قد يمتلك بعض المسئولين المنتخبين فى الحكومات الديمقراطية شجاعة السباحة ضد التيار، وقد يتخذون من القرارات وينفذون من السياسات ما يرونه ضروريا لمواطنيهم ومجتمعاتهم ودولهم، على الرغم من معارضة قطاعات شعبية واسعة. إلا أن صندوق الانتخابات الذى دوما ما تتحدد نتائجه وفقا لحقائق القبول أو الرفض الشعبى للقرارات والسياسات المطبقة كثيرا ما يفرض أثمانه الباهظة أو ينذر بفرضها على نحو يضع أولئك المسئولين المنتخبين أمام اختيارات بالغة الصعوبة. شىء من هذا يحدث اليوم للمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل. خلال السنوات القليلة الماضية، اتخذت السيدة المستشارة التى تقود ائتلافا حاكما يضم حزبها المسيحى الديمقراطى والحزب الاشتراكى الديمقراطى والحزب المسيحى الاجتماعى «والأخير حزب إقليمى يرتبط بولاية بافاريا الواقعة فى جنوبألمانيا» قرارات كبرى لم يكن لها الكثير من القبول الشعبى بين مواطنيها. تحملت الحكومة الألمانية العبء المالى الأكبر لمساعدة اليونان، الدولة العضو فى الاتحاد الأوروبى وفى الاتحاد النقدى الذى يستخدم اليورو كعملة موحدة، على مواجهة شبح الإفلاس والشروع فى إدخال إصلاحات اقتصادية واجتماعية ومالية وتطبيق خطط تقشفية تستهدف وضع الاقتصاد اليونانى على طريق الخروج من الأزمة. وعلى الرغم من قبول أغلبية الناخبين الألمان لمساعدات مماثلة، كانت حكومة المستشارة قد قدمتها لإنقاذ اقتصاديات دول أوروبية أخرى كإسبانيا والبرتغال، واقتناعهم بضرورة الحفاظ على الاتحاد النقدى الأوروبى كعامل أساسى لاستمرار الرخاء فى ألمانيا، إلا أن المليارات الكثيرة التى قدمتها ألمانيا لإنقاذ اليونان والضعف النسبى لإسهام الحكومات الأوروبية الأخرى والتعثر المتواصل للحكومات اليونانية المتعاقبة، على الرغم من المساعدات الكبيرة جميعها عوامل رتبت شيوع حالة من الرفض الشعبى لسياسة المستشارة تجاه اليونان. واستغلت ذلك أحزاب وحركات اليمين المتطرف التى روجت، ومازالت، لفكرة وطنية زائفة مؤداها باختصار ثروة ألمانيا ومواردها للألمان. *** مع الانفجار الكارثى لأزمة اللاجئين السوريين وطرق مئات الآلاف منهم لأبواب أوروبا بحثا عن الملاذ الآمن، دفعت المستشارة ميركل ائتلافها الحاكم لتبنى سياسة شجاعة للترحيب باللاجئين السوريين وفتح أبواب ألمانيا لهم. موظفة لتعاطف الرأى العام الألمانى مع الشعب السورى إزاء الأهوال التى يواجهها وأفراده يصارعون للنجاة من حرب أهلية مجنونة والأهوال الأخرى التى يواجهونها وهم يطرقون أبواب أوروبا فى موجات من الهجرة غير الشرعية، أعلنت الحكومة الألمانية عزمها استقبال جميع اللاجئين الذين يتمكنون من الوصول إلى الأراضى الألمانية وعطلت تطبيق القوانين الأوروبية التى تلزم طالبى اللجوء بتقديم طلباتهم إلى سلطات الدولة الأوروبية الأولى التى يصلونها. ناشدت المستشارة مواطنيها الترحيب باللاجئين، ودعت القرى والمدن والولايات إلى توفير إمكانيات لائقة بإعاشتهم، ووعدت بمساعدات مالية استثنائية من حكومتها، وأنتجت خطابا إنسانيا راقيا عن اللاجئين الفارين بحثا عن الحق فى الحياة والقادرين على الإسهام الإيجابى فى المجتمع والاقتصاد الألمانيين. غير أن المستشارة سرعان ما واجهت تراجعا واضحا فى التعاطف الشعبى مع اللاجئين وتناميا للمشاعر السلبية إزائهم. وأسهمت فى ذلك عدة عوامل موضوعية منها؛ الارتفاع الهائل فى أعداد اللاجئين القادمين إلى ألمانيا (أكثر من مليون لاجئ فى 2015) على نحو أرهق طاقات القرى والمدن والولايات الألمانية، الضغوط الاقتصادية والمالية التى ألقى بها استقبال اللاجئين على كاهل الحكومة الألمانية وأجبرها على ضغط الإنفاق العام فى مجالات مجتمعية أخرى، النشاط المتزايد لأحزاب وحركات اليمين المتطرف والعنصرى التى قادت مسيرات شعبية ضد قرارات وسياسات المستشارة وتورط على هوامشها البعض فى أعمال عنف ضد اللاجئين، السلوكيات الصادمة لأقلية من اللاجئين على النحو الذى ارتبط بكارثة الاعتداءات الجنسية الجماعية على النساء فى أكثر من مدينة ألمانية أثناء احتفالات بدء العام الميلادى 2016، شبهة تورط بعض القادمين إلى أوروبا كلاجئين سوريين فى الأحداث الإرهابية التى شهدتها فرنسا فى خواتيم 2015. وترتب على كل ذلك تراجع سريع فى شعبية المستشارة التى بدأت فى تغيير سياستها تجاه مسألة اللاجئين واتخذت مجموعة من القرارات التى تفرض العديد من القيود على استقبالهم أو بقائهم فى ألمانيا أو قدوم أفراد أسرهم من سوريا أو من ملاذات أوروبية غير ألمانيا، وكذلك على الإعانات المالية المقدمة لهم. ومع تراجع الشعبية ارتفعت أصوات النقد للسيدة ميركل داخل حزبها وبين صفوف الحزب المسيحى الاجتماعى، وخرج بعض السياسيين على استحياء يدعون إلى البحث عن بديل قبل توالى انتخابات برلمانات بعض الولايات الألمانية وقبل الانتخابات البرلمانية الاتحادية القادمة. إلا أن الثمن الأفدح فى كارثيته على المستشارة وحكومتها والسياسة الألمانية يتمثل فى تصاعد وزن الأحزاب والحركات اليمينية المتطرفة التى تبدو اليوم، خاصة حزب البديل لألمانيا، على مقربة من انتزاع مقاعد فى برلمانات الولايات وفى البرلمان الاتحادى ومن ثم قادرة على دفع السياسة فى ألمانيا إلى انحراف خطير نحو اليمين.