العنيد خمس دقائق حوار كانت كافية لفهم شخصية الأستاذ عصام إسماعيل فهمى. لم أكن أعرف الرجل إلى أن التقيته ذات صباح أوائل يونيو 2008، وإن كنت أعرف عنه وقتها بالطبع، فقد كان صيته كالطبل، وشهرته مدوية كصانع صحف ناجحة مؤثرة، ومنذ أصدر جريدة «الدستور» الأولى، والتى كانت حديث المدينة بجرأتها وابتكاراتها الصحفية اللامعة، وإلى أن جرى إغلاقها بتواطؤ سلطة مبارك مع رجال أعمال نافذين، ثم إعادة إصدارها ثانية بعد سنوات، وبكفاح قضائى مثابر طويل المدى، وكان الأستاذ عصام قد تحول قبلها وبعدها من ناشر مخاطر إلى مؤسسة صحفية كاملة، كانت قد آلت إليه جريدة «صوت الأمة» بميراثها الوفدى القديم، وأصدر إلى جوارها بناتها: جريدة «صوت الأمة الرياضى» التى توقفت فيما بعد، و«الحلوة» التى لم تعش طويلا، و«عين» المتألقة إلى الآن. وقد كان استدعائى الأول لرئاسة تحرير «صوت الأمة» مخاطرة عظيمة للأستاذ عصام إسماعيل فهمى، فقد كنت وقتها فى وضع «الصحفى المحظور»، والمطارد بضراوة من بيت رئاسة مبارك ومباحث أمن دولته الفاسدة، وكانت سوابقى معروفة، فى رئاسة تحرير جريدة «العربى» المؤسسة لصحافة نقد الرئيس، وفى جريدة «الكرامة» التى طوردت فيها، وبدوت فى صورة العدو رقم واحد لحكم مبارك وعائلته، لكن شجاعة الراحل عصام إسماعيل فهمى كانت أكبر مما تخيلت، فقد اتخذ الرجل قراره، وصمم عليه، وعاند فيه، ولم يلق بالاً لتحذيرات خطرة وصلته، بينها تحذير ملياردير كان مقربا من عائلة مبارك، اتصل بالأستاذ عصام معاتبا غاضبا، واتهم قراره بالجنون، وصارحنى الرجل على فنجان قهوة، ودون أن يطلب منى وقف أو تخفيف الهجوم على مبارك، ولم يلن إصراره، حتى مع تحذير لاحق وصله من مسئول أمنى كبير وقتها، كانت الأبدان ترتعش لمجرد ذكر اسمه، واستمرت تجربتى الأولى فى «صوت الأمة» لتسعة شهور عاصفة، هوت فيها المطارق على رأس الأستاذ عصام إسماعيل فهمى، ولفقوا له قضية ضرائب تافهة، واستعجلوا حكماً قضائياً صادماً بسجنه لثلاث سنوات وتغريمه 12 مليون جنيه مرة واحدة، وبعدها جرى إلغاء الحكم بالجملة، وفى سياق من الضغط المتواصل العنيف بتكرار مصادرات «صوت الأمة»، وتعطيل طباعتها، وإلى أن انتهت القصة بتركى لرئاسة تحرير «صوت الأمة» فى مارس 2009، ومنعى من العمل أو الكتابة فى أى صحيفة مصرية. كانت شجاعة عصام إسماعيل فهمى فوق ما تصورت وقدرت، وكان عناده يفوق خيالى، وكان احتضانه للأصوات والمواهب المتمردة بعض فضله الذى لا ينسى، وفتح طاقة نور هائل يحرق الظلام، ويخترق جدران التعتيم، وساهمت صحافته بصورة بالغة التأثير فى التمهيد لثورة 25 يناير 2011، ولم تكد تمر أسابيع على الثورة وخلع مبارك، حتى استدعانى الرجل ثانية لرئاسة تحرير «صوت الأمة»، وبعد عامين بالضبط على تركى لها، وقد سبقنى إلى رئاسة تحرير «صوت الأمة» زملاء مشهود لهم بالموهبة وحس التمرد، وكانت مصادفة ذات مغزى، أن اجتمع اسمى مع الأساتذة الكبار عادل حمودة وإبراهيم عيسى ووائل الإبراشى فى قرار اتهام واحد، وفى القضية المشهورة باسم «رؤساء التحرير الأربعة»، وكان الأستاذ حمودة متهما فيها بإهانة أحمد نظيف رئيس وزراء مبارك الأخير، و الأستاذ الإبراشى متهما بإهانة حبيب العادلى وزير داخليته، و الأستاذ عيسى متهما بإهانة جمال مبارك، وكنت متهما بإهانة مبارك نفسه، كانت المصادفة بليغة، وجمعها قاسم مشترك أعظم، هو أن الأربعة عملوا مع الأستاذ عصام إسماعيل فهمى، والذى لم يدع الثورية يوما، ولا كان أيديولوجيا منغلقا، بل كان ليبراليا متفتحا بنفس وفدى أصيل، وكان دوره الجليل ثوريا بحق، فقد حمل مفاتيح الحرية، ولعبت صحفه دور كتائب الاقتحام، والتمهيد النيرانى لدك معاقل الظلم، ولم يتصرف الرجل يوما كصاحب أو مالك جريدة وجرائد، بل كناشر جرىء فاهم محترف، يترك الفرصة كاملة لمن يختارهم، ولا يتدخل فى سياستهم التحريرية، ويتحمل عنهم الضغوط والمصائب والمغارم. كان الأستاذ عصام إسماعيل فهمى رجلا باسلا بمعنى الكلمة، صريحا هادراً فى كل الأوقات، وفياضا بالحيوية حتى فى وقت معاناته الصحية القاسية، وكان مثالا للعناد الإنسانى وقوة التحمل، ولم تهزمه المعارك، ولا المناقشات المرهقة، ولا هزمه المرض الأخير، وكانت ابتسامة الرضا هى آخر عهده بالحياة الدنيا، فقد عاد إلى ربه راضيا مرضيا، وترك أسرة تحمل جيناته، تشرف بسيرته الناجحة المتألقة، ونثق بأنها ستواصل طريقه، وتجعل «صوت الأمة» عنوانا منيرا للأمة كلها.