- المسيحيون فى تونس يعيشون فى أمان ولم نسمع إطلاقا عن اعتداء عليهم حتى أيام الثورة - أزمة المسيحيين ليست فى الاضطهاد وتمييز.. وإنما فى الفرقة «الكلمة تقتل أكثر من السيف، ولا يمكننا أن نرفض الإرهاب ونشكو من قسوته، وننسى أن كلماتنا الحادة قد تقتل إنسان، بل وننام مرتاحى الضمير.. هذا إرهاب آخر نمارسه نحن ضد بعضنا البعض»، فى عظة باللغة الفرنسية كانت هذه الجملة الوحيدة التى قالها الأب إيلاريو أسقف طائفة اللاتين كاثوليك فى دولة تونس باللغة العربية، مكررا دعوته بأن يحافظ الإنسان على حياة أخيه الإنسان وألا يترك جراحا فى روحه بكلماته القاسية، وذلك فى صلاة قداس عشية بدء الصوم الأربعينى الذى يسبق الاحتفال بعيد القيامة. بالقرب من مدخل «المدينة العتيقة» فى تونس العاصمة ترتفع أبواب كاتدرائية القديس «منصور دى بول» مؤسس «رهبنة المحبة» الكاثوليكية المعنية برعاية الفقراء والمساجين، ويُروى عن القديس الفرنسى منصور انه باع نفسه ليحرر أسير من قبضة بعض القراصنة، واخذ مكانه فباعه القراصنة فى تونس ودخل سجن La Goulette الشهير، ثم تم تحريره وعاد لفرنسا، وتم بناء هذه الكنيسة فى تونس التى تحمل اسمه ورهبنته. تصدح أصوات الكورال عالية فى كاتدرائية «منصور دى بول» العتيقة، فى ليلة مميزة لا تأتى إلا مرة واحدة كل عام، وهى ليلة «تبريك الرماد» وهو طقس تمارسه الكنيسة الكاثوليكية ليلة بدء الصوم الأربعينى، حيث يمسح الكاهن على رأس المصلين، ويرسم بالرماد صليبا على جبينهم، رمزا لموت الخطيئة والولادة من جديد. فى حوار مع صحيفة «الشروق» يروى الأب إيلاريو وهو من مواليد إيطاليا 1948، عن رهبنته التى مضى منها 53 عاما يخدم فى كنائس الشرق، أوضاع المسيحيين فى تونس، وحاجة الكنائس للتوحد والاتفاق على رأى. • كم مضى على خدمتك كأسقف للاتين كاثوليك فى تونس؟ منذ 3 سنوات وأنا أسقف الكنيسة فى تونس بعد أن تم نقلى من كنيسة القدس التى خدمت فيها 50 سنة. • لماذا اخترت الحديث عن إرهاب الكلمة كموضوع لعظة عشية الصوم الأربعينى؟ العظة هى التى فرضت نفسها علينا، فنحن فى مستهل أعمق صوم فى الكنيسة، وهو الصوم الأربعينى الذى تحول للأسف ل«الادخار الأربعينى» حيث يظن البعض أن الصيام هو التوقف عن تناول الأطعمة التى نشتهيها وتوفير الأموال لشرائها بكثافة مرة أخرى بعد انتهاء الصيام، دون التركيز عما نحتاج الامتناع عنه حقا، وهو الاغتياب والنميمة والكذب وغيرها من الخطايا التى تدمر علاقة الإنسان بالله. لا يمكن أن نشكو من الإرهاب الذى يقتل البشر بالسيف ولا ننظر لما نمارسه كبشر من إرهاب لفظى، يمكن لكلمة أن تقتل إنسانا حزنا أو تخدش سمعته وغيرها من جرائم الكلمة التى لا يمكن التهاون فيها، فالإنجيل لم يقل امتنع عن اللحم ولكن قال حب أخيك كنفسك، لذلك أرجو المسيحيين أن يأكلوا اللحم فى الصيام وألا يأكلوا سمعة أقاربهم وجيرانهم وأشقائهم، وهى الدعوة التى تعلمتها من أسقف فى حيفا كان يكررها على مسامعنا دوما. • كيف يعيش المسيحيون فى تونس؟ لم أشعر فى لحظة واحدة بالاختلاف أو التمييز فى تونس بسبب عقيدتى، ولم يحدث أو سمعنا إطلاقا عن اعتداء على مسيحى أو هجوم على كنيسة أو ممتلكات للمسيحيين فى تونس، ولم نتلق حتى تهديدات فى أيام الثورة التى شهدت اعتداءات على المسيحيين فى دول أخرى، وتخضع كنيستنا لحماية طوال الوقت رغم عدم شعورنا بأى تهديد فعلى. علاقتنا كمسيحيين بالدولة فى تونس تخضع لاتفاقية «Modus Vivendi» وهى كلمة لاتينية تعنى «وضع التعايش» التى عقدها الرئيس التونسى الحبيب بورقيبة مع بابا الفاتيكان فى روما عام 1964، وهى تحمى حقوقنا وممارسة طقوسنا بحرية داخل الكنائس وزيارة المسيحيين فى المنازل والسجون، كما تفرض علينا الاتفاقية احترام القانون التونسى وعدم الإخلال به خارجها، وهو ما نشعر معه بالأمان التام طالما التزم الطرفين ببنود الاتفاقية. • ما الخدمة التى تقدمها رهبنة منصور دول بول فى تونس؟ رهبنتنا مهتمة بزيارة المساجين والفقراء والمسنين كما أسسها القديس منصور، وتسمح لنا الدولة بإقامة قداس فى السجن للمساجين المسيحيين، ولعل آخر قداس قمت به بنفسى يسبق عشية الاحتفال ببداية الصوم الأربعينى بأسبوع، حتى يستعد السجين لاستقبال فترة صوم جديدة، بالإضافة إلى السماح للمساجين المسيحيين بممارسة جميع طقوس أسبوع الآلام حيث أقوم بنفسى بغسل أرجلهم فى طقس صلاة قداس خميس العهد حيث غسل المسيح أرجل التلاميذ. المحبة ليست فعل قاصر على رهبان الكنيسة، وإنما هى دعوة لكل إنسان وخلال العظة التى تحدثت فيها عن إرهاب الكلمة، أخبرت المصلين أن العالم أصبح فى حاجة لمحبة حقيقية، وتوفير وقت لزيارة المسنين والمرضى والناس التى تعيش بمفردها، فذكرت لهم زيارتى الأخيرة لرجل مسن يعيش وحيدا، ظل طوال زيارتى يلمس شاشة التلفاز ويحتضنه من وقت لآخر، فسألته لماذا يفعل هذا، فأخبرنى أنه لم يرِ إنسان منذ فترة طويلة، وأصبح التلفاز صديقه ويؤنس وحدته فاعتاد لمسه حتى يتأكد من وجوده طوال الوقت، وطالما بقى هذا الرجل وحيدا فإننا مقصرون فى حق إنسانيتنا ومحبتنا وتعاليم المسيح، والصوم فرصة لتوطيد علاقتنا الإنسانية. • كيف ترى وضع المسيحيين فى العالم فى الفترة الأخيرة؟ أزمة المسيحيين ليس فى ما يتعرضون له فى بعض البلدان من اضطهاد وتمييز، وإنما أزمتهم الحقيقية فى الفرقة التى مزقت جسد المسيح الواحد وهى الكنيسة، وأصبحت الطوائف المختلفة تتنازع فى ما بينها لإثبات أحقيتها بالمسيح وحدها واحتكاره لنفسها، ونسوا أن المسيح جاء للعالم أجمع، فالمسيحيين بحاجة لتوحد الرأى ليصمدوا أمام ما يتعرضون له من حروب. وعندما اخُتير البابا فرنسيس من قبل استطلاع تجريه صحيفة «النيويورك تايمز» كثالث شخصية مؤثرة فى العالم بعد الرئيس الروسى بوتين ونظيره الأمريكى أوباما، لم يكن لامتلاكه السلاح أو القوة مثلهما، وإنما لامتلاكه الحكمة ودعوته المستمرة لأن تسود المحبة العالم، بالإضافة إلى دعوته لتوحيد الكنائس. • أخيرا زاد الحديث عن وحدة الكنائس، كيف ترى هذه الدعوات؟ للأسف تظن بعض الكنائس الشرقية أن وحدة الكنائس سوف تضر بخصوصية أبنائها، والعكس صحيح فالكنيسة القبطية على سبيل المثال ثرية بالطقوس ولها غناها الذى يمكن أن تُثرى به الكنائس الأخرى، كما أن الكنائس الغربية بالتأكيد لديها ما يضيف للكنيسة القبطية، وهكذا كل الكنائس المختلفة فى العالم. الاتفاق فى العقيدة وأن الراعى واحد وهو المسيح وليس مجرد شخص أى كان رتبته الكنسية، والحديث عن وحدة الكنائس ليس باتفاق رؤساء الكنائس، وإنما باتفاق الشعوب وهى التى تدفع رؤسائها للتوحد، ولا يمكن أن ننكر أن بعض الكنائس الشرقية عانت من تصلب رأى رؤسائها الأمر الذى دفعها للانغلاق أكثر ورفض الكنائس الاخرى بضراوة والتصريح بذلك، فأصبح أبناؤها رغما عنهم يحملون التطرف ذاته الذى زرعه الرؤساء. • هل يزور الكنيسة الكاثوليكية فى تونس مسيحيون من كنائس أخرى؟ لا نتلقى زيارات كثيرة رغم أننا نرحب بها، ولكن على سبيل المثال تخدم راهبة لدينا هنا من مصر وأخرى من بلجيكا، نحن نؤمن أن الكنيسة لا تحتاج لجوازات سفر وإنما الهوية فى المسيحية هى المسيح ذاته ولا نحتاج لأن نعرف جنسية أو هوية من نقدم لهم خدمتنا.