وعدت فى المقال السابق أن أكتب عن اللاءات العشر القائمة حالياً فى السياسة المصرية أو التحديات القاتلة التى دون علاجها لا يصلح إصلاح، ولا تعود الثقة ولا ينتهى الانقسام ولا الاستقطاب، كما وعدت أن أكتب عن السيناريوهات المتوقعة فى مصر نتيجة العبثية السياسية والابتعاد عن تحقيق أهداف الثورة، شيئاً فشيئاً. ولكن مرور ذكرى اغتيال أو قتل أو استشهاد الامام حسن البنا فى 12/2/1949 رحمه الله تعالى، فرضت نفسها على المشهد هذا الأسبوع، وفاء لذكرى ذلك المجدد العظيم، وتمحيصاً لبعض الأقوال والافتراءات الداحضة، بشأن مشروعه الاسلامى الوسطى الرائد، وشأن قتله. اتصلت بى منذ أيام قليلة الكاتبة المرموقة هالة العيسوى (من الأخبار) وطلبت استيضاح بعض النقاط التى وردت بمجلة روز اليوسف العدد 4419 بتاريخ السبت 16 فبراير 2013، بشأن اغتياله رحمه الله تعالى. وعدد روزاليوسف هذا فيه ملف كبير من الغلاف حتى النهاية عن هذا الرجل العظيم، الذى قال عنه روبير جاكسون الأمريكى فى مقاله المنشور فى النيويورك كرونيكل فى فبراير 1946، بعد ما زاره فى القاهرة تلك السنة: «رأيت أن أقابل الرجل الذى يتبعه نصف مليون شخص. زرت هذا الأسبوع رجلاً قد يصبح من أبرز الرجال فى التاريخ المعاصر، وقد يختفى اسمه إذا كانت الحوادث أكبر منه، ذلك هو الشيخ حسن البنا زعيم الإخوان» هكذا كتب جاكسون سنة 1946. وبعدما اغتيل حسن البنا كتب روبير جاكسون مقالاً آخر قال فيه: «هذا ما كتبته منذ خمس سنوات، وقد صدقتنى الأحداث فيما ذهبت إليه، فقد ذهب الرجل مبكراً، وكان أمل الشرق فى صراعه مع المستعمر». ثم يعلق روبير جاكسون عن بلادنا الشرقية فيقول: «هكذا الشرق لا يستطيع أن يحتفظ طويلاً بالكنز الذى يقع فى يده». أريد أن يرى القارئ الكريم الفرق، وفى شىء من الموضوعية والانصاف، حتى عند التحليل السياسى أو التناول الاعلامي. صحيح أن أداء الإخوان المسلمين اليوم والحركة الاسلامية عموماً على الساحات المحلية فى العالم العربي، وخصوصاً تلك التى هيمن عليها أو يتدخل فيها الأمريكان، بما فى ذلك دول ثورات الربيع العربي، وكذلك أراؤهم على الساحات العالمية أيضاً، لم يكن الأداء المتوقع فى ضوء المشروع الاسلامى الوسطى الربانى العالمي، الذى يقوم على قيم عديدة من أهمها العدل والشورى والمساواة ووحدة الأمة واحترام إرادة الشعب والتدرج فى التغيير والاهتمام بالدعوة والتربية والتنمية. إلا أن ذلك الأداء السيئ أحيانا والضعيف أحياناً أخرى، والتحالف أو التوافق مع الأمريكان فى ضوء هيمنتهم الواضحة وهم أعداء الأمة بل والانسانية اليوم، لا يلغى التاريخ الناصع للإخوان، ولا يعود سوء أو ضعف أداء الإخوان اليوم، ولا ينبغى أن ينسب السوء إلى مشروع الامام البنا، رحمه الله تعالى رحمة واسعة. فى صدر الملف الخاص عن الامام البنا فى عدد مجلة روزاليوسف المشار إليه، وفى الصفحة العاشرة نقرأ بجوار صورة البنا وسيد قطب استشهاداً فى غير موضعه يقول: «كبيرهم الذى علمهم السحر». ثم تسرد الكاتبة يارا اليمانى حواراً مع الأستاذ خليفة مصطفى عطوه، ووصفته بأنه المتهم الثالث فى عملية اغتيال جمال عبدالناصر الفاشلة. وجاء فى الحوار على لسانه، ما يلي: «لمن لم يعلم هناك ما يسمى بالمجلس الأعلى للارشاد، وهو تنظيم خارجى مكون من أشخاص غير معلومين حتى