الإنسان يولد وبداخله عداء للزمن يخشي مرور السنوات وانتهاء الرصيد وفقدان وهج الحياة ولهذا كان من الممكن أن يقدم الفيلم مثلاً قصص الحب التقليدية عودة للماضي في بداية الأحداث ثم نرجع في النهاية لنقطة البدء وتستغرقنا الحكاية بعد ذلك.. أما هذه المرة فإن مخرج وكاتب الفيلم "جيمس كاميرون" وضع يده علي مفتاح مختلف في النفس البشرية وهو الخوف من الزمن ومحاولة الإمساك بلحظة السعادة وهي محاولات مستحيلة ولهذا فإنه عندما يقترب بلقطة مقربة جداً لعين البطلة الشابة الحسناء "كيت وينسلت" ويمزج إلي نفس العين ومع تراجع الكاميرا لنري تجاعيد الوجه "لجلوريا ستيوارت" هذه اللقطة ليست مجرد إبداع سينمائي يظهر التناقض في الصورة ولكنه يحيلنا جميعاً إلي طرف مشارك يوقظ صراع الزمن بداخلنا ويظل دائماً ينتقل عبر الزمان ليذكرنا ببصمات الزمن ليست الملامح فقط ولكنها أيضاً الأشياء دائماً نشاهد جزءاً من بقايا السفينة الغارقة لينتقل إلي نفس الجزء وهو يروي الحكاية.. ينتقل من نهاية هذا القرن إلي زمن أحداث الفيلم 1912 إن بصمات الزمن علي الجماد تذكرنا بالزمن الذي يهرب من بين أيدينا في الحياة. الفيلم يقدم صراع المال والبقاء والطبقية والاستحواذ إلا أنك تكتشف من خلال نظرات المرأة العجوز أن كل شيء يتضاءل ولا يتبقي بعد رحيل العمر إلا تلك الأيام القليلة التي تعيشها في الحب الصادق. عين المخرج تريد أن تقدم هذا العمق الإنساني في رؤية سينمائية خالصة.. لقد شاهدنا في السنوات الأخيرة أفلاماً ضخمة علي مستوي الصورة إنها السينما الخالصة وهي الموضوعات التي يمكن أن تشاهدها بكل تقنيات السينما الحديثة ولهذا انتشرت أفلام البراكين والزلازل والهجوم.. عاشت السينما في القرن القادم وارتدت لأزمان سحيقة في التاريخ وحققت انجازات في الوصول إلي الهدف المنشود منذ أكثر من مائة عام - عمر السينما- وهو الوصول بهذا الفن إلي شاطئ السينما الخالصة.. إلا أن كل هذه الأفلام كان ينقصها شيء وهو الحضور الإنساني الطاغي وهذا هو ما أمسك به "جيمس كاميرون" فهو يقدم السينما الخالصة الممزوجة بتحليل النفس الإنسانية. دائماً هناك علي مستوي الصياغة السينمائية إثارة سؤال هامس بمعلومة هادئة ثم استثمارها فنياً.. لا يوجد في الفيلم معلومة مجانية وليس هناك حوار لمجرد إثارة الجمهور للمتابعة.. إن البصقة التي يعلمها بطل الفيلم "ليوناردو دي كابريو" لبطلة الفيلم "كيت وينسلت" في بداية الأحداث نجدها قبل النهاية تتحول إلي فعل درامي لا بديل عنه عندما توجهها إلي خطيبها في الفيلم "بيلي زين".. كل شيء محسوب بدقة ولكنه مقدم بهمس فني.. في البداية نتعرف علي هذه الفتاة التي لديها اهتمام فني ونتعرف علي اسم "بيكاسو" الذي كان في مطلع القرن مجرد فنان شاب ويستغل المخرج هذه المعلومة ولا ينسي استثمارها ولهذا ليس من قبيل المصادفة أن أول لقطة لها بعد أن أصبحت سيدة عجوزاً نشاهدها وهي تصنع آنية من الفخار فهي تحتفظ بمكونات شخصية متذوق الفن ثم إن هذه المعلومة نفسها تجعل اللقاء يمتد بها مع بطل الفيلم "ليوناردو دي كابريو" في بداية الفيلم عندما نتعرف عليه كفنان تشكيلي صعلوك.. إن الوثائق الرسمية طبقاً لأحداث الفيلم لم تذكر شيئاً عنه ولكنها عندما تسأل عن اسمها تقول "مسز داوسون" - اسمه في الفيلم - فهو الرجل الوحيد الذي تريد أن تحمل اسمه.. كثيرة هي المعلومات الهامسة التي يقدمها مثل الصفارة التي يستخدمها أحد الغرقي طلباً للنجاة وبعد ذلك في اللحظة المناسبة عندما تأتي قوارب النجاة لا تنقذها إلا هذه الصفارة التي تنتزعها من فم الرجل بعد أن تجمد ومات.. نعلم مسبقاً أن قوارب النجاة تتسع لأكثر من نصف الركاب حتي عندما تقع الكارثة ندرك أبعادها. لجأ المخرج وكاتب السيناريو دائماً إلي أسلوب التناقض سواء في الشخصيات أو المواقف الدرامية أو الرؤية السمعية والبصرية. الفتاة الغنية تتناقض في سلوكها مع الشاب الصعلوك تناقضاً ظاهرياً