من تلسعه الشُوربة ينفخ في الزبادي.. مثل شهير ومن الممكن أن تري الرقابة وهي تنفخ بحذر في الزبادي عندما رفضت التصريح بعرض فيلم "الخروج" عرضاً محدوداً في مهرجان الأقصر السينمائي الذي انتهت فعاليات دورته الأولي قبل أيام!! في أكثر من قرية مصرية شاهدنا في الآونة الأخيرة ثورة من الغضب بسبب اكتشاف علاقة عاطفية تجمع بين مسلمة ومسيحي أو مسلم ومسيحية وفي العادة تنشب المعارك ويسفر الأمر عن ضحايا من الجانبين ومن الواضح أن هذا السيناريو مر علي خيال الرقيب وتخوف من أن يؤدي عرض الفيلم المصري "الخروج" حتي لو عرضاً محدوداً للنقاد والصحفيين ولجنة التحكيم قد يؤدي إلي ثورة مماثلة ليس في المهرجان ولكن في مدينة الأقصر التي تشهد روح التسامح الديني تغلف العلاقات بين المسلمين والأقباط هناك ورغم ذلك كان من الواضح أن تخوف الرقيب لم يكن له منطق ولا محل من الإعراب الفني لأن العرض المحدود بعيداً عن الجمهور دائماً ما تلجأ إليه الرقابة خاصة عندما يتعلق الأمر بالعرض في مهرجان سينمائي. امتنع الرقيب المصري "سيد خطاب" عن منح الفيلم الروائي "الخروج" تصريحاً بالعرض المحدود برغم أن الفيلم قد سبق عرضه قبل أكثر من عام في مهرجان "دبي" قبل الأخير في ديسمبر 2010 وبعدها صار ممنوعاً من العرض في مصر سواء للجمهور أو المهرجانات. أصدر النقاد والصحفيون الذين شاركوا في مهرجان "الأقصر" بياناً يشجب موقف الرقابة التي لجأت إلي قرار المنع والمصادرة كما أن جبهة الدفاع عن الحرية التي تكونت مؤخراً في مصر أصدرت بدورها بياناً ترفض فيه موقف الرقابة وأدانت مؤخراً لجنة السينما بالمجلس الأعلي للثقافة إصدار هذا القرار من الرقابة. فيلم "الخروج" هو أول إخراج لهشام العيسوي والذي شارك أيضاً في كتابة السيناريو.. تناولت الأحداث عائلة مصرية تدين بالمسيحية إلي هنا والأمر يبدو عادياً إلا أن المخرج حرص علي أن يقتحم الخط الأحمر في التعامل مع الشخصية القبطية وتغلغل أكثر في تفاصيل هذه العائلة لنري الابنة الكبري التي لعبت دورها "صفاء جلال" وقد صارت فتاة ليل تبيع شرفها من أجل أن تضمن حياة كريمة لابنها.. الشقيقة الصغري الوجه الجديد "ميرهان" علي علاقة غير شرعية بشاب مسلم لعب دوره الوجه الجديد "محمد رمضان" تريد الزواج منه وتهدده بأنها حامل.. زوج الأم "أحمد بدير" يلعب القمار ويستحوذ علي أموال العائلة عنوة.. بالطبع لو أن هذه العائلة مسلمة فسوف يتقبلها المجتمع المصري بمسلميه وأقباطه بدون حساسية ولكن طبقاً لكل التجارب السابقة في التعامل مع الشخصيات القبطية التي تحمل أي قدر من الإدانة الأخلاقية في الدراما سواء المسلسلات أو الأفلام فإن الغضب بل والمظاهرات داخل الكنيسة وربما أيضاً خارجها هو المصير الذي ينتظر مثل هذه الأعمال الفنية لأن البعض يقطع الخط الفاصل بين الشخصية الدرامية والدين الذي تعتنقه الشخصية فتصبح سلبيات الشخصية بمثابة طعن في الديانة.. والحقيقة أن غياب الشخصيات القبطية عن الأعمال الدرامية أدي إلي قدر لا ينكر من الحساسية!! تعودنا في الدراما أن نضع أوراق "السوليفان" علي الشخصية المسيحية وكأننا نرفع راية مكتوباً عليها ممنوع اللمس أو الاقتراب.. الإحساس العام الذي يسيطر غالباً علي صناع العمل الفني أن المتفرج لا يريد أن يري شخصية من لحم ودم وأنه فقط يقرأ عنوانها لكنه لا يتعمق في تفاصيلها.. كان يبدو وكأن هناك اتفاقاً ضمنياً علي ذلك بين صناع العمل الفني والجمهور، الجميع ارتاحوا