للاخوان هنا فى مصر، وهؤلاء اختاروا 10 أشخاص فى مصر لتأسيس جماعة الإخوان المسلمين» ولم يقل بهذا أحد من العالمين، وهذا اختراع من اختراعات وخيال الأستاذ عطوة. ويقول الأستاذ خليفة: «فلم يكن من مصلحة الحكومة والملك قتل حسن البنا، لأنهم كانوا قد تمكنوا منه تماماً واشتروه ليعمل لصالحهم». ويتهم السيد/خليفة مصطفى عطوة الإخوان بقتل الامام البنا بعد أن أصدر بيانه المشهور «بيان للناس» وقوله رحمه الله تعالى، عمن قام باغتيال أو تخريب من الإخوان: «ليسوا إخواناً وليسوا مسلمين«. وبعد مقتل الامام البنا يقول الرجل نفسه وكل قيادات الإخوان موجودة واقفة، ولم يقم أحد بنقله للاسعاف المركزى الذى يبعد خطوات، وإدعوا أن مستشفى قصر العينى كان لديه أوامر بعدم إسعافه. ثم يقول ولم يحضر من قياديى الإخوان أو أعضاء الجماعة جنازته. وهذا القول يخالف كل التاريخ المعروف. وما قاله الأستاذ عطوة فى ذات الحوار من أن قيادات الإخوان كانت قد وضعت فى السجون والمعتقلات إلا الامام البنا، إنما يدل على التناقض الواضح إذ قال الأستاذ خليفة بالنص: بعد أن أعلن الملك حل الجماعة وبعد أقل من عشر دقائق خرج الإخوان من المقر العام فوجدوا أن المكان قد تم حصاره من جميع الجهات من قبل الحرس الحديدى للملك فاروق وأنهم وقعوا فى الفخ وتم القبض عليهم جميعاً ما عدا حسن البنا المرشد العام ومؤسس الجماعة. أما عن عمل خليفة مصطفى مع عبدالناصر رحمه الله تعالى فيقول: ثم جاءت عربة جيب عسكرية إلى منزلنا وركبت أنا وحافظ، ولم نكن نعرف إلى أين نحن ذاهبون، ففوجئنا بذهابها إلى مقر رئاسة الجمهورية، وقابلنا عبدالناصر وسألنا: ناجحين وبتقدير جيد!! ناويين تشتغلوا فين؟ فرد حافظ: إحنا مش عارفين لأن مستقبلنا انتهى. مفيش مؤسسة هتقبل بينا واحنا رد سجون. فطلب «عبدالناصر» بالتليفون على صبرى وقال: العيال دى بلدياتك. فرد صبرى وقال للأسف ياريس... فقال له عبدالناصر: خدهم شغلهم معاك. وفعلاً عملنا فى جهاز توثيق وتنقية المعلومات لمجلس الوزراء التابع لرئاسة الجمهورية، ثم فى مكتب السكرتارية الشخصى له لمدة 16 عاماً حتى وفاته. وهذا الاعتراف الواضح يوضح بما لا يدع مجالاً للشك من هو الأستاذ عطوة. وفى نفس المجلة وفى صفحة 34 قرأت للكاتبة مديحة عزت، وهى تتذكر أيام حسن البنا وسيد قطب، عندما كانت طالبة فى المدرسة الثانوية، قالت عن سيد قطب: إنه كان يكتب فى روزاليوسف، وكان إنساناً طيب الخلق وشريف المعاملة. وكنا نحب جداً سماع سيد قطب وحكايته عن حسن البنا وقصة حياته ونهايته الأليمة بالقتل». وتقول: وعندما سألناه عن الإخوان المسلمين والأقباط قال: كان عليه رحمه الله شاعراً وأديباً وكاتباً فى شئون مصر سياسياَ قبل دينياً، وكان يقول لنا قول سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم «ستفتح عليكم بعدى مصر فاستوصوا بقبطها خيراً فإن لهم نسباً وصهرا». ثم تقول السيدة مديحة عزت:"كان لنا نحن الشباب نعم الأب والأخ. على فكرة لم يطلب منا الحجاب، ولا كان ينظر لأشكالنا ولكن لقلوبنا وأعمالنا. وعلى فكرة كانت ندواته تجمع بين البنت والولد والمرأة والرجل، ولم أذكر أننا كنا نرى بين النساء محجبات ولا بين الرجال ذقونا أو لحية، ولا أعرف عنه شيئاً بعد تغير كتاباته للعنف». ثم تقول: «من آخر ما كتبه سيد قطب ومن