بين البطل والبطلة تناقضاً بين ركاب الباخرة الطبقة الأرستقراطية التي تعيش في جناح تنتمي إليه البطلة وبين البطل الذي يعيش في غرفة ضيقة.. كان مفتاح وقانون الفيلم الإمساك دائماً بكل مساحة ممكنة من هذا التناقض مثل قارب نجاة يسع 70 شخصاً ولكن به فقط 12 شخصاً بينما يشرف الآخرون علي الغرق لأنهم لم يجدوا مكاناً في قوارب النجاة.. مشهد "ليوناردو دي كابريو" مع "كيت وينسلت" في حفل عشاء يقام بالدرجة الأولي ثم الانتقال مباشرة إلي حفل يقيمه الصعاليك من الدرجة الثالثة والقطع المتوازي بينهما كل ذلك يدعم قانون التناقض خاصة عندما تري "كيت وينسلت" وهي تندمج في طقوس هؤلاء الصعاليك.. إن عمق هذه المشاهد ينبع من فرط بساطتها الانتقال الصاخب يتحول إلي انتقال ناعم وهادئ.. إن "جيمس كاميرون" يفكر دائماً بعيون المشاهدين فهو يثير النهم عندما نستمع إلي موسيقي كلاسيكية مع طبقة الأرستقراط في الدرجة الأولي ينقلنا بعد ذلك إلي موسيقي شعبية مع الدرجة الثالثة.. الصوت مثل الصورة نفس القانون الأثرياء الذين تهيأت لهم كل أسباب النجاة والفقراء الذين تنتزع منهم كل هذه الأسباب!! كيف يواجه الناس الموت؟ سؤال أثاره "جيمس كاميرون" وأجاب عنه بعدة تنويعات.. الأنانية في الرغبة في البقاء تجعل البعض ينسي حتي أقرب الناس إليه ولهذا فإن قارب الأرستقراط وكان به متسع لآخرين لا يعود لإنقاذ بعض الأزواج الرجال الأحياء امرأة واحدة فقط تعارض بينما الأخريات لا يفكرن في الأزواج أو الأبناء!!تنويعات أخري مثل الأم التي تحكي لطفليها عن الحياة الأبدية قبل لحظات من الرحيل وهم مغمضو العينين علي السرير في الباخرة والزوجان الطاعنان في السن وهما يحتضنان بعضهما في انتظار اللحظة الأخيرة.. كابتن الباخرة الذي يعود لمقر القيادة ليغرق هناك.. مهندس الباخرة الذي يحتضن الساعة.. التراتيل الكنسية التي يرددها عدد من الركاب. كل هؤلاء واجهوا الموت أما البطل والبطلة فلقد واجها الحب ولهذا فإنهما في بداية الفيلم - عودة مرة أخري لقانون التناقض- عندما أمسك "ليوناردو" بيد "كيت" لينقذها قبل أن تغرق بعد أن قال لها "لو ألقيت بنفسك في المحيط سوف ألقي بنفسي بعدك" ثم قبل النهاية ومن نفس الموقع يمسك يدها وتقول له "أثق بك" وينزلان إلي عمق المحيط ليس من أجل الحياة ولكن الصراع من أجل الحب ولهذا فإنه ينقذها من أجل هذا الحب ويطلب منها أن تعيش بعده من أجل هذا الحب وتصل إلي ما بعد المائة من أجل هذا الحب!! مشاهد عديدة قدمت بحرفية سينمائية بارعة.. أتوقف أمام اللقاء الجنسي بين "ليوناردو" و "كيت" في العربة داخل مخزن الباخرة.. بداية اللقاء يبدو التردد عند "ليوناردو" حتي تطلب منه "كيت" أن يمسكها تنتقل الكاميرا إلي سطح الباخرة في مشهد آخر ينبئ باقتراب الاصطدام بجبل من الثلج.. عودة إلي العربة ونلمح علي الزجاج يد "كيت" وهي تهبط تدريجياً ثم الانتقال إلي داخل العربة وقد تصبب العرق منهما.. مجموعة من اللقطات تقول كل شيء بوضوح وشاعرية بدون أن تري لقطة عارية!! ذروة من ذري هذا الفيلم عندما تصعد البطلة العجوز "جلوريا ستيوارت" إلي درابزين السفينة التي يستغلها عالم البحار والمكتشفون في كشفهم عن ماسة "قلب المحيط" في نفس التكوين التشكيلي للقائهما الأول ثم تلقي بالماسة التي لا تقدر بمال إلي قلب المحيط.. إن فريق المستكشفين الذي أعاد لنا حكاية الباخرة "تايتنيك" لم يكن يعنيه إلا العثور علي هذه الماسة والتي تعود إلي "لويس السادس عشر" ولكننا مثل بطلة الفيلم لا تهيمن علينا إلا حكاية الحب التي لم تدم أكثر من أربعة أيام ونصف اليوم ولهذا قذفنا معها بالماسة إلي قلب المحيط وعاشت فينا قصة الحب التي لا تغرق ولا تموت!! هذا هو الفيلم الذي يجمع بين الجمال والجلال.. إننا لا نشاهد فيلم "تايتنيك" الفيلم هو الذي يشاهدنا سواء تعاملت معه مسطحاً أو مجسما سيظل للفيلم كل الجمال والجلال!! نشر فى العدد 596 بتاريخ 12 مايو 2012