ما بين ألعاب الشاطئ ومسابقات الجمال والمايوهات ودور السينما والكازينوهات وغيرها من سُبل الترفيه التى امتلأت بها مصايف زمان وعلى رأسها الإسكندرية، اعتاد أبناء طبقة «الهاى لايف» (كما كانت تطلق عليهم صحافة زمان) من الباشوات والبكوات والوجهاء أن يستمتعوا بأوقاتهم طوال أشهر الصيف. كان البحر بطبيعة الحال هو الوجهة الأولى للمصطافين، مثلما كانت بلاجاته مسرحا لكثير من الأنشطة بداية من التنزه على شاطئه أو «التمشية» حتى ممارسة الألعاب والمسابقات. وقد كان هناك متسع لذلك، حيث لم تكن مساحات الشواطئ قد ضاقت بعد كما هو الحال فى كثير من شواطئ الإسكندرية الآن، ولم يكن كثير منها قد تحول إلى ما يشبه المقاهى المزدحمة ب«الترابيزات» و«الشيشة». شط إسكندرية وفى إطار تغطيتها لأخبار المصايف والمصطافين فى النصف الأول من القرن العشرين، نقلت لنا مجلة «المصور» بعدسات مصوريها وأقلام كُتابها الرشيقة فكرة دقيقة عن حياة هذه الطبقة فى الصيف. وعلى سبيل المثال، ففى صفحة مليئة بالصور مع قليل من التعليقات بتاريخ 15 أغسطس 1930 نعرف أن: «اشتداد الحر فى داخل القطر من جهة وانتقال وزارات الحكومة إلى الرمل من جهة أخرى أدى إلى ازدياد عدد المصطافين فى الإسكندرية وليس لهؤلاء سلوى فيها أكبر من البحر يؤمونه مرة فى اليوم أو مرتين فرارا من قيظ المدينة ورطوبتها». وإذا ما تتبعنا بعض هذه الصور سنجد «منظرا لأحد جوانب شاطئ البحر كما يبدو فى بولكلى برمل الإسكندرية وقد تمدد الرجال والنساء على الأرض للتمتع بالهواء العليل وللتسلى بمنظر المستحمين والمستحمات». أما فى البحر نفسه فلم يكن الأمر يقتصر على الاستحمام فقط إذ «كان هناك فريق من الشبان والفتيات يتسلون بلعب الجمباز فى وسط الماء» وغيرها من الألعاب. وفى صورة أخرى نرى «غادتان جميلتان من الحسان اللواتى يترددن على البحر فى الإسكندرية»، وفى مقابلهما وقف «شاب آخر يتنزه على شاطئ البحر ففاجأته الأمواج فى ساعة كان غارقا فيها فى بحار التأمل والتفكير». مسابقات للشماسى والمايوهات لم تقتصر أسباب الترفيه عند هذا الحد بالطبع، فقد كانت هناك أيضا مباريات ومسابقات للشماسى والكابينات والمايوهات «يُقيمها الأصدقاء فيما بينهم». وقد دارت عدة مباريات من هذا النوع فى شهر أغسطس من عام 1938، حيث فازت بمباراة الشماسى السيدة بهية سالم من سيدى بشر، وكانت الشمسية «حمراء ومرسوم عليها قلوب بيضاء»، أما «مباراة الكابينات» فقد فازت بها كابينة على ثابت المهندس بالبلدية، وهى كابينة فى غاية الجمال والنظافة، بداخلها ترابيزة يمكن تحويلها إلى سرير، ورفوف من البللور، وتواليت وبار صغير وسرفيس كامل». وتأتى أخيرا مباراة المايوهات، التى أشارت المجلة إلى أنه «ستُنظم لها مسابقة كبيرة، تم اختيار عمدة رأس البر الوجيه عبد الحميد صبحى الشيخ لينظمها ويشرف عليها، ولكن السيدة زهيرة شكرى تطمع فى أن تفوز بالجائزة الأولى بصفة عامة أو على الأقل فى جليم». لكن إلى جانب مسابقات المايوهات يبدو أنه كانت تعقد أيضا مسابقات للجمال، وهو ما يبدو من الشائعة التى أشار إليها باب «دنيا الصيف» فى أغسطس 1936 عن مسابقة من هذا النوع مما جعل محرر المصور يهمل خطة سابقة للذهاب مع أصدقائه للعجمى ويسرع إلى «ستانلى» ويجلس ويستمع إلى الحضور وهم يتحدثون عن جمال فلانة وفتنة علانة