أرجوكم، ابعدوا عن «البردعة»، وابحثوا عن حملة «البرادع» والذنوب جميعا، فليس المستشار عبدالمعز إبراهيم هو بطل فضيحة إهانة القضاء المصري، وفك حظر سفر المتهمين الأمريكيين، ولم يتصل عبدالمعز من تلقاء نفسه بالقاضي الجليل محمد شكري، والذي فضل التنحي مع هيئة المحكمة، وحتي لا يكتب في سجله القضائي أنه يحكم بالأمر الإداري، وترك لعبدالمعز عار السلوك الذي لا يليق بقاض مصري رفيع المنصب، ثم يتحول فجأة إلي خادم مطيع، وينفذ أوامر الوحي الأمريكي التي هبطت علي المشير طنطاوي وبطانته الحكومية. صحيح أن عبدالمعز أهان صفته كقاض، وأهان القضاة المصريين جميعا، وسمح لنفسه بتلقي الأوامر، وهو الذي تلقي مبلغا مليونيا فلكيا نظير رئاسته للجنة الإشراف علي الانتخابات البرلمانية، والتي أحاطتها الشبهات ودواعي التقصير من كل جانب، ولم تحقق في شكوي واحدة وصلتها، وتغيرت بيانات النتائج التي أعلنتها أكثر من مرة، وبدعوي أخطاء الكمبيوتر، ثم صارت الانتخابات كأنها لم تجر من أصله، وانتهت المحكمة الإدارية العليا إلي قبول الطعن بعدم دستوريتها، ثم إن المستشار أبوالمعز نفسه، وبصفته كرئيس محكمة الاستئناف هو الذي أحال قضية التمويل الأمريكي إلي دائرة المستشار محمد شكري، وبتوصيفها كجناية لا جنحة، ثم عاد بعد تلقي الأوامر ليصفها بالجنحة، وينتهي إلي إنهاء حظر سفر المتهمين الأمريكيين والأوروبيين، والذين وصلوا الي مطار القاهرة في حماية عربات الجيش المدرعة، وفي حراسة جهاز المخابرات المصرية، وحيث كانت تنتظرهم طائرة عسكرية أمريكية خاصة، دخلت المجال الجوي المصري، وهبطت في مطار القاهرة، ودون استئذان سلطات هيئة الطيران المدني المصري، ولم يكن ذلك كله غريبا، فقد سحقت أمريكا بحذائها رجالها في مصر، وتصرفت في مصر كأنها بعض أراضيها، أو كأنها إمارة تابعة للخلافة الأمريكية، وبدا أن أمرها لا يرد، فللخالق حرية التصرف فيما خلق، والحذاء الأمريكي سحق صراصيره، وأرغمهم علي ابتلاع ألسنتهم وشنباتهم، وتبخرت في لحظة كل دعاواهم عن الوطنية والسيادة واستقلال القضاء، وكانت النتيجة كاسحة، فقد انتهي فجأة عرض «الوطنية شو»، وسري أمر الخضوع من المشير إلي المستشار، وثبت زيف الكذبة المصنوعة، والتي بدا فيها كمال الجنزوري كأنه «دون كيشوت»، وبدا الشيخ حسان كأنه «راسبوتين»، وبدت فايزة أبوالنجا كأنها «أم الغرقي»، وبدا الصغار الذين تعودوا النفاق، ونقل المزاد من مبارك إلي المشير إلي المرشد، بدا هؤلاء في حجمهم الطبيعي، وكصراصير تسحقها الأقدام. وفي لحظة الإهانة وانكشاف الخيانة، شاهت وجوههم جميعا، ولم نسمع صوت كمال الجنزوري، والذي يتلقي في أواخر عمره دروسا في الخطابة المدرسية، وفلق أدمغتنا بتكرار عبارة «لن نركع»، ثم تبين أنه من أول الراكعين، ولو كان عنده دم لقدم استقالته علي الفور، وشاه وجه الوزيرة فايزة أبوالنجا، والتي خدمت سنين عدداً مع المخلوع وسوزان مبارك، وكانت الحفيظة المؤتمنة أسريا علي أموال تذهب وأخري تجيء، وتعمدت الإدارة الأمريكية