إلي استبعاد الشخصية القبطية!! المعالجات الفنية التي اقتربت من العائلة المصرية القبطية وجهت لها انتقادات مباشرة من الكنيسة الأرثوذكسية في مصر برغم أن الهدف الفكري لتلك الأعمال لم يكن هو الحديث عن الديانة بقدر ما هو تناول عائلة مصرية مسلمة أو مسيحية!! علي سبيل التذكرة فقط فإن السنوات الأخيرة شهدت أكثر من غضبة عارمة بسبب أعمال فنية تعاملت بحساسية وهدوء مع العائلة القبطية في مصر ورغم ذلك وجهت لها انتقادات حادة منها مثلاً مسلسل "أوان الورد" الذي لعبت بطولته "سميحة أيوب" و "يسرا".. سر الغضب هو أن "سميحة" لعبت دور امرأة قبطية تزوجت مسلماً ولم يقلص مساحات الغضب أن مخرج المسلسل "سمير سيف" مسيحي متدين.. لقد كان بالمسلسل فريق متعادل من المسلمين والأقباط الكاتب "وحيد حامد" مسلم والمخرج مسيحي وكانوا حريصين علي أن يشاركا كفنيين خلف الكاميرا حتي يضمن ألا يثير حفيظة أحد نصف العدد مسلمين والنصف الثاني أقباط ورغم ذلك ازدادت الاحتجاجات بين عدد من الأقباط واضطر "البابا شنودة" إلي إقامة سحور قبل نهاية رمضان في الكاتدرائية لإنهاء هذا الاحتقان الذي اشتعل في رمضان 2001 وقت عرض المسلسل.. مسلسل "بنت من شبرا" عرض بعدها بنحو ثلاث سنوات بطولة "ليلي علوي" أثار الغضب لأن البطلة أشهرت إسلامها حتي إن التليفزيون المصري الرسمي بعد أن أعلن عن عرضه في رمضان تراجع قبل 24 ساعة فقط من بداية البث ولم يعرض المسلسل بعدها إلا في قناة خاصة وكأن الدولة تريد أن تقول للأقباط إنها ليست مسئولة عن العرض.. مسلسل "مين اللي ما يحبش فاطمة" بطولة "شيرين سيف النصر" واجه أيضاً مساحات من الاحتجاج المسلسل قصة الراحل "أنيس منصور" وذلك لأن البطلة أيضاً أشهرت إسلامها في نهاية الأحداث.. في مسلسل "يا رجال العالم اتحدوا" الذي كتبه "عاطف بشاي" ورغم ذلك لم يخلو الأمر من غضب لأن "حسن حسني" كان يؤدي في المسلسل شخصية رجل مسيحي يريد الطلاق من زوجته ولهذا يفكر في تغيير الطائفة وليس الديانة حتي يتمكن من الحصول علي الطلاق.. اعتبر هذا السلوك من بعض الأقباط يتنافي مع الدين!! أما الفيلم الذي حظي بأكبر مساحة من الغضب فهو "بحب السيما" عام 2004 إخراج "أسامة فوزي" وتأليف "هاني فوزي" وبطولة "ليلي علوي" و "محمود حميدة" كان أول فيلم يتناول عائلة مسيحية الزوج والزوجة والابن.. لم يتحمل قطاع عريض من الأقباط ذلك خاصة أن الفيلم اتهم من قبل بعض المغالين بين "الأرثوذكس" بأنه يروج للمذهب "البروتستانتي".. شكلت الدولة وقتها لجنة للتصريح بالفيلم حرص آنذاك الرقيب "مدكور ثابت" علي أن يشارك في عضويتها أكبر عدد من الأقباط من نقاد وكتاب ورفضت اللجنة التصريح بالفيلم بل طالب بعض أعضائها بالاستعانة برجال الكنيسة من الطوائف الثلاث الأرثوذكس والكاثوليك والبروتستانت لأخذ الموافقة.. أمام ذلك الرفض تم تشكيل لجنة أخري أيضاً ضمت أغلبية عددية من الأقباط روعي في تشكيلها أن يكونوا أكثر مرونة في تقبل تواجد عائلة مسيحية في الدراما وبالفعل وافقت اللجنة علي الفيلم بدون محذوفات وعرض الفيلم ورغم ذلك جاء الإقبال ضعيفاً علي المستوي الجماهيري ربما لأن الجمهور لم يتعود أن يري مجتمعاً قبطياً علي الشاشة الكبيرة بكل التفاصيل الاجتماعية والدينية. الحقيقة هي أن المشاهد المصري وأيضاً العربي تعود علي رؤية الشخصيات المصرية في الأغلب مسلمة وإذا قدمت شخصية قبطية فإنها تحظي بكل المعالم الإيجابية مثلاً "مرقص أفندي" في "أم