وسط عشرات القتلى ومئات الجرحى وآلاف المعتقلين على ذمة المحاولة الانقلابية الأخيرة في تركيا؛ يستمر الصراع الكبير بين تيارين يعبر كل منهما عن أفكار مختلفة، فيما يتجلى السؤال الكبير حول مستقبل الديمقراطية في هذا البلد. وإذ طالب الرئيس التركي رجب طيب اردوغان الولاياتالمتحدة بتسليم المفكر فتح الله جولن مصرا على اتهامه بالتورط في المحاولة الانقلابية الأخيرة، فإن هذه المحاولة الانقلابية تظهر مدى خطورة وحدة الصراع العقائدي وصدام الأفكار بين "تيار في الإسلام السياسي ينتمي له اردوغان وتيار في الإسلام الصوفي ينتمي له جولن"، وهو صاحب عشرات الكتب حول التصوف ونظرته لقضايا الحوار بين الأديان. و"حركة الخدمة" التي أسسها فتح الله جولن والتي تدير عشرات المؤسسات الخيرية والتعليمية والإعلامية والدعوية والمصرفية داخل تركيا وخارجها، لا تتفق مع مشروع أردوغان لتدشين "العثمانية الجديدة"، كما أنها بنزعتها الصوفية التسامحية التي قد تعود إلى أفكار القطب الصوفي جلال الدين الرومي لا تقبل "النزعة العنفية الأردوغانية والتحالف مع جماعات العنف تحت شعارات الإسلام السياسي". وفيما تعلي "حركة الخدمة" من اعتبارات الوطنية التركية في مواجهة طروحات الأممية العقائدية الأردوغانية"، يطعن عبد الله جولن في صدقية دعاوى الديمقراطية من جانب حزب العدالة والتنمية الحاكم، معتبرا أن هذا الحزب يكرس في الواقع لحكم الفرد كما يجسده رجب طيب اردوغان فيما تتحول "دولة القانون لمجرد سراب في بلد يعاني من إشكاليات تتعلق بالهوية". وفي المقابل يصف نظام اردوغان حركة فتح الله جولن "بالكيان الموازي" واتهم هذا الكيان بمحاولة التغلغل في المؤسستين العسكرية والقضائية وقد أمعن هذا النظام في العداء للحركة ذات الفكر الصوفي لحد اعتبارها "حركة ارهابية". ويبدو أن اتهامات نظام اردوغان للحليف السابق فتح الله جولن الذي يقيم منذ سنوات في بنسلفانيا بالولاياتالمتحدة بالتآمر والتورط في المحاولة الانقلابية الأخيرة تعكس "ذهنية قوامها الدسائس والمكائد وتفكير نظام يثير حالة من الغموض وعدم الاستقرار". ووسط اتفاق عام بين الخبراء والمحللين على أن المحاولة الانقلابية "افتقرت للمعايير الاحترافية" المتعارف عليها عسكريا فإن نظرة على ما بثته وسائل الإعلام التركية حول الضباط الذين قيل انهم تورطوا في هذه المحاولة الانقلابية تفيد بأنهم ينتمون لكافة الأفرع الرئيسية للقوات المسلحة التركية مابين القوات البرية والجوية والبحرية غير انه من الواضح أن القيادات العليا لهذه الأفرع لم تقف مؤيدة للانقلاب في بلد حظى فيه الجيش تاريخيا بمكانة سامية. وبدت المحاولة الانقلابية الأخيرة أقرب "للتشويح الغاضب منها للانقلاب" فيما لم تسع تلك الثلة الغاضبة من العسكريين الأتراك لاعتقال رموز نظام اردوغان او تعقب اركان النظام الأردوغاني بجدية كما افتقرت تماما لأي استراتيجية إعلامية أو استخدام فاعل لمواقع التواصل الاجتماعي المعروفة "بالسوشيال ميديا" وكذلك أحجمت عن أي جهد ضروري في مثل هذا التحرك لتعبئة الجماهير والتواصل مع كتل شعبية تعلم أنها راغبة في رحيل نظام اردوغان بل إنها أحجمت عن "الحشد على مستوى القوات المسلحة التركية". وفي الوقت ذاته بدت هذه الحركة الغاضبة عازفة عن تقديم أي زعيم أو قائد لها للجماهير و"كأنها اكتفت بأسلوب التشويح الغاضب ضد نظام اردوغان قانعة بنشر تشكيل