أنا من المؤمنين - طبعًا - بأن «السلمية» هى معيار التفوق الأخلاقى للثورة المصرية، وللثورات العربية المعاصرة عمومًا، وأن الخروج عن السلمية يضر أكثر مما ينفع، ويسىء إلى قضية الثورة العادلة، ويحولها إلى قضية متنازع فيها، ويحجز الجموع الواسعة من الناس عن المشاركة فى مظاهرات الثورة ومليونياتها المتصلة. وأنا لا أعرف أحدًا من شباب «البلاك بلوك»، وإن كنت أقرأ ما يكتب وأسمع ما يقال عنهم، سواء فى تجارب مظاهرات أوروبية، أو فى مصر خلال الموجة الراهنة للثورة المغدورة، ولا تبدو الحالة فى مصر على تطابق مع سوابقها الأوروبية، وإن أخذت عنها الاسم والرسم، وبعض الأزياء والأقنعة، لأن الحالة المصرية تبدو جدا مختلفة، وبنت معاناة حقيقية لأجيال طالعة من الشباب، تنفر من السلمية الباردة التى يدعو لها أمثالنا، وتحمل كراهية مفهومة لرمزية القمع النظامى، وبما يجعلها تقول «خالتى سلمية ماتت»، ولكن دون التحول إلى منظمة إرهابية بالمعنى المحدد، وعلى النحو الذى تروج له الجماعة الإخوانية الحاكمة افتراضيًا، ويصوره النائب العام الذى هو «نائب خاص» للإخوان بدلالة قرار تعيينه غير القانونى، ودعواه أن «البلاك بلوك» جماعة مهدورة الدم والحقوق الإنسانية، وأن ارتداء زيها فى ذاته جريمة إرهابية، وأن سواد المواطنين مدعوون لمطاردة سواد «البلاك بلوك» فى كل مكان، وقبل أن يعود النائب العام - نفسه - ليتحفظ قليلاً، ويضيف - فى لفتة قانونية هذه المرة - أنه لا يجوز ضبط أحد أو اعتقاله إلا فى أحوال التلبس بجريمة. وبرغم عودة النائب العام - المعين إخوانيًا - إلى بعض التحفظ والرصانة، فقد تصاعدت الحملة السياسية والأمنية والإعلامية ضد شباب «البلاك بلوك» إلى درجة جنونية، وقيل إن أجهزة الأمن ضبطت شابا منشقا عن «البلاك بلوك»، وبحوزته خرائط ومخططات إسرائيلية لحرق وتفجير مواقع حيوية بينها منشآت بترولية، وسرعان ما انكشفت الفضيحة، وأثبت التحقيق مع الشاب - إياه - خبل القصة المفبركة، وتبين أن الشاب المضبوط مجرد شخص مهتز نفسيًا، وأنه حاول الانتحار من قبل لصعوبة ظروف المعيشة، وأنه لا مخطط إسرائيلى ولا يحزنون، وأن المضبوطات مقالات وتدوينات متاحة للجميع على شبكة الإنترنت، ثم إن الشاب - أصلا- لا يعرف أحداً من «البلاك بلوك»، وكل ما هنالك أنه ضبط بالقرب من ميدان التحرير، ضبطه حارس عقار أثناء محاولته سرقة شقة، وحاول التملص من الورطة بادعاء الانشقاق عن جماعة «البلاك بلوك»، وبتقديم شخبطات على ورق أبيض ادعى أنها خطة جهنمية(!)، فالجنون فنون كما تعرف، وإن كان جنون الشاب المخبول مما يلتمس له العذر بظروفه، لكن خبله بدا أقل ضررًا من قادة الحملة الملوثة ضدّ شباب «البلاك بلوك». ولا تبدو جماعة «البلاك بلوك» مسلحة من أصله، لا بالسلاح النارى ولا بالسلاح الأبيض، وهو ما ستثبته تحقيقات النيابة على الأرجح، وأغلب الروايات المتداولة - بما فيها مواقع «الفيس بوك» متفلتة الضوابط - لا تصف «البلوك» بأنها جماعة مسلحة، فالقناع الأسود ليس سلاحا بل مجرد زى مميز، ومما يدخل فى باب الحريات الشخصية المسلم بها، ثم إن السلاح «الخطير» الذى يحملونه ليس أكثر من عصا بيسبول، وقد يحمل بعضهم «نبلة» ليرمى بها الحجارة، أو عود كبريت يشعل به زجاجة مولوتوف أو إطار من الكاوتشوك، وكلها وسائل قد تودى لإيذاء الأبدان أو إيذاء الطرق، لكنها ليست أسلحة قتل بالتأكيد، ولا يصح خلطها مع مظاهر بلطجة مسلحة تمتلئ بها مصر وشوارعها، وتعتدى على أرزاق الناس، أو تقتل نفوسهم، أو تدمر المنشآت العامة والخاصة، وإلى غيرها من ملامح عنف دموى، لم يثبت بعد أن أحدا من شباب «البلاك بلوك» اقترف إحدى هذه الجرائم، أو شارك فيها على نحو ما تدعى أبواق السلطة المهترئة، أو تروجه وسائل إعلامها الكذوب، وأجهزة أمنها المتورطة للآذان فى جرائم الدم، فقد وضع شباب «البلاك بلوك» - كما يقولون - لحركتهم هدفًا وحيدًا، وهو حماية المتظاهرين، والزود عن