العروسة" الذي عرض قبل نحو 47 عاماً هذا الدور الذي أداه "منسي فهمي" كان عليه أن يتستر علي "عماد حمدي" وينقذه من الفضيحة حتي لا يعرف أحد أنه اختلس من الخزينة للإنفاق علي فرح ابنته.. أما في فيلم "حسن ومرقص" 2008 حيث أدي "عادل إمام" دور "مرقص" لعب شخصية أستاذ علم اللاهوت وحرص "عادل إمام" علي أن يلتقي "البابا شنودة" ويطلعه علي السيناريو قبل الشروع في تصوير الفيلم وبالفعل تم إجراء بعض التعديلات الدرامية ليصبح البطل أستاذاً في علم اللاهوت بدلاًَ من كونه في السيناريو الأصلي "قسيساً".. وبالطبع فإن موافقة البابا لعبت دوراً في تقبل عدد كبير من الأقباط لشخصية "مرقص" كما أن السيناريو الذي كتبه "يوسف معاطي" قدم إطاراً هندسياً صارماً ليضمن الحياد الدرامي التام بين المسلمين والأقباط في كل المواقف.. وتلك "السيمترية" أي التماثل الشديد في الأحداث من أجل ألا يشعر المتفرج بأي انحياز خصمت الكثير من قيمة الفيلم أصبحنا بصدد معادلة حسابية وليس عملاً فنياً.. تكرر الأمر مؤخراً في فيلم "واحد صحيح" في الدور الذي أدته "كنده علوش" حيث إن والدها في الأحداث أشهر إسلامه ليتزوج من مسلمة أحبها بينما هي رفضت أن تتزوج من المسلم "هاني سلامة" الذي أحبته ولكنها قررت أن تلجأ للكنيسة لتصبح راهبة وهكذا وجد الفيلم طريقه للعرض بعيداً عن الغضب لأن المخرج حرص علي أن يراعي التوازن في الشخصيات المسيحية التي ترفض في النهاية الزواج من مسلم لأن هذا ضد تعاليم الديانة المسيحية!! هذه المرة مع فيلم "الخروج" لا توجد هذه المعادلة برغم أن المخرج ربما بعد نصيحة من أحد العاملين بالفيلم قدم علاقة هامشية عاطفية موازية بين قبطي ومسلمة ليصبح هناك خط مواز لخط الدرامي الرئيسي الذي يجمع بين مسيحية ومسلم.. مأزق هذه الأفلام هو أن المتفرج لم يألف رؤية شخصيات قبطية تمارس أي قدر من الانحراف طوال تاريخ الدراما في مصر ولهذا تنتقل الحساسية التي نراها في الشارع إلي دار العرض وبدلاً من أن يشاهد الجمهور شريطاً سينمائياً به عائلة مصرية بعيداً عن ديانتها سوف يراها عائلة قبطية بل ويعتبرها البعض في هذه الحالة تحمل إدانة شخصية وليست درامية.. الغريب أننا نكتشف أن عدداً بين المثقفين الأقباط يرفض أن يري شخصية قبطية منحرفة!! إلا أن الحل لا يمكن أن يصبح هو المصادرة ولكن أن يألف الجمهور مشاهدة العمل الفني ولا يري شخصيات تعبر عن أديان بقدر ما يراها تحمل هموم وأحلام وإحباطات عائلة مصرية!! يجب أن نعترف بأن ما نراه في الدراما من حساسية تتحمل وزره الحياة الفنية والثقافية المصرية لأنه كلما طال الابتعاد والغياب زادت الحساسية ولكن علي صناع الأعمال الفنية أن يواصلوا الطريق ويمنحوا الشخصيات القبطية حضورها الدرامي.. لدي ملاحظات متعددة علي فيلم "الخروج" ولكني أدافع عن حق المخرج في أن يري فيلمه النور ويعرض علي الناس وأن تراجع الرقابة المصرية موقفها في مصادرة الفيلم الممنوع عرضه حتي في المهرجانات وهي سابقة خطيرة لم تحدث من قبل توحي مع الأسف بأن المصادرة سوف تصبح سيفاً باتراً في يد النظام. سبق للرقابة في مصر أن صرحت بعرض الفيلم اللبناني "هلأ لوين" للمخرجة "نادين لبكي" قبل شهرين فقط برغم أننا نري في الفيلم شخصيات قبطية تتحول للإسلام وشخصيات مسلمة ترتدي الصليب لأن الفيلم اللبناني أراد توصيل رسالة وهي التصدي للطائفية وهو ما حاول أيضاً فيلم "الخروج" أن يعبر عنه.. ولكنه فيما يبدو النفخ في "الزبادي"!!