محدود من الجند الغاضبين على جسر فوق مضيق البوسفور في اسطنبول واستهداف عشوائي لقلة من المباني والمنشآت الحكومية في أنقرة واعتقاد خاطيء بأن الجماهير الغاضبة من نظام اردوغان ستتحرك فورا لدعم هذا التحرك والإطاحة بهذا النظام دون حاجة لأي تواصل معها". وهكذا لم يكن من الصعوبة بمكان لنظام رجب طيب اردوعان ان يلحق هزيمة بتلك "الثلة الغاضبة من الجند التي اكتفت بأسلوب التشويح الغاضب" فيما يتفق العديد من المحللين على أن اردوغان راغب في الاستفادة من هذه المحاولة الانقلابية المحدودة للغاية من اجل تعزيز قبضة نظامه و"الدفع في اتجاه اقامة نظام اوتوقراطي يرسخ حكم الفرد متدثرا بشعارات دينية". وهناك من المحللين من لاحظ أن المحاولة الانقلابية الأخيرة جاءت عقب تقارب واضح بين نظام اردوغان واسرائيل وكذلك الاعتذار لروسيا عن إسقاط مقاتلة روسية في شهر نوفمبر الماضي وتصاعد العمليات الإرهابية داخل الأراضي التركية. كما تأتي هذه المحاولة الانقلابية المحدودة بعد تنحية منظر او عراب "ثقافة التتريك والعثمانية الجديدة" احمد داود اوغلو عن رئاسة الحكومة والحزب الحاكم في تركيا التي تتجه الآن لنمط استبدادي سافر في نظام حكمها يجسده رجب طيب أردوغان الذي عرف "بنزعته الانتقامية حيال خصومه السياسيين". وأثارت هذه النزعة الاستبدادية تساؤلات مبررة حول إمكانية صبر الجيش "كمؤسسة حامية للدستور" على ممارسات نظام اردوغان والتي أفضت عمليا لانقسامات واضحة بين مؤسسات الدولة التركية فيما يسعى حزب العدالة والتنمية الحاكم "لفرض لون عقائدي واحد على هذه المؤسسات المرتبطة في التاريخ التركي المعاصر بفكرة ومفاهيم الدولة الوطنية" وهي مفاهيم يبدو فتح الله جولن أقرب إليها من اردوغان. وخلافا للأفكار التسامحية لفتح الله جولن والمستمدة من نبع ثقافته الصوفية ينزع رجب طيب اردوغان نحو ثقافة الأمجاد الامبراطورية والفتوحات العسكرية للدولة العثمانية وهي نزعة تتجلى ثقافيا في حرص نظامه على تشجيع الأعمال السينمائية والتلفزيونية التي تمجد تلك الحقبة ودعمها ماليا. ولئن كان الرئيس التركي رجب طيب اردوغان قد وصف المحاولة الانقلابية "بالعمل الفاشل ضد الديمقراطية" وانها "اهانة للديمقراطية" فان السؤال التلقائي والطبيعي لابد وان يكون حول حقيقة الديمقراطية في ظل النظام الأردوغاني. ومن الطريف ما لاحظه البعض حول استفادة رجب طيب اردوغان بشدة من مواقع التواصل الاجتماعي وتطبيقات انترنتية في ساعات محنته إبان المحاولة الانقلابية وهو الذي أوعز من قبل لأدوات نظامه بممارسة كل ألوان التقييد والمضايقات ضد هذه المواقع والتطبيقات الإلكترونية في توجه لا يمكن وصفه بأنه يخدم الديمقراطية التي يتشدق بدعاويها. واذا كان هذا الموقف المتعنت من قبل في مواجهة مواقع التواصل الاجتماعي على الشبكة العنكبوتية يرجع لاتهامات بالفساد أطلقتها هذه المواقع في حق اردوغان فان الاجراءات التقييدية التي اتخذها نظام حكمه ضد هذه المواقع تشكل انتهاكا صريحا للحريات والحقوق الأساسية للمواطنين الأتراك ومن بينها الحق في المعرفة فيما لايجوز اغفال ان الخطاب المعلن للمحاولة الانقلابية ركز على قضية استعادة الديمقراطية والحريات في تركيا. وخلافا لتصورات البعض حول إمكانية إقدام اردوغان على إجراءات ديمقراطية تسهم في امتصاص الاحتقانات الظاهرة في بلاده كما كشفتها المحاولة الانقلابية