كان هيكل بالتأكيد من صناع التاريخ فمنذ التقى جمال عبدالناصر فى الفالوجا وبعد رحيله ومجىء السادات كان هيكل فى قلب القرارات لكنه فى ثلاثية حرب الثلاثين سنة أكثر من ذلك، إنه مؤرخ له كل القدرة على التحليل والتأريخ وإن ترك الوثائق أحيانا تتكلم وحدها، ولا يقلل من ذلك أنه صاحب دور فى هذا التاريخ وانه منحاز كما قال لوطنه وأمته. قديما كانت صفة المؤرخ تطلق على من يدون الأحداث التى يعاصرها ويعايشها، مثلما كان هيردوت أبو التاريخ كما نسميه يفعل؛ كان المؤرخ بمفهوم ذلك الزمن البعيد أقرب إلى الرحالة أو المدون المتابع للأحداث اليومية، كان أقرب إلى شاهد العيان، وفى زمن تالٍ كان المؤرخ يعود إلى الماضى مسجلا حوادثه، هكذا كان مؤرخو العصور الوسطى من أمثال ابن قتيبة وأبى جرير الطبرى وابن الأثير، كان هؤلاء موثقين مسجلين لما يعيشونه من أحداث، وفى نفس الوقت جامعين منقبين عما وقع فى ماضيهم القريب أو البعيد، لكن معظم هؤلاء المؤرخين لم يعتمدوا على منهج علمى فى جمعهم للحوادث، ولم يلجأ أغلبهم إلى نقد ما يتجمع لديهم من حكايات ومرويات، إلى أن جاء القرن الخامس عشر الميلادى وفيه بزغ نجم اثنين من أبرز مؤرخينا، عبدالرحمن بن خلدون وتقى الدين المقريزى، حيث وضع الأول إطارا منهجيا لكتابة التاريخ، ونجح الثانى فى أن يطبق هذا الإطار المنهجى باقتدار، بل ويضيف إليه، وفى ذلك العصر الذى ازدهرت فيه الكتابة التاريخية، عرفنا فئة من المؤرخين كانوا فى ذات الوقت من صناع التاريخ، أى أنهم بحكم قربهم من الحكام أو مشاركتهم فى دوائر الحكم كانوا مساهمين فى صنع التاريخ، وفى الوقت نفسه كانوا ممن يسجلون التاريخ، تاريخ زمنهم، وحوادث الماضى. • صانع التاريخ: ولا شك فى أن محمد حسنين هيكل يعد أحد صناع التاريخ المصرى الحديث والمعاصر، فقد كان فاعلا أساسيا فى كثير من الأحداث المهمة، فضلا عن كونه شاهدا على تاريخ مصر والمنطقة العربية، على الأقل طوال سبعين عاما؛ فقد بدأ هيكل عمله الصحفى عام 1942 قبل أن يكمل عامه العشرين، وتنقل بين الإيجيبشيان جازيت وآخر ساعة وأخبار اليوم ثم الأهرام التى ارتبط اسمه بها منذ تولى رئاسة تحريرها منذ أغسطس 1957 حتى فبراير 1974 وارتبط اسمه بها كما ارتبطت الأهرام الجريدة والمؤسسة به، ومازلت أذكر نداء بائع الصحف فى الستينيات كل يوم جمعة «أهرام هيكل». طوال سنوات عمله الصحفى لم يكن هيكل مجرد مخبر صحفى أو مراسل أو محرر أو كاتب أو صانع صحافة، كان أكثر من ذلك بكثير، ليس على المستوى الصحفى المهنى الذى نبغ فيه وتفوق، بل على مستوى علاقته بالأحداث المهمة والفاصلة فى تاريخ مصر والمنطقة العربية بل وفى تاريخ منطقة شرق المتوسط وجنوب أوروبا، فقد اختار اختراق الحواجز والصعاب، فكانت أول جائزة صحفية يحصل عليها على تغطية صحفية متميزة لوباء الكوليرا الذى ضرب محافظة الشرقية فى أواخر الأربعينيات، ثم دفعت به تغطيته لحرب البلقان ثم حرب فلسطين سنة 1948 إلى قلب الأحداث السياسية الكبرى، وفى حرب فلسطين كان اللقاء الأول بجمال عبدالناصر أثناء حصار القوات المصرية فى الفالوجا، هذا اللقاء الذى تكرر إلى أن أصبح علاقة تاريخية قوية بين قائد تنظيم الضباط الأحرار ورئيس الجمهورية الثانى لمصر وبين الكاتب