر السياسة الخارجية العدوانية والحروب الإجرامية من قبل أمريكا وحلفائها حتي أصبح لكل رئيس أمريكي حروبه ( ريجان في جرانادا و بوش في العراق وبنما والصومال وكلينتون في يوغسلافيا وبوش الابن في العراق وأفغانستان وأوباما في ليبيا وكثير منها تحت عباءة التخلص من دكتاتور والمساعدة الإنسانية ومحاربة الإرهاب) ويقاسي شعوب الدول المهيمنة اقتصاديا وبأجسادهم وأرواحهم. أما الدول التابعة فتساهم أحيانا بشكل مباشر وأحيانا بشكل غير مباشر في هذه الحروب التي تؤدي إلي دمار دول صديقة وقتل وتشريد الملايين من البشر عموما وأهالينا علي الخصوص. وهكذا يستمر دوران الدول التابعة في فلك أمريكي/ أوروبي يقصر أو يطول المدار حسب الظروف والقطر التابع. وسائل "الدمقرطة" الأمريكية ما هي وسائل سياسات "الدمقرطة" المكتوبة بشكل وآخر في تقارير المؤسسات الاستراتيجية الأمريكية مثل مجلس العلاقات الخارجية وغيرها؟ تشمل الوسائل إنشاء علاقات وثيقة ومتعددة مع ما سمي بمنظمات"المجتمع المدني" وتمويلها بشكل واسع ( من قبل صندوق الوقف الديمقراطية مثلاً) وبإقامة علاقات مع شرائح مما يسمي بالنخبة مثل رجال الإعلام والطلبة والقضاة والأساتذة بطرق مختلفة منها رحلات "السلام" لأمريكا والدورات التدريبية في مجالات مختلفة. أظن أن القارئ سيتبادر إلي ذهنه أمثلة من هذا النشاط الذي يسعي إلي الإبهار بالنموذج الأمريكي وإيجاد علاقات مستمرة عن طريق الاعتماد علي التمويل وتفتيت جماعة المثقفين ومنع بلورة كتلة حرجة وطنية تساهم في نهضة الوطن واستقلال إرادته. بل وتعمل هذه المؤسسات علي خلق مجموعة تكون بمثابة طابور دعائي للنموذج الأمريكي أو ما سمي بال"مارينز" المصريين. و في أحد التقارير لمجلس العلاقات الخارجية أوصي بتوسيع العلاقات والرحلات لقيادة الجيش المصري الذي يقوم بمناورات مشتركة مع الجيش الأمريكي سميت بمناورات النجم الساطع. وبالتأكيد لن يكون هدف هذا التعاون العسكري هو مواجهة اعتداءات إسرائيل أو حماية حدود مصر بسيناء حيث تتواجد قوات أمريكية تحت غطاء "القوات الدولية". إذاً يجب أن ننسي تماما التصور ( المفرط في درجة حمقه) أن هدف الاستراتيجية الأمريكية تدعيم ديمقراطية شعبية تدافع عن مصالح الشعب أو تسعي لنهضة الأمة. ولكن في نفس الوقت تسعي هذه السياسة عند الضرورة لإزالة حكام مستبدين أصبح بقاؤهم في السلطة عبئا ثقيلا واستمرارهم يمثل خطرا داهما يؤدي إلي ثورات شعبية. إذا يقول صاحب القرار الأمريكي فليذهب المستبد التابع وبعض أو كل أعوانه إلي الجحيم ولنبقي علي النظام وسياساته ولنبدأ في إنشاء مؤسسات ديمقراطية يغلب عليها الطابع النيوليبرالي وليس الليبرالي. فالطابع الليبرالي التقليدي يتسم بملامح وطنية أحياناً. أما الطابع النيوليبرالي فهو مجرد من أي التزام وطني لا في المجال السياسي المتسم بالتبعية ولا في المجال الاقتصادي المرتبط بالمؤسسات الدولية. نعم يجب تواجد مؤسسات ديمقراطية ظاهريا تشمل انتخابات وتنافس أحزاب مختلفة، صحف وقنوات مخصخصة تسمي خطأً "مستقلة"، مجتمع مدني نشيط،، برلمانات،...الخ ولكن تبقي السلطة الحقيقية تابعة للهيمنة الأمريكية ومصالحها المشروعة وغير المشروعة. ولعل القاريء المطلع أو المسن مثلي ممن عاصر عصر الاحتلال البريطاني والذي يسوقه البعض دون خجل كمثال للديمقراطية كيف أن حزب الأغلبية (الوفد) كان بالحكم أقلية زمنية وكيف أن المستعمر البريطاني تلاعب بكافة الأحزاب مبقيا علي هيمنته ومستخدما هذه الأحزاب كغطاء لديمقراطية زائفة. ولكن النموذج الأمريكي لابد وأن يكون أكثر ذكاء حتي يحقق أهدافه فلا بد من غياب قوات عسكرية مع الإبقاء علي قواعد عسكرية يحلو للبعض تسميتها تسهيلات والإبقاء علي مؤسسة الجيش كضامن للسلطة والأفضل أن يكون ذلك من وراء ستار كالنموذج الباكستاني. ويصبح من المقبول بل من المفيد أن يصل الإخوان أو مثلهم للسلطة لأن سلطتهم الفعلية قاصرة ومحدودة. ولا بأس أن تكون هناك أشكال ونماذج مختلفة مع الإبقاء علي المضمون. وإذا دعت الضرورة يصبح الحل العسكري جاهزاً ( مناطق حظر جوي، تدمير منشآت عسكرية ومدنية مثل الكباري ومستودعات الغذاء ..الخ، حصار اقتصادي يقتل مئات الألوف بل والملايين، احتلال عسكري مباشر) مثل حالة العراق وهي "الدمقرطة" في ظل الاحتلال. نظرية المؤامرة سيقول البعض إن هذاالتقييم ينطلق من نظرية المؤامرة و نقول لأصحاب هذا القول لا تبرزوا عدم معرفتكم بهذه الدرجة، كما أن مروجي هذه المقولات هم أنفسهم الذين يتآمرون علي مصالح الشعب. ثم ألم يتآمر نظام مبارك علي مصالح الشعب؟ ألم يتآمر سايكس- بيكو علي الأمة العربية؟ ألم تتآمر فرنسا وبريطانيا والكيان الصهيوني علي مصر عام 1956 في وثائق موقعة بين المتآمرين؟ ألم تتآمر الولاياتالمتحدة ضد مصر بإيران وآليندي في تشيللي والعديد من الأماكن؟ علي أية حال فإن الواقع والتطورات والوثائق والويكي ليكس وغيرها ممن سبقها مثل أوراق البنتاجون أثناء حرب فيتنام تشهد بما نقول. أين حكومة الثورة؟ إن الثورة المضادة نشطة تسعي إلي تحويل الثورة إلي عملية إصلاح هامشي ولكن في المقابل لا بد من الثورة أن تستمر وأن تنجز مهامها وتجاوز بعض أخطائها فكان لا بد وأن ترفض مبدأ الاستفتاء ولجنة التعديلات أصلا، كما أن الثورة لا بد وأن تتبني بوضوح المطالب الشعبية وأبرزها الحد السريع من المعاناة المعيشية الحادة. ولكن قبل كل هذا فالثورة تقضي بتسليم السلطة لحكومة تمثل بحق القوي الثورية التي قدمت العديد من الشهداء وتكون مهمتها تحقيق كافة أهداف الثورة.