لا أعرف من أين تأتيهم هذه القدرة والجسارة علي تكرار الفشل بمنتهي البراعة في كل عام، ويكون لديهم دائماً المبررات والحجج سابقة التجهيز.. وطوال ال15 سنة يعاني المهرجان القومي للسينما من الأخطاء والسلبيات، ومع ذلك يستمر دون أي تطوير أو تغيير.. يا له من مهرجان بائس!عندما تقيم مهرجاناً للسينما ولا يحضره صناع الأفلام من نجوم وفنانين وفنيين، فهذا يعني أن هناك خطأ ما من الضروري تداركه.. ولكن عندما تتعامل مع الأمر كله بحالة من اللامبالاة وعدم الاهتمام، فالأمر يتحول إلي جريمة في حق السينما «القومية».. وفي كل عام يتم توجيه انتقادات عديدة للمهرجان، ولا أحد يتحرك.. ووصل الأمر منذ 10 سنوات إلي أن فاروق حسني وزير الثقافة نفسه «الذي حرص علي إقامة هذه المهرجانات» قد أعلن غضبه وترك حفل الافتتاح بدار الأوبرا معلناً أمام كاميرات التليفزيون أنه سوف «يلغي» المهرجان لأن نجوم وصناع السينما يتجاهلونه!.. وذهب غضب الوزير، واستمر الحال علي ما هو عليه.وأنا شخصياً أستطيع أن أفسر: لماذا لا ينجح المهرجان؟.. ولكني لا أدعي فهمي أو قدرتي علي سبب استمراره فاشلاً، وخروجه بهذه الثياب المهلهلة.يتهم دائماً المسئولون عن المهرجان القومي للسينما المصرية من ينتقدهم بعدم الموضوعية، لذلك أبادر بالقول إن كل ما سوف أذكره هنا من أسباب فشل المهرجان قراءة «غير موضوعية» لعلهم يستريحون، ويتداركون الأخطاء التالية:تحمس الفنان فاروق حسني لإقامة المهرجان القومي بعد أن تمت خصخصة السينما، وتقرر بيع وتأجير كل أصول الصناعة للقطاع الخاص، والتي كان قد تم الاستيلاء عليها بالتأميم في العهد الاشتراكي «هذه قصة أخري»، والمهم أن الوزارة قررت أن تحتفظ بمسمار جحا بإقامة هذا المهرجان.. وقيل إن الهدف منه أمران: الأول هو قراءة أحوال السينما المعاصرة وتعديل مسارها ما أمكن، والثاني إعادة اكتشاف تاريخ السينما المصرية «بعد هوجة بيع الأفلام للمحطات الفضائية».. وبالفعل شهدت السنوات الأولي في حفلات الافتتاح عرض وترميم بعض أفلامنا القديمة التي أنتجت في الثلاثينيات، ولأن هذه كانت خطوة رائعة، فإن الوزير أعلن مشروعه المدهش بإقامة الأرشيف القومي والسينماتيك ومتحف السينما «ظل 15 سنة يعلن ذلك دون أن يتحقق الأمر أو الحلم».. وفي السنوات الأخيرة لم يعد حفل الافتتاح يقدم أي اكتشافات جديدة.. وهذا العام تم إلغاء حفل الافتتاح أصلاً!ما علينا، نأتي للجانب الآخر: لماذا تخاصم الأضواء المهرجان القومي؟