حقوقهم فى التعبير السلمى، وفى بلاد الدنيا الديمقراطية كلها، تقوم المظاهرات السلمية، وقد تنتهى دون صدام، أو تداخلها حوادث شغب مع الشرطة، خاصة حين تلجأ قوات الأمن إلى عنف واسع، فتطلق قنابل الغاز المسيل للدموع، أو تستخدم الهراوات والعصى المكهربة، أو حين تلجأ إلى السلاح النارى أو الخرطوش كما يحدث فى مصر، ويسقط المئات جرحى وصرعى، مصابين باختناقات الغاز، أو جرحى بالخرطوش، أو قتلى بالدهس أو بالرصاص، أو تفقأ عيونهم، وهو ما حدث فى مصر بصور مفزعة، راح ضحيتها المئات من الشبان والشابات، وفى مظاهرات سلمية، حولها القمع الرسمى إلى مواسم عنف دموى، وهو ما يعطى مبدأ حماية المتظاهرين - الذى تتحدث عنه «البلاك بلوك»- معنى واقعيًا ملموسًا ومفهومًا، فهو - على ما نعتقد - مبدأ دفاعى محض، ولا يعنى مبادلة العنف بعنف مثله، وبقدر ما يعنى الحد من خسائر المتظاهرين فى مواجهة وحشية قوات الأمن، وفى مواجهة جماعات بلطجة ترتدى الزى المدنى، وتعمل إلى جوار قوات الأمن، قد يكون بعضها من «المواطنين الشرفاء» على حد التعبير الأمنى الذائع سيئ الصيت، أو من عناصر الجماعة الحاكمة وميليشياتها، وعلى نحو ما شهدنا وثائقه المصورة فى المواجهات الشهيرة أمام قصر الاتحادية، والتى ظهرت فيها ميليشيات بالزى المدنى، تعتقل الناس، وتستجوبهم، وتقيم لهم غرف التعذيب فى الشارع، أو ترشد إلى قتلهم، وكما جرى مع الصحفى وقيادى «كفاية» الشهيد «الحسينى أبوضيف»(!). جماعة «البلاك بلوك» ولدت - إذن - كرد فعل على جرائم دم، ولم تولد كميل غريزى إلى العنف، ولا تبدو جماعة «البلاك بلوك» تنظيما بهياكل أو بتمويلات، بل تبدو أقرب إلى ميل يتنامى فى أوساط جيل أصغر من شباب الثورة، جيل البراءة الأولى، والذى اقتحمت عينه مشاهد الدم الأحمر، ذهب إلى ميادين الثورة بأحلام البراءة البيضاء، ذهب إلى مباراة تصورها سلمية تمامًا، وفوجئ بسيل الدم يجرى من حوله أنهارًا، وبرفاق العمر البرىء يسقطون شهداء فى لحظة، أو تنخلع عيونهم فى غمضة، أو يصابون بالعاهات المستديمة، ودون أن يتحقق شىء مما وعدوا به، فلا الثورة انتصرت، ولا القصاص جرى للشهداء، بل يجرى القصاص من الشهداء، والقصاص من الثورة نفسها، وتبرئة القتلة وإدانة الثورة، وكلما ذهبت قافلة من الشهداء تبعتها قوافل، قرابة الألف شاب استشهدوا فى موجة الثورة الأولى، وقرابة الخمسمائة شاب استشهدوا فى موجات الثورة اللاحقة، ناهيك عن آلاف فقدوا نور عيونهم، أو حجزتهم العاهات المستديمة عن طلاقة الحركة، وكل ذلك جرى ويجرى دون أن يعاقب قاتل واحد، وهو ما يعنى أن الثورة انتهت - مؤقتًا - إلى حكم الغابة، ينجو فيها الكبار بجرائمهم، ويسقط الشباب فى دمائهم، وما من سميع ولا مجيب، ولك أن تتخيل شابا فى العشرين أو ما حولها، شاب فى عمر الورد، ذهب مع رفيقه إلى مظاهرات تصورها سلمية، ثم فوجئ بالعنف القاتل، وسقط رفيقه إلى جواره مضرجًا فى دمه، ويعود إلى بيته كسيفًا حزينًا، وقد تحول رفيقه إلى ذكرى، أو إلى مجرد صورة معلقة على حائط، أو ساكنة فى محفظة جيب صغيرة، لك أن تتخيل شابا فى العشرين أو ما حولها يسقط هكذا فى آبار الأحزان، وكل شباب «البلاك بلوك» - على ما يبدو - فى هذه السن الصغيرة أو حولها، وقد جرى لهم ما جرى، وتحول رفاقهم إلى صور فى محفظة جيب، ودون عزاء بقصاص أو بانتصار الثورة، وبنفوس مرهفة لا تحتمل الصبر على العذاب، ولا تفهم فى ملاوعات السياسة، ولا تنتظر مدد التاريخ، وفى أجواء حداد متصل على الشهداء والثورة وسيرتها، إنهم شباب «البلاك بلوك» أو الكتلة السوداء بالعربى الفصيح، فقدوا الأمل فى «سلميتنا» نحن الذين لم نقتل كرفاقهم، وارتدوا السواد طلبًا للتخفى بأحزانهم، وطلبًا للثأر من قتلة الرفاق، وبما ملكت الأيدى من حجارة «ونبال» و«مولوتوف»، وعلى طريقة الهتاف الشبابى الشهير بالعامية المصرية «يا نجيب حقهم.. يا نموت زيهم». [email protected] نشر بتاريخ 4/2/2013 العدد 634