كيف تنظر السلطوية الحاكمة إلى التوجه المتزايد لكفاءات مصرية مبهرة لمغادرة مصر والاستقرار مهنيا وءسريا فى بلدان أخرى؟ خلال الأسابيع القليلة الماضية، التقيت فى الولاياتالمتحدةالأمريكية وفى بعض البلدان الأوروبية بمصريات ومصريين من الشباب ومتوسطى العمر الذين غادروا مصر فى الأعوام الأخيرة ويعملون فى الجامعات والمؤسسات العلمية والطبية والشركات الصناعية والاستثمارية فى الغرب. منهم أساتذة الجامعات، منهم العلماء والأطباء، منهم المهندسون والخبراء فى مجالات التكنولوجيا، منهم المتخصصون فى إدارة الشركات، منهم المستثمرون فى قطاعات صناعية وتجارية متنوعة. بعضهم ترك وظائف جيدة ومغرية ماديا فى مصر وطلب الهجرة بجميع مشاقها النفسية والأسرية والاجتماعية والمالية، بعضهم الآخر ارتحل بعيدا عن الوطن وأغلق شركاته وأنهى عقود العاملين بها أو جمد أنشطتها وراح يبحث عن بداية جديدة فى الغرب. يجمع بينهم التأكيد على أن مغادرة مصر لم تكن اختيارهم الأول، بل الأخير. بعضهم يؤكد على أن سوء الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية وانهيار خدمات التعليم والرعاية الصحية وانتشار الفساد هو سبب الرحيل. وبعضهم الآخر يفصح عن كون تراكم المظالم والانتهاكات فى مجتمعنا واقترابها من محيطه المهنى والأسرى هو دافع الابتعاد. وبعضهم الثالث يرى فى الارتداد على ثورة يناير 2011 والانقلاب على أمل التغيير والعودة إلى جمهورية قمع ما قبل 2011 الأسباب الفعلية للارتحال. ومجموعة أخيرة بدأت فى ترك مصر منذ 2012 خشية التعرض أو بعد التعرض إلى ممارسات تمييزية على أساس الدين (ضد الأقباط) أو خوفا على الحرية الشخصية إن من يمين دينى هدد بالقمع والاضطهاد أو من يمين عسكرى أمنى يقمع ويضطهد بالفعل. يجمع بينهم أيضا الشعور بالألم لما آلت إليه أحوال مصر، والإحساس بالحسرة لانتفاء قدرتهم اليوم على توظيف علمهم وطاقاتهم وكفاءاتهم لمساعدة الوطن على الخروج من أزمته والإسهام فى صناعة العدل والتقدم، وسطوة الغيرة من شباب ومتوسطى عمر من بلدان أخرى يعملون بالغرب ويتمكنون من إفادة أوطانهم من أمريكا اللاتينية إلى الهند. كيف تنظر السلطوية الحاكمة إلى هجرة العقول المصرية خلال الأعوام الماضية؟ هل ترى بها خسارة فادحة لكفاءات كانت تستطيع الإسهام فى دفع الوطن إلى الأمام، وهل تدرك مسئوليتها المباشرة؟ أما تقارب هجرة العقول بمنطقها الأمنى المريض، فتسعد بمغادرة قطاعات إضافية من المطالبين المحتملين بالعدل والحق والحرية والنزاهة والديمقراطية؟ هل تفكر فى النتائج الكارثية لتواكب هجرة العقول المصرية إلى الخارج مع تهجير السلطوية للمواطن بعيدا عن المجال العام وفرضها العزوف عن الشأن العام كاختيار وحيد للمواطنات والمواطنين الذين يرفضون الانصياع للرأى الواحد والتماهى مع جوقة المؤيدين والمبررين ويدركون جيدا حقائق القمع والظلم؟ هل لدى المؤسسات والأجهزة الرسمية معلومات موثقة عن معدلات هجرة العقول المصرية وتفاصيلها التخصصات، الفجوات التى يحدثها الرحيل فى القطاعات العلمية والاقتصادية والتكنولوجية الخدمية والاستثمارية فى مصر، أم تكتفى المؤسسات والأجهزة هذه بمتابعة البلدان التى يذهبون إليها وبمراقبة بعضهم أمنيا؟ تسعدنى دوما البدايات الشخصية الجديدة، وتؤلمنى هجرة العقول التى تعمق من جراح ومصاعب الوطن.