من يتابع الأحداث من خلال ما تنشره الصحف أو تبثه الفضائيات لا بد أن ينتهى به الأمر إلى يقين بأننا نعانى أزمة دينية مستعصية. إما أننا قد تركنا ديننا وإما أننا نعيش زمن الضلالة أو أننا عدنا إلى عصر الجاهلية. هذا على الأقل ما يوحى به طوفان الفتاوى المرئية والمسموعة والمنشورة الذى يصحح فكر المسلم ويفك حيرته كل يوم، سواء تعلق الأمر بإرضاع الكبير حتى تحل خلوته فى مكان العمل مع زميلة له، أو فى صحيح «تزغيط» البط. كنت حتى وقت قريب أظن أن الدين هو علاقة خاصة جدا بين الإنسان وربه، وأن الأعمال بالنيات ولكل امرئ ما نوى، وأن الدين المعاملة وأننا خير أمة أخرجت للناس إلى آخر ما درجنا عليه من قناعات دينية فى القرن الماضى. لكن العقود الأربعة الأخيرة غيرت الكثير من المفاهيم عن الدين والتدين. أصبح الدين شأنا عاما للجميع مثل بضاعة رائجة يتنافس عليها المنتفعون ويدمنها الحائرون من كثرة الفتاوى وتضاربها. إرهاب المسلم للمسلم إما بالتكفير وإما بالتصفية الجسدية أصبح شرعا، والتحريض ضد الشيعة وخطر انتشار المذهب من جانب أئمة السنة أصبح شرعا، والاستغلال السياسى لشريعة الجهاد أصبح سلاحا تصفى به طائفة من المسلمين باسم الدين طائفة أخرى تختلف معها سياسيا، حتى إن «القاعدة» قتلت فى جهادها من الخصوم المسلمين فى أرجاء الأرض أكثر مما قتلت من «الكفار» و«الصليبيين» الذين تجاهدهم. أصبحت فروض الدين طقوسا اجتماعية يتنافس عليها ذوو المصالح، وأصبحت مظاهر ما سمّاه الروائى المبدع علاء الأسوانى ب«التدين البديل» هو الشرع السائد: أن تكذب وتغش وتسرق من أموال الدولة وأراضيها، وأن ترشو أو تنافق سعيا وراء كسب مادى حرام أو أمجاد كاذبة، وأن تضلل الرأى العام لتنعم برضا السلطة، أو تقوم بترهيب وتعذيب المعتقلين السياسيين إلى آخر هذه الممارسات هو واجب وظيفى مقدس أو شطارة رجل أعمال ناجح، ولا يتعارض ذلك كله مع ممارسة الطقوس الدينية بكل خشوع والتزام. كل هذه المظاهر تثير الخشية من نشوء «المؤسسة الدينية» التى تتغول إلى أن تصبح سلطة وسيطة بين الإنسان وربه، تنافس سلطة الدولة، وتحجر على التطور الفكرى والاجتماعى والعلمى، وتحكم جميع أوجه النشاط الإنسانى. وهذا يهدد جوهر الدين الإسلامى من حيث إنه علاقة خاصة ومباشرة ومفتوحة دون وسيط بين الإنسان وربه. كانت هذه أيضا هى مأساة الكنيسة الكاثوليكية فى العصور الوسطى: استغلت سلطتها الدينية لكى تحكم العلاقة بين الإنسان وربه كمؤسسة كهنوتية وسيطة، وبسطت باسم الدين نفوذها على الدول والإقطاعيات حتى أصبحت السلطة العليا التى تملك الدين والدنيا ومفاتيح الحياة الأبدية. وفى سبيل إحكام قبضتها أخضعت الفكر العلمى والسياسى والاجتماعى لمعايير كهنوتية من اختراع البشر كمفسرين ومفتين فى أمور الدين والدنيا. ولأنها احتكرت كل شىء كان من الحتمى أن يفضى الأمر إلى حركة الإصلاح الدينى فى أوروبا، وتبعتها النهضة الصناعية وتحرير العقل المتمرد على التزمت من قيود الكهنوت، وساعدت على ذلك الاكتشافات العلمية والكشوفات الجغرافية التى مهدت لعصر الاستعمار ونشأة الرأسمالية. وما كان لكل هذه التحولات العميقة أن تأخذ مجراها وراء المتاريس التى أقامتها