عن جدارة، ذهبت جائزة الإخراج للمغربى، نور الدين لخمارى، صاحب الفيلم الغريب العنوان «كازا نيجرا» والمقصود به «الدار السوداء»، تصحيحا أو سخرية من اسم «الدارالبيضاء» أو «كازا بلانكا»، ومنذ اللقطات الأولى، بل أثناء ظهور العناوين، تبدو موهبة المخرج واضحة: مع صوت أنفاس متلاحقة وإيقاعات متسارعة يطالعنا شابان يجريان سريعا، هربا من مطاردة الشرطة، تتوقف الحركة فجأة على وجه بطل الفيلم، أنس الباز، ثم تستكمل المطاردة لترصد الكاميرا زميل البطل، عمر لطفى، طبعا مع كتابة اسمه، وعلى هذا النحو يتواصل ظهور العناوين، وفى المشهد الافتتاحى تسير الكاميرا، فجرا، فى شوارع المدينة، أبواب المحال مغلقة، وتحت كلمات مكتوبة بخط عشوائى ردىء، من نوع «ممنوع وضع الزبالة»، و«لا تتبول هنا»، تراكم أكوام القمامة، كلب ضال ينبش النفايات بحثا عن طعام، ينطلق من شارع لآخر، وبعد عنوان «ثلاثة أيام قبل ما حدث»، تدب الحركة فى الشوارع، صبيان شريدان يبيعان السجائر المهربة لحساب بطل الفيلم، عربة شرطة تقترب، ينزل منها عدة عساكر، الصبيان ومن معهما يولون الأدبار، يلهثون، يصعدون إلى سطح عمارة ويختبئون. «كازا نيجرا» فيلم ليلى، ومن الممكن تصنيفه على أنه من «أفلام الشوارع»، فمعظم مشاهده تدور ليلا، بما يتلاءم مع أجواء الفساد والتآمر والجريمة، والكثير من الأحداث تقع فى الشوارع، حيث السيارات الفارهة وواجهات المحال الأنيقة والقاذورات فى الأركان وشذاذ الآفاق من خطافين إلى متشردين إلى متسكعين على غير هدى، بطل الفيلم وصديقه يعيشان فى ظروف وعرة، عامة وخاصة، فكلاهما مثل مئات الآلاف من الشباب، لا يجدان عملا، وأصبحا محتالين، أحدهما يعانى من سطوة زوج والدته الشرس، السكير، القوى البنية، الذى لا يتوقف عن إهانة الأم وابنها، والثانى يحنو على والده العجوز، المصاب بشلل رعاش، وأحدهما يريد تدبير المال اللازم أملا فى الهجرة إلى السويد، والثانى يتمنى ثروة يعيش بها محترما، وتتوالى الأحداث على نحو صارم، يتعاونان مع واحد من عتاة المجرمين، يخدعانه، يقتل الرجل فيفلتان من عقابه، وقبل نهاية الفيلم يكتب على الشاشة «بعد ثلاثة أيام»، فنشهد مطاردة الشرطة للشابين اللذين يواصلان العدو بأنفاسهما المنهكة، وهذا الشكل الدائرى فى بناء الفيلم حيث تتطابق النهاية مع البداية يعنى بقاء الحال كما هو عليه. «كازا نيجرا» يتدفق ساخنا، عنيفا، سريعا، وتتحول فيه الكاميرا إلى عين يقظة، تلتقط التفاصيل، المختلفة، وضبط إيقاع الفيلم اللاهث، لذا كانت جائزة الإخراج من حقه. غياب.. وحضور ملاحظة جديرة بالالتفات فى أسماء الممثلات، فى بيانات معظم الأفلام، تأتى فى الترتيب الثالث، وأحيانا الرابع، مما يعنى أن البطولة والدور الثانى حكرا على الممثلين، وربما يرجع هذا التهميش لأسباب اجتماعية أكثر من كونها فنية، وأدى هذا الغياب إلى حصر المنافسة على جائزة التمثيل نساء بين ثلاث نجمات، وأظن أن مناقشات لجنة التحكيم دارت حول المقارنة بين سهير حماد، بطلة «ملح هذا البحر» لأن مارى جسير، وإلهام شاهين بطلة «خلطة فوزية» لمجدى أحمد على، وإذا كانت الجائزة من نصيب نجمتنا المجتهدة، صاحبة الخبرة الطويلة، إلهام شاهين، فإن هذا لا يعنى تواضع مستوى سهير حماد، بوجهها الفلسطينى الذى يشف عن صفاء الروح وقوة الإرادة.