تلميعها بتصويرها كمعترضة علي منظمات التمويل، ثم شاطتها الأقدام الأمريكية نفسها، وكومتها ككرة منبعجة في مجلس وزراء الجنزوري، وبعد أن خدمت أمريكا باخلاص في عهد مبارك، وفي عهد خلفه المشير طنطاوي، سحقتها الأقدام الأمريكية علي طريقة المثل القائل «آخر خدمة الغز علقة»، وأبت أبوالنجا أو «أم الغرقي» إلا أن تأخذ معها الشيخ محمد حسان إلي القاع، وقد بدت «فايزة» في آخر صورة نشرت من مجلس وزراء الجنزوري، وهي تجلس علي حافة مائدة، وتهم بكتابة شيء في ملف وضع أمامها، وربما لم تتمكن من كتابة شيء لانشغالها بشيء آخر، فقد كانت مشغولة باستراق النظرات إلي الشيخ حسان علي حافة المائدة الأخري، كان الشيخ في زيه السعودي التقليدي، وأبوالنجا في زيها الأفرنجي المعتاد، ولم يكن يهم اختلاف الأزياء، ولا ذنب الاختلاط الذي حذر منه الشيخ فوقع فيه، فالمهم هو وحدة الهدف، وقد تورط الشيخ بالوعي أو بدونه في قصة مزورة من ألفها إلي يائها، ولعب دور شيخ المجلس العسكري، وألقي بثقله المعنوي والروحي في خدمة الأكذوبة، وتصور الناس أنه يقود معركة وطنية ودينية، بينما القصة كلها مزيفة عن عمد، وباتفاق مسبق مع الأمريكيين علي حدود لا يصح تخطيها، ورفع الشيخ شعار «المعونة المصرية ضد المعونة الأمريكية»، وأقسم علي جمع ما يقارب عشرة مليارات جنيه في يوم واحد، كبديل يفوق القيمة السنوية للمعونة الأمريكية، وعلي ظن أن المجلس العسكري أعلنها معركة وطنية، وأن أمريكا قد ترد بإلغاء المعونة، ثم ذهب الشيخ حسان إلي لقاء مصنوع مع شيخ الأزهر، وزاد في تعهداته علي نحو عشوائي استعراضي، وتحدث عن جمع تريليون جنيه مصري لا عشرة مليارات فقط، تعهد الشيخ بجمعها في أيام، وأقسم بعظمة الله وجلاله، ثم سقط قسم الشيخ الذي تعود علي نفاق مبارك، ومن بعده مجلسه العسكري، فقد مرت أسابيع لا أيام، ولم يجمع الشيخ واحداً علي مليون مما تعهد به، ودون أن يؤدي الشيخ «كفارة» تريح ضميره، أو أن يلتمس مغفرة من الله عن ذنبه المسجل تليفزيونيا، وانتهت قصته في معية الجنزوري وفايزة أبوالنجا، وبإنشاء جمعية أهلية يكون حسان نائبا لرئيسها شيخ الأزهر، وعلي أن تكون فايزة أبوالنجا ممثلة الحكومة فيها، وأطلقوا علي الجمعية العاطفية عنوان «في حب مصر»، بينما عملهم كله إهانة لمصر، وتزييفا لوعي ناسها، وإهدارا لكرامة المصريين، وإمعانا في طاعة أمريكا التي لا يرد لها أمر عند من خدمهم ويخدمهم الشيخ. بدت القصة كلها ابتذالا وطنيا، وليس موقفا وطنيا، وقلتها من أول لحظة، وفي مقال «دقت ساعة الانقلاب العسكري» المنشور قبل أسبوعين، قلنا إن القصة كلها مسقوفة، وأنها من المتفق عليه مع واشنطن، وأن المجلس العسكري افتعل عن عمد ضجة منظمات التمويل الأمريكي، وعلي أمل افتعال شعبية في قضية وطنية حقيقية، فمصر بلد مخترق حتي النخاع، ومصر كلها تريد الخلاص من الاستعباد والاحتلال الأمريكي لقرارها، لكن المجلس العسكري لا يريد، فالجنرالات يمضون علي طريق كبيرهم مبارك، وقد كان العميل الأول للأمريكان