الأخيرة فان هناك من الخبراء والمحللين في الصحافة ووسائل الإعلام ومراكز الأبحاث الغربية من رجحوا اتجاه اردوغان المعروف "بنزعته الانتقامية" لمزيد من الاجراءات الأتوقراطية التي تنال من جوهر الديمقراطية. ولم يتردد اردوغان من قبل حتى في منازلة مثقفين وأدباء في الغرب مثل القاص الأمريكى باول اوستر الذي وصفه بأنه "شخص جاهل" بعد أن صرح اوستر صاحب "ثلاثية نيويورك" لصحيفة حريات التركية بأنه يرفض زيارة تركيا بسبب وجود سجناء ومعتقلين من الكتاب والصحفيين فى هذا البلد. ولم يكترث اردوغان بحقيقة ان هذا القاص الأمريكى له شهرته فى تركيا ويعرفه المثقفون الأتراك الذين يتحدث بعضهم بإعجاب عن كتابه الأخير "دفاتر الشتاء" كما أن انتقاداته بشأن وجود اكثر من 100 كاتب وصحفى تركى خلف القضبان تجد آذانا صاغية سواء داخل تركيا أو خارجها. ولم يخل هجوم اردوغان على هذا القاص الأمريكى من التهكم بقدر ما كشف عن انفعاله وغضبه عندما قال عن باول اوستر :"ومن الذى يهتم بزيارته لبلادنا او يكترث بمجيئه او عدم مجيئه؟! هل ستفقد تركيا الشرف والفخر إن احجم هذا الشخص عن زيارتها، أي رجل جاهل هذا؟! بصراحة حضورك لن يشرفنا". القاص الأمريكى باول اوستر رد الهجوم الذى شنه أردوغان مؤكدا احتجاجه حيال القيود المفروضة على حرية التعبير فى تركيا فيما نقلت عنه جريدة "جارديان" قوله إنه إذا كان هناك أكثر من 100 كاتب سجناء فى هذا البلد فهو يشعر أيضا بالقلق حيال بعض القضايا التى لفقت لناشرين مستقلين مثل الناشر التركى رجب زاراكولو، الذى اعتقل من قبل فى اسطنبول. وكان اعتقال هذا الناشر قد أثار موجة احتجاجات دولية فيما اقترح سبعة نواب فى البرلمان السويدى منحه جائزة نوبل للسلام وهو الاقتراح الذى حظى بتأييد الاتحاد الدولى للناشرين. وليس استدعاء الأيام الخوالي في أعمال المبدع التركي الكبير اورهان باموق والذي يحق وصفه ب"بكاء الحزن التركي" إلا تعبيرا عن احتجاج على راهن الأيام وواقع يشهد صعود نظام حكم رجب طيب اردوغان وإحكام قبضته على الحريات وإن تباهى بأصوات الناخبين! وها هو الكاتب التركي الحاصل على جائزة نوبل اورهان باموق يصدر رواية مؤخرا بعنوان: "غربة في عقلي" وهو نص مداده الشجن ويكاد يكون مرثية لزمن اسطنبول الذي ذهب بلا عودة فيما حظت الرواية بعد ترجمتها للانجليزية باهتمام كبير ومتابعات وقراءات نقدية في كبريات صحف الغرب مثل نيويورك تايمز والجارديان. والأمر قد لا يكون بعيدا عن شعور باموق بإشكالية الهوية في بلاده التي تتجه في ظل نظام اردوغان "للعثمانية الجديدة"، وتبتعد "بطابعها السلطاني الأردوغاني" عن تراث الجمهورية التي أرسى مصطفى كمال اتاتورك أسسها منذ عام 1923 بمظاهر تتجلى ما بين الأزياء والكتابة والسياسة فيما لا يمكن وصف مواقف باموق حيال الجمهورية الكمالية او النظام الأردوغاني بأنها "ودية" أو حتى "مهادنة". ويدرك باموق حدة إشكالية الهوية في بلاده متفقا مع وصفها بأنها "سفينة تبحر شرقا وعيون ركابها تحدق غربا"، كما انه يستشعر "مناخ الخوف" الذي أشاعه نظام اردوغان، معتبرا ان "الديمقراطية الانتخابية" التي يتباهى بها اردوغان لم تحل دون انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان وحرية التعبير. ولا ريب أن أحزان باموق لن تنحسر بعد المشهد الانتخابي الأخير في تركيا الذي عزز من قبضة نظام حكم اردوغان وهو الذي كان قد رأى