حتى بلغت الساعة الواحدة بعد الظهر واتضح أن الأمر مجرد شائعة. لكن يبدو أن هذه المسابقات كانت مرتبطة أكثر بالأجانب وهو ما يبدو من تعليق آخر منشور فى نهاية صيف 1935 يقول إن «مسابقات الجمال المحلية كثُرت»، إلا أن «العنصر المصرى» كان لا يزال محجما عن اقتحام هذا الميدان». حُُب وغرام وخلافه كانت مصايف زمان ميدانا مفتوحا لأشكال مختلفة من التفاعل والعلاقات بين الشُبان والفتيات اللاتى وصفتهن المصور بأنهن «بلغن الذروة من ناحية لبسهن، فأتقن إتقانا جعلهن بحق من أشيك فتيات العالم! وأتقن فن التجميل وفن الرقص وفن الإتيكيت العام. بل أصبحن يعنين كل العناية بتربية أجسامهن تربية رياضية فبدت أجساما فى غاية الانسجام». كانت «المعاكسات» موجودة بشكل يشبه بعض مما هى عليه الآن. ومن هذه «المعاكسات» نقرأ مثلا فى «المُصور» بتاريخ 21 أغسطس 1936، عن «كابينة» وصفتها المجلة بأنها «كابينة حظ ولاشك بالنسبة لأصحابها، ومنطقة خطر بالنسبة للسيدات وبنات العائلات». «يملك هذه الكابينة مدرس بإحدى المدارس الثانوية، ويحتلها معه فريق من أصدقائه وزملائه المدرسين، ولا تمر بها فى ساعة من ساعات النهار إذا قادتك قدماك إلى بلاج سبورتنج إلا وتسمع صوت الجرامفون، ورنين الضحك وضجيج المرح».. «ولكن لا تنجو حسناء تمر بالكابينة من بعض الكلمات الخارجة عن الذوق السليم، تصل إلى أذنيها فتُسرع فى مشيتها وقد أحمر وجهها خجلا». لكن بعيدا عن هذه «المعاكسات» غير المُرحب بها، فإن البنات كما جاء تحت عنوان «مشاهدات اجتماعية فى موسم صيف 1935»؛ كن «ملهوفات كأمهاتهن. لا يطقن الصبر على تعارف واحد بل ينتهزن فرصة الصيف حيث يتمتعن بكثير من الحرية ويتعرفن بأكبر عدد ممكن من الأولاد بنية خالصة للزواج». وعلى الجانب الآخر كان «الأولاد وهؤلاء أخبث من البنات وأبعد نظرا.. لا مانع لديهم من أن يمضوا أوقاتا لذيذة. ولكن ما من ولد تعرف ببنت بسهولة وفكر لحظة تفكيرا جديا فى الزواج منها». وكان هناك مكان أيضا للحب والغرام، حيث إن «عواطف صادقة قد تبودلت فى البلاجات وتحت الشماسى وفى دور السينما..»، وإن كان كاتب هذه المشاهدات الاجتماعية لم يتعاطف مع هذه العواطف واصفا إياها بأنها «ساذجة تحدث عادة بين الصغار من قليلى التجربة، فتحب البنت بإخلاص ويحب الولد بإخلاص ولكن طابع هذا الحب الصغير أنه حب صغير! يُمحى من القلب بمجرد الفراق الصغير! أو بمجرد طارئ جديد صغير! وهو فخ المبتدئين غير المجربين». كازينوهات ومسامرات شهدت كازينوهات إسكندرية التى ازدادت حركة بنائها مع إنشاء طريق الكورنيش عام 1934، جانبا كبيرا من الحياة الاجتماعية للمصطافين هناك، حيث كانت مقصدا رئيسيا لهم للتمتع بما تقدمه من حفلات وعروض فنية وسينمائية وأطعمة وما تتيحه من فرص لتجاذب أطراف الحديث. وقد كانت هذه الكازينوهات تستعد مع بدايات كل صيف لتستقبل الجمهور، حيث «قررت بلدية الإسكندرية مثلا فى بداية صيف 1938 منح إدارة كازينو «سان استفانو» إعانة قدرها 1500 جنيه، ولم تبح لعبة الروليت. واشترطت أن يكون رسم الدخول 5 قروش فقط فى الأيام العادية وسبعة قروش يومى السبت والأحد، وأن تكون سينما الكازينو دون مقابل لمن يدفع رسم الدخول المذكور. ومن داخل هذه الكازينوهات يرصد محررو المصور فى عدد 21 أغسطس 1936 «أنه بينما كان يهم بدخول كازينو الشاطبى