بعيدا عن المحاكمة الجارية الآن، وعن منصة القضاء، وعن مرافعات فريد الديب وأشباهه، فإن قضية مبارك أوسع من أن تحتملها قاعة محكمة عادية، فلم يحاكم المخلوع أبدا كما يستحق، والتهم الموجهة إليه قضائيا جانبية جدا، وأشبه بمحاكمة حرامى حبل غسيل، بينما سرق مبارك عمر أمة بأكملها، وكان عنوانا لانحطاط تاريخى هوى بمصر إلى الدرك الأسفل، ونزل بغالبية شعبها إلى ما تحت خطوط الفقر والبطالة والعنوسة، ونشر داء الموت المستعجل الذى حصد أرواح الملايين.. كاتب السطور يعتقد عن يقين فى صدق ونقاوة ضميرالرئيس عبد الفتاح السيسى، وأن الصدق هو سلاحه الذرى، والذى كون شعبية جارفة للرجل غير مسبوقة فى نطاقها منذ زمن جمال عبد الناصر. وصدق السيسى هو دافعه الأول لاتخاذ قرارات صعبة، يتخوف منها أى رئيس حرصا على شعبيته، وخشية من قلاقل الشارع وغضب الناس، ومن نوع الرفع الجزئى لدعم الطاقة، وبما ألهب أسعار السلع الملتهبة أصلا، وأضاف للعنت الذى يلاقيه سواد المصريين بطبقاتهم الوسطى والفقيرة، والتى أشاد الرئيس السيسى بتحملها للمصاعب المستجدة، فوق احتمالها لانهيار الخدمات الأساسية فى انقطاعات المياه والكهرباء بالذات، وهو ما يعنى أن غالبية المصريين دفعوا فواتيرهم فى صبر، وثقة فى سلامة نوايا الرئيس السيسى، والذى يستهدف خفض عجز الموازنة، ووقف تردى أوضاع الاقتصاد المنكوب، وإبعاد البلد عن حافة الانزلاق إلى هاوية الإفلاس النهائى. صبر المصريون ثقة فى صدق السيسى، لكن السيسى رجل ذكى فوق صدقه، ويعرف أن للصبر حدودا، وأن الطبقات الوسطى والفقراء دفعوا فواتيرهم كاملة، فوق ما دفعوه طوال عقود الانحطاط التاريخى على مدى أربعين سنة خلت، سقط فيها المصريون بغالبيتهم الغاطسة تحت خطوط الفقر والبطالة والمرض والعنوسة والمذلة اليومية، وإلى أن جاءت ثورة 25 يناير 2011 وموجتها الأعظم فى 30 يونيو 2013، وتطلع الشعب المصرى إلى الخلاص، وإلى إقامة موازين العدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية والعيش الكريم، وزاد منسوب الأمل مع تولد ظاهرة شعبية السيسى، ومع انتخابه للرئاسة بما يشبه الإجماع، وتقبل المصريون صدق وصراحة الرئيس الجديد، وتقبلوا قراراته الصعبة على فداحة أعبائها، والتى ضاعفت من تكاليف بطولة البقاء على قيد الحياة، ودفعوا الفواتير كاملة انتظارا لقطار العدالة، دفعوا فواتير جرائم ارتكبها غيرهم، فليسوا هم الذين صنعوا أزمة اقتصاد مصر، بل كانوا هم الضحايا المختارين، هم الذين ماتوا فى القطارات المحترقة، وأكلتهم أسماك القرش فى غرق العبارات، وامتص الفقر والمرض حيوية أبدانهم، وعاشوا فى أكفانهم، وزحف الملايين من شبابهم وشاباتهم إلى رصيف البطالة والعوز، وكفروا بالبلد الذى لا يعطيهم أبسط فرص الحياة