أن الاحتجاجات التي شهدتها بلاده منذ نحو عامين تؤذن ببدء انحسار هذا النظام. وبضمير المثقف وشجاعة المبدع كان باموق قد اعلن أن "مليون ارمني و30 الف كردي قد قتلوا على هذه الأرض ولكن لا أحد يجرؤ على قول ذلك"، فيما تعرض لملاحقات قضائية في بلاده بعد اتهامه "بإهانة الهوية التركية"، غير أن ذلك لم يحل دون مواصلة انتقاداته لأردوغان "الذي تراجع اهتمامه بالديمقراطية بعدما تمكن من الحكم". ومن نافلة القول أن سياسات نظام أردوغان حيال الأكراد لا يمكن أن تتسق مع أي ديمقراطية حقيقية فيما تتجلى "ثقافة الأسوار الفاصلة والجدران العازلة" في ممارسات السلطات التركية ضد الأكراد سواء داخل تركيا أو في المحيط الإقليمي وخاصة في سوريا وعلى نحو مثير للأسى والأسف مع تناقض هذه الممارسات مع الشعارات التي يرفعها نظام أردوغان. والأكراد وإن اختلفوا عرقيا عن العرب، فهم تاريخيا وثقافيا وحضاريا في "حالة توأمة مع الأمة العربية"، ومكون أصيل في العالم الإسلامي ولا حاجة لاستدعاء نموذج البطل صلاح الدين الأيوبي قاهر الصليبيين ومحرر القدس وهو كردي الأصل. وبلد مثل مصر عرف أسماء مبدعة في مجالات عديدة من بينها الفكر والكتابة والفن تنحدر من أصول كردية مثل أمير الشعراء أحمد شوقي وعملاق الفكر عباس محمود العقاد والمفكر قاسم أمين والفنانة الراحلة سعاد حسني وأختها المطربة الكبيرة نجاة الصغيرة. وإذا كان "الأكراد في مصر والعالم العربي" موضع اهتمام ثقافي يتجلى في كتب تصدر من حين لآخر مثل كتاب "الأكراد في مصر عبر العصور" لدرية عوني ومحمود زايد ومصطفى عوض، فإن ممارسات نظام رجب طيب اردوغان في حق الأكراد بتركيا وفي سوريا الجريحة يلفت لثقافة أخرى مغايرة تماما لثقافة مصر القائمة على الانسجام والاستيعاب والتنوع وهي ثقافة "الأسوار الفاصلة والجدران العازلة". و فيما يبدو الغموض سمة للعلاقة بين نظام اردوغان وتنظيم داعش الإرهابي الذي يستهدف الأكراد ضمن من يستهدفهم بممارساته الدموية في العراقوسوريا، فإن التاريخ الثقافي توقف طويلا أمام سياسات الجدران العازلة والأسوار الفاصلة وأشهرها في الذاكرة العالمية سور برلين الذي كتب سقوطه في نهاية ثمانينيات القرن العشرين تاريخا جديدا للعالم ونهاية للحرب الباردة بين الغرب الرأسمالي بقيادة الولاياتالمتحدة والشرق السلطوي المتدثر بشعارات اشتراكية بقيادة الاتحاد السوفييتي السابق. و"الجدران العازلة" تدخل بامتياز في صميم السياسات القمعية الإسرائيلية ضد الشعب الفلسطيني ولعلها المفارقة أو الفارق الكبير بين "السياسات المعلنة والسياسات الفعلية" أن يتبنى نظام اردوغان الآن سياسة الجدران العازلة والأسوار الفاصلة! بالفعل هي مفارقة من مفارقات المرحلة الملتبسة التي حارت فيها بعض الأذهان جراء الخلط ما بين السياسات المعلنة والسياسات الفعلية والالتباسات التي تثيرها ادعاءات الرئيس التركي حول الحرية والعدالة والحق. إنها حيل "التعابير القدسية التي تستغل البراءة مخلوعة عن مضامينها اللغوية ومعزولة عن ظروفها وسياقاتها التاريخية والثقافية الحقة ومن ثم فهي تسقط عند أول اختبار موضوعي عندما تتجرد من أقنعتها فلا يبقى سوى القمع والقبضة الحديدية والشراسة اللامحدودة مع إعلاء الأسوار الفاصلة وتشييد الجدران العازلة ضمن الخيارات البائسة "! ولكن للحرية موعدها رغم متعرجات الحاضر والتباسات المرحلة وأقنعة الاستبداد.