الصحفى والمفكر محمد حسنين هيكل، جعلت هذه العلاقة التى توطدت قبل أن يتولى عبدالناصر قيادة البلاد عقب انتصاره فى أزمة مارس 1954 من هيكل قريبا من مركز اتخاذ القرار فى مصر لسنوات، بل مشارك فى القرار فى كثير من الأحيان، ورغم أن علاقة هيكل بالرئاسة تراجعت فى زمن الرئيس السادات حتى وصلت إلى اعتقال هيكل فى سبتمبر 1981، الذى سماه هيكل «خريف الغضب»، إلا أن قامة هيكل وقيمته كصاحب رؤية سياسية لما يدور على أرض الوطن وفى المنطقة العربية وعلى ساحة الصراع الدولى لم تتراجع، بل يمكن القول بحق إن الأزمات أضافت لهيكل ولم تنتقص منه. وقد أتاح اقتراب هيكل من السلطة أن يحصل على كثير من صور لوثائق ومستندات وصلت إليه بحكم صلته بالرئيسين الراحلين جمال عبدالناصر وأنور السادات، لقد اقترب الرجل من مواقع السلطة فى مرحلة حاسمة فى تاريخنا وكان فاعلا فيها بدرجة كبيرة دون أن يتطابق معها، كل هذا أهل محمد حسنين هيكل لأن يكون إلى جانب صفته الأصيلة كصحفى، ودوره كسياسى ومشارك فى صنع الحدث، شاهدا على التاريخ وللتاريخ، ومؤرخا لعصرنا. وإذا كانت شهادة هيكل على العصر تعد وثيقة حية عن مرحلة غابت وثائقها عن أرشيفنا القومى، فإن هيكل فى كتاباته المتعددة يعتبر بحق مؤرخا ممتلكا لمنهج تحليلى نقدى يتعامل مع الوثائق كمصدر رئيسى للتأريخ، إلى جانب اعتماده على ذاكرته الحية كمشارك فى الأحداث أو شاهد عليها. • كاتب التاريخ: ورغم أن كتابات محمد حسنين هيكل وأحاديثه فى مجملها تعد مصدرا تاريخيا، إلا أن من بينها ما يمكن أن نعتبره دراسة تاريخية منهجية بحق فضلا عن كونها كتابة سياسية تحليلية، فقد كتب هيكل العديد من الكتب التى تناول فيها تاريخنا بعين المحلل السياسى والمشارك فى الأحداث فى آن واحد، ولعل من أهمها ثلاثيته «ملفات السويس» و«سنوات الغليان» و«الانفجار»، تلك الثلاثية التى تناولت حرب الثلاثين عاما من أجل السيطرة على المنطقة العربية، والتى اكتمل صدورها فى عام 1990، ومن هذه الأعمال كذلك «أكتوبر 73 السلاح والسياسة»، ثم كتابه عن حرب فلسطين سنة 1948 «العروش والجيوش» بجزءيه. ورغم أن هيكل يقول فى مقدمة 1967 الانفجار أن العمل يتضمن «قراءة التاريخ لا كتابته، وتنشيط الذاكرة وليس إصدار الأحكام»، وإذا كان هيكل يرى: «أن الصحفى ليس فى مقدوره أن يكتب التاريخ، فتلك مهمة أكبر من طاقته، وأوسع من أى تحقيق يقوم به فى حدث بذاته، ولعلها أبعد من عمر أى إنسان فرد، ثم إنها أعقد من أن تحتويها دفتا كتاب واحد. وأنه حتى وإن كان أحد شهود الحدث الذى يكتب عنه يستطيع أن يقدم شهادة تاريخية لكن الشهادة التاريخية ليست تاريخا وإنما هى إن صدقت تصلح لأن تكون مادة تاريخية أى عنصرا من العناصر وزاوية من زوايا النظر حين يكتب التاريخ». إلا أن ثلاثية «حرب الثلاثين سنة»، وغيرها من كتبه التى تناول فيها مراحل الصراع العربى الإسرائيلى، هى كتابة للتاريخ بجدارة، يطبق فيها هيكل بمهارة وحرفية منهج البحث التاريخى الذى يقوم على التحليل والتركيب، إنها كتابة تاريخية تعتمد على الوثائق تحللها وتستنطقها، وتعيد ترتيب المادة المستخلصة منها لتشكل بها بناء تاريخيا مكتملا، فإن ما قدمه فى هذه المجموعة من الأعمال المتوالية لم يكن تحقيقا صحفيا، ولم يكن