اللائقة. نعم ياسيادة الرئيس، الذين صنعوا خراب اقتصاد مصر أنت تعرفهم، وكما نعرفهم بالضبط، لم يقتص منهم أحد، ولا جرت محاكمتهم كما ينبغى، ويبيتون معززين مكرمين حتى فيما يسمى سجونا، ولم يسترد البلد قرشا واحدا مما نهبوا، وهم الذين أذلوا مصر، وارتكبوا أفظع جرائم الخيانة العظمى، ودمروا مقدرات البلد، وقامروا بمقاديره، وجرفوا قواعده الانتاجية الكبرى، وشفطوا السلطة والثروة لحساب قلة تعيش كالملوك، وحولوا واقع الحياة اليومية إلى جحيم متصل، وقسموا مصر إلى مصرين، بينهما برزخ لا يلتقيان، قسموها إلى أفقر شعب فى المنطقة، وإلى أغنى طبقة فى المنطقة، وأنت تعرف الشعب الأفقر ياسيادة الرئيس، وهم «الغلابة» الذين تحدثت عن الرفق بهم والحنو عليهم، والذين فاض بهم الكيل، وبذلوا العرق والدم والدموع، وتحملوا ودفعوا فواتير قراراتك الصعبة التى بدت كجراحة ضرورية، لكن الطبقة الأغنى لم تدفع شيئا، وبدت متحمسة ومغالية فى تأييد قرارات رفع الدعم، فهى لا تنقص خردلة من ثرواتها، بل تبقى معادلة المظالم على ما كانت عليه، فالفقراء يزدادون فقرا، والأغنياء تتراكم ثرواتهم وتنتفخ جيوبهم، ودون نظام ضريبى عادل، تأخذ فيه «الضرائب التصاعدية» من حساب الأغنياء لإصلاح خراب الخزانة العامة، وكما هو معمول به فى أعتى النظم الرأسمالية، وهو ما لا يحدث عندنا، وبدعوى أن الضرائب التصاعدية لا تشجع الاستثمارات، وكأن هؤلاء من المستثمرين، أو ممن يقيمون مصانع ومزارع تضيف فوائض قيمة إنتاجية لاقتصاد البلد، وهو ما لا يتوافر إلا فى نسبة قليلة جدا من أنشطة ما يسمونهم برجال الأعمال، فهؤلاء مستثمرون حقا، ولكن فى عذاب الشعب المصرى، وفى طاحونة النهب العام التى أهلكتنا، وقد كونوا ثروات فلكية من «الخصخصة» التى تحولت إلى «مصمصة»، ومن إعفاءات جمركية وضريبية غير مسبوقة فى كل رأسماليات الدنيا، ومن إمدادات طاقة أعطيت لهم بالمجان تقريبا، ومن قرارات تخصيص الأراضى بمئات الملايين من الأمتار المربعة، وبتراب الفلوس، ومن تداخلات السلطة والثروة والإعلام، ومن تزاوج جرائم الاقتصاد الأسود وغسل الأموال، وتكوين طبقة جديدة تقدر ثرواتها بتريليونات الجنيهات، وهؤلاء هم الذين شفطوا مصر يا سيادة الرئيس، وثروة ثلاثة منهم أكبر من مليارات الدعم الذى يثقل كاهل الموازنة المنهكة، وهم الذين يصح أن يدفعوا الفواتير كاملة، وتحت يدك يا سيادة الرئيس ملفاتهم جميعا، فلا تناشدهم، ولا تدللهم، ولا تحدثهم عن الأخلاق والضمير، فضمائرهم فى جيوبهم، ولا ترجوهم فى دفع تبرعات رمزية لصندوق «تحيا مصر»، بل اضرب ضربتك الكبرى، ونفذ نص تهديدك البليغ «هاتدفعوا يعنى هاتدفعوا»، واسترد حقوق مصر المنهوبة، واستند لقوة شعبك وناسك الذين ينتظرون قرارك، وإنا معهم لمنتظرون .