الكنيسة الكاثوليكية أو بشروطها، لذلك كان من الضرورى فصل الدولة عن الدين أو أن يترك ما لله لله، وما لقيصر لقيصر. لكن فى أوطاننا اختلطت الأمور بين ما هو من شأن الدين وما هو من شأن الدولة والمجتمع والفكر. كفّر نفر من المتزمتين الدولة فاستعداها عليه. ووظفت الدولة الدين ففقد احترامه وقدسيته فى أعين الناس. واستبيحت الفتاوى لقتل المخالفين فى الرأى أو المذهب فسالت شلالات الدم فى العراق وأفغانستان والصومال والسودان وإندونيسيا وصولا إلى شمال نيجيريا، وانتشرت الاغتيالات بالعربات المفخخة والأحزمة الناسفة والصدامات المسلحة باسم شرع الله وفتاوى المحرّضين. وفى شأن السلوك الاجتماعى وعلاقته بالدين لا بد لى أن أعترف بأننى خلال أسفارى الطويلة وإقامتى فى العديد من البلدان لم أتعرف على ثقافة أصابها الهوس بجسد المرأة مثلما يحدث فى ثقافتنا الإسلامية، فقد تحسست الأحاديث والخطب والفتاوى الدينية كل مكان فى جسد الأنثى باسم الاحتشام والأخلاق الكريمة. وتعاملت الإناث مع هذه الضغوط كل فريق حسب ثقافته ومرونة المجتمع الذى يعشن فيه. فى مصر ترى الشابات المحتشمات قد ارتدين غطاء الرأس لإخفاء عورة شعورهن، ولكنك إذا دققت النظر قليلا إلى أسفل وجدت بنطلون الجينز الضيق يرسم كل ملامح الجسم فيما تحت الخصر، فى حكمة أنثوية تعطى ما لله لله وللغريزة الأنثوية حقها. فى باكستان يرتدى الناس الزى الشرعى ال«سروال قميص» وهو سروال فضفاض يغطى حتى ما تحت الركبة قميص طويل محتشم. ولكن عندما ارتدت صحفية سودانية أخيرا ما يشبه ذلك واجهت حكما بالجلد لأنها ترتدى «زيا فاضحا» من حيث إنه يختلف عن «التوب» السودانى التقليدى. وفى السعودية جنّت شابة متمردة فصورت نفسها وهى تقود سيارة ونشرت هذا «الكليب» على صفحات «اليوتيوب» على الإنترنت! هل هذا هو ما انتهى اليه الإسلام، الدين العظيم الذى أبدع حضارة عالمية انتشرت من مراكش والأندلس فى أقاصى الغرب إلى الصين والهند فى أقاصى الشرق فيما لم تبلغه الإمبراطورية الرومانية فى أوج مجدها ولا الحضارة الهيلينية فى قمة صفائها الحضارة التى استوعبت جميع ما سبقها من حضارات وهضمتها وتقدمت عليها ونقلتها للغرب، حضارة الفارابى والكندى وابن سينا وأبو بكر الرازى وابن رشد وابن خلدون والمئات من علماء المسلمين، الحضارة التى ما كانت لتبلغ ما بلغته لولا حرية الفكر والجدل والاجتهاد فى أمور الدنيا والدين؟ لا أدرى إذا كان المسلمون يعانون من نقص فى الإيمان أو إتباع سنن الدين وتعاليمه أو إقامة شعائره. كلما ألمّت بنا الكوارث قال لنا أئمتنا إنما يرجع ذلك لأننا تركنا صحيح الدين وسنة رسولنا، وكلما زدنا من عباداتنا وابتهالاتنا وصلواتنا الطقوسية كلما اشتدت الأزمة بالأمة، فلجأنا إلى الفتاوى فى كل صغيرة وكبيرة دون أن تحل عقدتنا. قيمنا تنهار وسلوكياتنا تتدهور وتقدمنا يتراجع وجهادنا يتحول إلى إرهاب أعمى اختلط فيه الكفاح المشروع بالقتل على الفتوى. ولا ندرى ما إذا كان المقصود هو تغييب العقل الجمعى لصالح المؤسسة الدينية التى تفتينا فى كل أمور حياتنا، ولعلها قد بلغت ذروتها مثل ما بلغته الكنيسة الكاثوليكية من قوة ونفوذ فى العصور الوسطى، فهل آن لها أن تتراجع؟