مجرد شهادة تاريخية، بل عمل فى التأريخ للصراع فى المنطقة منطقة الشرق الأوسط وعليها، كما كان مشروعه فى البداية فى عام 1985، عندما اقترح عليه ناشره البريطانى أن يستبدل بفكرة هذا الكتاب عن الشرق الأوسط كتابا عن حرب السويس فى ذكراها الثلاثين. • أنا منحاز: ورغم أنه حقق رغبة ناشره بالتأليف عن حرب السويس بعد ثلاثين عاما من وقوعها، إلا أنه ربطها تاريخيا بما قبلها وما بعدها، فقد كان يرى أن: «السويس كانت قمة صراع بدأ قبلها بسنوات طويلة ثم استمر بعدها وتصاعد حتى قمة 1967، ولم يتوقف تصاعده حتى جاءت سنة 1973، وبعدها بسنوات بدا أن مرحلة بكاملها فى الشرق الأوسط قد وصلت إلى نهايتها، وأوشك الستار أن ينزل عليها ليرتفع إلى مرحلة جديدة لا أحد يعرف متى وأين وكيف بدايتها؟»، وأن «السويس وحدها لا تقول القصة كاملة للصراع على الشرق الأوسط وفيه، والصراع كله يستحق أن يعالج، وليس السويس وحدها وإلا فإن الموضوع مبتور وناقص!» وهذا ما حققه العمل بالفعل، لم يأت فى صورة سرد صحفى، بل تحليل سياسى تاريخى، وضع هيكل فى مكانة بارزة بين طائفة المؤرخين، إلى جانب مكانته بين الصحفيين والمحللين السياسيين. ما يميز هذه الأعمال لمحمد حسنين هيكل أنه كتبها بعد الحدث بسنوات، وأنها اعتمدت على الوثائق بدرجة كبيرة، ورغم أنه كما يقول تباعد مرات عن الحديث وترك الوثائق وحدها تحكى ما عندها، إلا أن صوته يظهر محللا وقارئا للوثائق الأصلية، فاكتسبت بذلك خصائص الكتابة التاريخية. يبقى السؤال، هل كان هيكل منحازا فى كتابته، لقد أشار بوضوح فى مقدمته لملفات السويس إلى أن: «الذين يعيشون الحوادث هم فى أغلب الأحيان آخر من يصلح لتأريخها، ذلك لأن معايشتهم للحوادث تعطيهم على الرغم منهم دورا، والدور لا يقوم إلا على موقف، والموقف بطبيعته اقتناع، والاقتناع بالضرورة رأى، والرأى فى جوهره اختيار، والاختيار بدوره انحياز، والانحياز تناقض مع الحياد وهو المطلوب الأول فى الحكم التاريخى». لكن هل هناك مؤرخ محايد، أو باحث فى التاريخ بلا انحياز، أشك فى ذلك، فكل العاملين فى حقل الإنسانيات والدراسات الاجتماعية لهم انحيازاتهم، وهذا الانحياز لا يعيب بحثهم ولا ينتقص منه، طالما أن هذا الانحياز لا يؤثر على الموضوعية، ولا يدفع بهم إلى إخفاء وثيقة أو اختلاق واقعة. وأتذكر هنا ما أكد عليه هيكل نفسه فى أحاديثه بقناة الجزيرة منذ عدة سنوات عندما قال: «سئلت كثيرا جدا عما إذا كنت منحازا أو غير منحاز، وأنا بأقول بوضوح كده، نعم أنا منحاز، ولكن مسألة الانحياز لا بد أن توصف، أخجل من انحيازى إذا كان انحيازا لنظام أو انحيازا لرجل لكنى لا أخجل من انحيازى إذا كان انحيازا لوطن ولأمة، وأنا أتصور برضه ويشفع لى تجربة طويلة يعنى هو أنى واحد بلا مطامع، أن أقول إنه حتى هذه اللحظة أنا أقدر أتكلم فى هذا الموضوع وأقول والله أنا منحاز ومنحاز لوطن وأمة وليس لرجل وشخص»، كما أكد أيضا على أن ما يقدمه محاولة للتحليل والفهم عندما قال: «بترجى أنه لا أحد يتصور أنه فى أحد يملك حقيقة ولا فى أحد يملك حكمة ولكن كلنا بنحاول». إن كتابات هيكل حول الصراع فى المنطقة وعليها محاولة ناجحة فى التأريخ جعلت من صانع التاريخ مؤرخا. المقال نقلا عن صحيفة السفير اللبنانية.