وخائن مصر الأعظم، والمجلس العسكري جزء لا يتجزأ من إدارة مبارك، ويستمد من الأمريكيين وحيه المقدس، ويدخل في علاقة «زواج رسمي» مع الإدارة الأمريكية والمخابرات والبنتاجون، لكن الشك داخله في خيانة الأمريكيين للروابط المقدسة الموروثة، وبعد أن لاحظ تطور علاقة «زواج عرفي» للأمريكيين مع جماعة مرشد الإخوان، ودون علم مئات الآلاف من الشرفاء في قيادات وعضوية جماعة الإخوان، ومن وراء المجلس العسكري الذي يتظاهر مرشد الإخوان بصيانة العلاقات الودية معه، وأراد المجلس العسكري أن يعبر عن ضيقه بعلاقة «الزواج العرفي» النامية بين الأمريكان والجماعة، والتي تنافس، وتكاد تستبدل علاقة «الزواج الرسمي» بين الأمريكان وجماعة المجلس العسكري، وفجر قضية منظمات التمويل الأمريكي، وبجرعة بدت له مضبوطة، وعلي مقاس تحقيق الهدف المقصود، وبهدف كسب بعض من الشعبية المفقودة في الشارع السياسي، ولفت نظر الأمريكيين علي طريقة «نحن هنا»، وفهم الأمريكيون فحوي الرسالة المزدوجة، وربما لأنهم كانوا علي علم بالقصة منذ لحظة التفكير فيها، وتركوا المجلس العسكري يتصور أنه حقق ما يريده، ولجأوا إلي عدم التصعيد في الرد، وتصدت الإدارة الأمريكية والمخابرات والبنتاجون لدعوات إلغاء المعونة في الكونجرس، بل وتحرك «اللوبي اليهودي» علي غير العادة لضمان استمرار المعونة للمجلس العسكري، فالمعونة أداة السيطرة علي مصر والجيش المصري من داخله، وهي تضمن للأمريكان والإسرائيليين مصالحهم في مصر، بينما لا تهم أحدا في مصر سوي المجلس العسكري وجماعة مليارديرات المال الحرام، ثم دخلت جماعة مرشد الإخوان علي الخط مؤخرا، وصارت مقتضيات المعونة ومعاهدة العار مع إسرائيل من تعهداتها الصارمة للأمريكيين. وبالجملة، كشفت القصة ما هو معروف بالبداهة الوطنية، فمصر تحولت إلي مستعمرة أمريكية، والسفارة الأمريكية هي دار المندوب السامي، وهي أكبر سفارة من نوعها في العالم بعد سفارة الاحتلال في العراق، وفيها المحطة الرئيسية للمخابرات المركزية الأمريكية في الشرق الأوسط، والقوات الأمريكية منتشرة في قواعد بسيناء، وفي نقاط بقلب القاهرة ذاتها، والدوائر الرسمية لا تسمي ذلك احتلالا ولا مهانة ولا خيانة، بل تلجأ إلي اسم التدليع، وتسميه «علاقة استراتيجية»، هكذا كان يفعل مبارك، وهكذا يفعل المشير طنطاوي وجنرالاته في المجلس العسكري، وهكذا تفعل جماعة مرشد الإخوان التي تتهيأ للحكم، وهم يعرفون حقيقة الاحتلال والمهانة، ويلجأون إلي الضحك علي الذقون بطريقة باتت ممجوجة من فرط تكرارها، ويتصرفون مع الأمريكان والإسرائيليين علي طريقة عبدالفتاح القصري في فيلم «ابن حميدو» الكوميدي الشهير، يعلنونها حربا كلامية ضد الأمريكان والإسرائيليين، ويقطعون وعودا، ويقول أحدهم لك علي طريقة القصري «كلمتي ما تنزلش الأرض»، ثم حين تظهر العين الحمراء، يقولون كما قال القصري «تنزل المرة دي»، وحاذر أن تفهم أن المقصود بالتشبيه هو المستشار عبدالمعز إبراهيم، فالأخ عبدالمعز ليس إلا عبد المأمور!