لعل السبب الرئيسي هو أن المهرجان يقام بطريقة الاحتفالية السنوية التقليدية، دون الاهتمام بمسابقة المهرجان التي هي تشبه مسابقة «الأوسكار» التي تنظمها السينما الأمريكية.. فهناك في أمريكا يكون التسابق بين الأفلام الخمسة الأفضل، وكذلك في كل العناصر الفنية، أما هنا فالمسابقة أشبه ب«فرح العمدة»، كل من صنع فيلماً، مهما يكن مستواه، فإنه مدعو للتسابق، فمثلاً تقدم هذا العام 34 فيلماً من بينها: «بنات وموتوسيكلات، وبوشكاش، وكاريوكي، وشبه منحرف، ولحظات أنوثة، وغيرها».. ومستوي هذه الأفلام يكفي لإسقاط 20 مهرجاناً وليس مهرجاناً واحداً.. والمهرجان نفسه يقام بعد أربعة أشهر من انتهاء عروض الأفلام، مما يجعل أفلام العام الماضي قد أصبحت في ذاكرة التاريخ، فمثلاً الأوسكار يتم تنظيمه بعد حملة من الدعاية والإثارة بعد أقل من شهرين من انتهاء العام السينمائي، ولكن هنا وبدون دعاية ولا تسابق يقام بعد أربعة أشهر، والتوقيت في مثل هذه المسابقات شديد الأهمية.. والغريب أن جمعية صغيرة في مصر مثل «جمعية الفيلم» تدرك هذا جيداً وتنفذه بدقة، فهي تختار الأفضل من الأفلام التي تستحق التسابق، وتقيم مهرجانات في بداية شهر مارس!!نأتي بعد ذلك إلي «لجنة التحكيم» التي قرر وزير الثقافة أن يكون رئيسهاً أدبياً، وبرر ذلك بأنه يريد لجنة محايدة، لذلك جاءت معظم نتائج جوائز المهرجان ضعيفة وغير مقنعة، ولعل أضعفها تلك التي أصدرها الكاتب الراحل لطفي الخولي، وحتي وصل بنا الحال إلي نتائج لجنة جمال الغيطاني.وطبعاً من حق أي لجنة تحكيم أن تختار ما تشاء، ولكن المشكلة تظل في التضارب في نتائج هذه اللجان، ودعوني أضرب مثالاً: هل من المنطقي أن تنحاز لجنة تحكيم في العالم لفيلم مثل «خريف آدم» إخراج د. محمد كامل القليوبي، وفي نفس المسابقة تمنح اللجنة جوائز لفيلم «اللمبي» لوائل إحسان.. إزاي؟!.. إذن فتجربة الأديب أو الكاتب الكبير لم تكن ناجحة لأنها لا تحكم علي المستوي الفني والرؤية بقدر ما تحاول أن تصنع نوعاً من الإرضاء لعدد من الفنانين.. ويكفي هنا أن أقول اننا إذا حاولنا قراءة وتحليل الكلمات التي يقولها الأديب قبيل إعلان الجوائز بأسلوب ملئ بالتعالي والأستاذية لأدركنا كم كانت رؤيتهم للأفلام المصرية غير واعية وتخلو من الرؤية.إذن.. فإن شكل المسابقة، وأسلوب تكوين لجنة التحكيم بالإضافة إلي عرض الأفلام في قاعات غير صالحة، وإقامة ندوات بأسلوب «تحصيل حاصل»، هو ما جعل المهرجان يفقد قوته وبهجته وأعطي احساساً بعدم جديته.. أما الحديث عن المسابقة الأخري للأفلام القصيرة والتسجيلية والرسوم فهو يحتاج إلي قراءة أخري ويكفي أن نذكر أمرين هما: إن مسابقة هذا العام خلت تماماً من أي فيلم من إنتاج المركز القومي للسينما «التابع لوزارة الثقافة» مما يعني أن الوزارة رفعت يدها عن إنتاج هذه النوعية المهمة وهي مأساة أخري مؤسفة.. والأمر الثاني أن معظم الأفلام المشاركة كان من الإنتاج الخاص المستقل «الديجيتال» الذي لا تعترف به وزارة الثقافة نفسها علي أساس أنها أفلام يتم تصويرها دون الرجوع للوزارة «للرقابة بالتحديد».إن المهرجان القومي للسينما المصرية في حاجة سريعة إلي «حل».. والحل هنا بالمعنيين، إما حل تطويره وتغييره وإصلاحه والنهوض به، أو «حله» بمعني إلغائه».