أشعاره الكثيرة التى كان يكتبها فى كل مناسبة. وهذه القصيدة كتبها ليلة إعدامه. قال سيد قطب لوالده: أبتاه ماذا قد يخط بنانى والحبل والجلاد ينتظراني لم تبق إلا ليلة أحيا بها وأحس أن ظلامها أكفاني ستمر يا أبتاه لست أشك فى هذا وتحمل بعدها جثماني الليل من حولى هدوء قاتل والذكريات تمر فى وجداني طبعاً هذا الشعر، كما يعرف الأدباء والشعراء ليس من شعر سيد قطب، ولكنه من شعر المرحوم هاشم الرافعي، ولعل الكاتبة مديحة عزت تستدرك ذلك مستقبلاً فى كتاباتها الجميلة المنصفة. من الجميل أن نرى كاتباً من الأمريكان ينصف الامام البنا ويقول عنه على سبيل المثال لا الحصر: «لفت نظرى إلى هذا الرجل سمته البسيطة، ومظهره العادي، وثقته التى لا حد لها بنفسه، وإيمانه العجيب بفكرته». ويقول جاكسون: «وعلى الرغم من أننى كنت أسمع فى القاهرة أن الرجل لم يعمل شيئاً حتى الآن، وأنه لم يزد على جمع مجموعات ضخمة من الشباب حوله، غير أن معركة فلسطين، ومعركة التحرير الأخيرة فى القناة، قد أثبتتا بوضوح أن الرجل صنع بطولات خارقة، قل أن تجد لها مثيلاً إلا فى تاريخ العهد الأول للدعوة الإسلامية». ويقول جاكسون: «كل ما أستطيع أن أقوله هنا: إن الرجل أفلت من غوائل المرأة والمال والجاه، وهى المغريات الثلاث التى سلطها المستعمر على المجاهدين، وقد فشلت كل المحاولات التى بذلت فى سبيل إغرائه». ويقول جاكسون: «وكان الرجل عجيباً فى معاملة خصومه وأنصاره على السواء، كان لا يهاجم خصومه ولا يصارعهم بقدر ما يحاول إقناعهم وكسبهم إلى صفه، وكان يرى أن الصراع بين هيئتين لا يأتى بالنتائج المرجوة. وكان يؤمن بالخصومة الفكرية، ولا يحولها إلى خصومة شخصية، ولكنه مع ذلك لم يسلم من إيذاء معاصريه ومنافسيه، فقد أعلنت عليه الأحزاب حرباً عنيفاً». ويقول جاكسون: «ومن الأمور التى لفتت نظرى أنه أخذ من عمر خصلة من أبرز خصاله، تلك هى إبعاد الأهل عن مغانم الدعوة، فقد ظل عبدالرحمن ومحمد، وعبدالباسط-وهم إخوته - بعيدين عن كبريات المناصب، ولطالما كان يحاسبهم كما كان عمر يحاسب أهله، ويضاعف لهم العقوبة إذا قصروا». ثم يقول عن الامام البنا كذلك: «وهو واسع الأفق إلى أبعد حد، يفتح النوافذ للهواء الطلق، فلا يكره حرية الرأى ولا يضيق بالرأى المعارض، وقد استطاع أن يحمل الرأى الجديد إلى الجماهير دون أن يصطدم بهم. هذا الجديد الذى لو عرض بغير لباقة لوقفوا ضده وحاربوه. لقد نقلهم من وراثياتهم، وغير فهمهم للدين، وحول اتجاههم فى الحياة، وأعطاهم الهدف، وملأ صدورهم بالأمل فى الحرية والقوة». ثم يقول عن الامام أيضاً: «كان فيه من الساسة دهاؤهم، ومن القادة قوتهم، ومن العلماء حججهم، ومن الصوفية إيمانهم ومن الرياضيين حماسهم، ومن الفلاسفة مقاييسهم، ومن الخطباء لباقتهم، ومن الكتاب رصانتهم». وهناك آخرون من المفكرين والكتاب ومن المؤرخين المصريين أو الكارهين لمشروع الامام البنا فى مصر والعالم العربى ومثلهم فى الغرب أيضاً وممن يزعمون البحث والتحليل، منهم من يكتب دون إنصاف أو موضوعية، ومنهم من يخترع بعض التاريخ، كما أن هناك ممن ينتمون إلى مشروع الامام البنا من لم يفهموه كما فهمه روبير جاكسون، فأساءوا إليه كثيراً، وخصوصاً فيما يتعلق بالأداء السياسى والسلوك الأخلاقى. والله الموفق نشر بتاريخ 25/2/2013 العدد 637