سمع «ضحكات عالية تدل على انبساط من النوع الحاد».. «وكانت الضحكات للدكتور على باشا إبراهيم وجماعة من الأطباء الشبان.. وقد أعجبوا بالنمر فانبسطوا ونسوا المشارط وأنين المرضى». أما فى كازينو «سان استفانو» كما نشرت المصور فى 12 أغسطس 1938، فقد التقى المحرر بالسيدة استر فهمى ويصا وهى تقطع ساحة الكازينو ذهابا وإيابا مرات ومعها مدام محمد محمود خليل بك وكانت ترتدى فستان سهرة اضطرت أن تمسك بذيله الطويل. ثم انضم إليهما محمد محمود خليل بك ودار الحديث بالفرنسية». وبالإضافة لما سبق، كان هناك مكان يسمى «الكازينو»، ومن تقاليد هذا المكان «ذى التاريخ القديم» كما ذكرت المصور فى عددها بتاريخ 20 سبتمبر 1935 «أنه مقر الساسة والسياسيين والصحافة والصحفيين. فهناك الحكومة وهناك الوفد وهناك موظفو دار المندوب السامى. وهناك المفوضون السياسيون ثم هناك صاحبة الجلالة الصحافة ممثلة فى جميع أقطابها». وعملية التقاط الأخبار من الموائد ومن ساحة الكازينو عملية ظريفة، فإنه ما يكاد الصحفى «يستلقط» خبرا حتى يسرع إلى عاملة التليفون المسكينة فيطلب جريدته ويملى عليها الخبر الخطير». ومع نهاية موسم الصيف كان النشاط يخفت أو يتوقف تماما فى هذه الكازينوهات، وهو ما حدث مثلا فى أكتوبر عام 1937 فى معظم كازينوهات الإسكندرية، اللهم إلا فى كازينو سان استيفانو الذى «كانت الحياة لا تزال تدب فيه وتلقى ساحة الباتيناج إقبالا من الفتيات» كما لا حظ محرر مجلة المصور، وهو الأمر الذى أرجعه إلى «تشطيب المحال الأخرى». حفلات وداع للصيف امتلأت الإسكندرية بفيلاتها وكبائنها وكازينوهاتها وبلاجاتها بعديد من الحفلات التى تعكس تأثرا بكثير من العادات الأوروبية. وإلى جانب الحفلات والعزائم الكثيرة التى كان يُقيمها المصطافون ويدعون إليها بعضهم البعض لأسباب شخصية أو عائلية، كان من أبرز وأكثر هذه الحفلات علاقة بالصيف ما كان يطلق عليه حفلات افتتاح ووداع موسم الصيف بالثغر. وفى عدد 7 يوليو 1939 نقرأ مثلا أن «سعادة محمد حسين باشا محافظ الإسكندرية الذى انتقل إلى سراى أسما هانم حليم حرم المرحوم حسين واصف باشا بمحطة زيزينيا أقام بعد ظهر يوم الأحد حفلة شاى فخمة فى داره الجديدة دعا إليها أكثر من 350 شخصا من الكبراء الأجانب والوطنيين وكانت بمثابة افتتاح لموسم الصيف فى الثغر. أما عن حفلات الوداع التى تقام فى نهاية موسم الصيف فى شهر سبتمبر عادة، فنعرف مثلا فى نهاية صيف 1935 أنه قد «جاء الدور على الوجيه عزيز صدقى ليقيم حفلة وداعه للثغر، فدعا إخوانه إلى كابينة فى سيدى بشر، وبذل جهده لتكون حفلته أحسن من غيرها وخالف العرف فجعلها «ماتينيه». واجتمع أحمد زكى، وعادل سيد أحمد، وأحمد الخادم، وبعض كرائم العائلات.. واتخذت الجماعة من «التلتوار» بيست، ودار الرقص على أنغام الجرامفون. وكان الحديث كله بالفرنسية، فلم تكن تسمع لفظا عربيا إلا فلتة». وقد كثرت حفلات الوداع تلك فى نهاية صيف 1938 «وكلها تقام فى البلاج. ومن أبهج هذه الحفلات تلك التى ضمت السيدات زوزو الدرمللى ولطيفة فاضل وخيرية البكرى ومدام كومونوس والأساتذة يوسف الشريعى ولطفى منصور وفكرى مكرم، حيث تناولوا العشاء فى الكابين ببلاج سيدى بشر رقم 2 وأخذوا يرقصون على أنغام الجرامفون، وامتدت بهم السهرة حتى الثالثة صباحا». وكل صيف وأنتم طيبون!