لا تستطيع الديكتاتوريات والنظم السلطوية البقاء دون إرفاق قمعها للمواطن وانتهاك حقوقه وحرياته وإلغاء قدرته على الاختيار الحر، وتمكينها الأجهزة الأمنية والاستخباراتية من السطو على المجتمع وعلى تنظيماته الوسيطة فى المساحتين السياسية (وهذه يفرض عليها الموات) والمدنية (وتلك تحاصر وتجرد من الحرية ومن ثم تعدو قليلة الفاعلية)، وتأسيسها لحكم الفرد أو الحزب الواحد أو نخبة الحكم الأبدية؛ بتغييب شامل لحرية تداول الحقائق والمعلومات وتزييف لوعى الناس يستند إلى ترويج الرأى الواحد والصوت الواحد عبر خدمة السلطان وتشويه لمعارضيه بتوظيف ادوات المكارثية المعهودة (نشر الإفك عن المعارضين وتكثيفه إلى أن تألفه قطاعات شعبية واسعة والاعتماد فى ذلك على سيطرة الأجهزة الأمنية والاستخباراتية على وسائل الإعلام وعلى محدودية ذاكرة الأفراد والرأى العام). وفى المحصلة النهائية، تميت الديكتاتوريات والنظم السلطوية النقاش العام بكونه إعمالا للعقل والعلم والنهج الموضوعى والحق فى الاختلاف واحترام الرأى الآخر تماما كما تقمع المواطن وتميت السياسة وتحاصر المجتمع المدنى. وليست الوضعية المصرية ببعيدة قيد أنملة عن ذلك. بل إن إماتة النقاش العام هى فى مصر اليوم صناعة متكاملة الأطراف، ينتسب إليها من يبررون حكم الفرد، ومن يصنعون منه بطلا منقذا ويختزلون المواطنات والمواطنين فى أتباع، ومن يغيبون الحقائق والمعلومات لكى لا تعرف الشعوب تفاصيل أوضاعها وتعجز عن التمييز بين الواقع والخيال فيما يدعى الحكام والمؤسسات والأجهزة الخاضعة لسيطرتهم إنجازه، ومن يفرضون الرأى الواحد والصوت الواحد ويؤيدهم فى ذلك الحاكم الفرد الذى يصرح بين الحين والآخر بحتمية إسكات الآراء المخالفة ويغلف الطلب السلطوى بادعاء احتكار الحق الحصرى للحديث باسم الوطنية، ومن يشوهون المعارضين بإفك يهدف إلى تجريدهم من كل قيمة أخلاقية وإنسانية ووطنية، وينتسب إليها أيضا من يحملون فى جولات الحاكم الفرد الخارجية للتهليل والتصفيق والصراخ الهيستيرى والجماعى فى أوجه المعارضين إذا لزم الأمر. ولأن الإسهام فى إماتة النقاش العام، شأنها شأن صناعات خدمة السلطان الأخرى، تعود على ممارسيها بالحماية من القمع وبالعوائد المادية وعوائد المكانة المجتمعية الزائفة، يتنافس الكثيرون ومن أجيال متعاقبة وخلفيات مهنية متنوعة على المزج بين مهارات إماتة النقاش العام وتقديمها كلها فى قالب واحد كتابات صحفية للأقلام المعروف عنها التبعية للأجهزة الأمنية والاستخباراتية، برامج حوارية تمجد البطل المنقذ وتشوه المعارضين، ومجموعات الترويج لتغييب الحقائق والمعلومات والعقل عن وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعى. والحصيلة هى مجال عام دون عقل ومجتمع تسيطر عليه الهيستيريا وحكم فرد لن تكون تداعياته مختلفة عن تداعيات سابقيه الكارثية وتجريد للشعب من كل قيمة أخلاقية وإنسانية مستقلة وغير مستندة إلى التبعية للحاكم الفرد حتى حين ينجز الشعب الكثير. غدا.. هامش جديد للديمقراطية فى مصر.