+ إنها هنا تعود إلى «يافا» كى تطالب بودائع جدها التى جمدت فى أحد بنوك فلسطين عقب حرب 1948، وبلا صخب أو صراخ، تعبر سهير حماد عن أدق انفعالات الإنسان حين يواجه، بعزيمة صلبة، أعداء أقرب للوحوش الضارية. المنافسة على جائزة التمثيل «رجال» لم تكن سهلة، ولكنها ذهبت فى النهاية للممثل الجزائرى، حسان كشاش، بطل «أسد الجزائر» أو «مصطفى بن بولعيد» الذى أخرجه المخضرم أحمد راشدى، وهو من الحرس القديم فى السينما الجزائرية، حقق العديد من الأفلام المهمة، وحين شغل منصبا رفيعا فى مؤسسة السينما عمل على دفع عجلة الإنتاج داخل الجزائر وخارجها، ويحسب له مساهمته الفاعلة فى «العصفور» ليوسف شاهين، و«الأقدار الدامية» لخيرى بشارة، والعديد من الأفلام الأخرى، حسان كشاش، المناسب بامتياز لأداء دور المناضل الكبير الذى عاش حياته محاربا ضد الاستعمار، خلال ما يزيد على العقد ونصف، من 1940 إلى 1956، وعلى الرغم مما يعكسه وجه حسان من صلابة داخلية، فإنه ينجح فى التعبير عن أرق العواطف، خاصة فى علاقته الحميمة مع شقيقته التى يلتقيها هاربا فيحتضنها بعينيه، قبل وبعد أن تلقى بنفسها على صدره، وربما لأن فى ملامحه شيئا من عبدالناصر فإن التعاطف معه جاء عميقا، حسان كشاش، بأدائه السلس، جعلنا نلمس الينابيع الإنسانية للمقاتل بلا هوادة. مأزق.. لجان التحكيم غالبا، فى مهرجاناتنا السينمائية، نحن العرب، تتحرى لجان التحكيم العدالة، وفى ذات الوقت، تحاول تحقيق نوع ما من التوازن، وهى معادلة صعبة، وقد تكون خطيرة، خاصة إذا ذهبت إحدى الجوائز إلى فيلم ضعيف من دولة ما، من باب «جبر الخواطر»، وأظن أن هذا حديث، فى المهرجان، لمرة واحدة على الأقل، عندما حظى فيلم «سينيستا» أو «شارع الحبيب بورقيبة» للتونسى إبراهيم اللطيف ب«التنويه الخاص»، نعم، الجائزة صغيرة، لكن الفيلم أصغر، وهو من نوع «البارودى»، أى المحاكاة الكوميدية الساخرة للأعمال الشهيرة، مثل أفلام المافيا والعصابات والأخوان بلوز، لكن المشكلة أن «سينيستا» ثقيل الظل، شديد الافتعال، مفكك، لا يطاق، ولا يستحق ذلك «التنويه الخاص». دخلت سوريا التسابق بفيلمين: «الليل الطويل» لحاتم على، و«أيام الضجر» لعبدالحميد عبداللطيف، حاتم على مخرج تليفزيونى متميز، قدم عدة مسلسلات مهمة وناجحة، وكتب السيناريو الصديق الموهوب، هيثم حقى، وجاء «الليل الطويل» بالنسبة لى بمثابة الصدمة، وربما ما ضاعف صدمتى أنى توقعت عملا كبيرا يليق باسم الاثنين، لكنى فوجئت بسهرة تليفزيونية كئيبة، تتعرض لليلة خروج ثلاثة سجناء سياسيين من السجن، لا يجدون لهم مكانا إنسانيا فى الخارج، بل يموت أحدهم قبل أن يصل إلى بيته، الفيلم، فى نتيجة من نتائجه التى قد تزعج كاتبه ومخرجه، أنه يحذر من مغبة الانخراط فى السياسة، وذلك لأن من تسول له نفسه بالمعارضة أو الخروج عن الإذعان سيقضى عشرين عاما فى «الليل الطويل»، وبعد الإفراج عنه، لن يجد نفسه ولا عالمه.. وغالبا، وجدت اللجنة فى لمسات عبداللطيف عبدالحميد الذكية، وتفاصيله الكوميدية التى تتخلل تراجيديا «أيام الضجر»، استحقاقا بجائزة السيناريو، منحته إياها. بعيدا عن لعبة التوازنات، فاز «ملح هذا البحر» بجائزة لجنة التحكيم الخاصة، ليس بسبب تلك الأجواء الفلسطينية التى توفرت، بأريجها، على المهرجان، ولكن لقيمة وجمال وعمق تأثير الفيلم، إنه يتسم بنضارة لم تتوفر فى أى فيلم آخر، وحتى الأغنية القديمة اكتسبت منه واكسبته «نضارة» من نوع ما، فمثلا، تسأل البطلة عن أشياء بيت جدها، تجيبها الفتاة الإسرائيلية التى احتلت البيت أنها باعتها لتاجر عاديات، وداخل الدكان تتأمل بطلتنا الأشياء القديمة، ومنها أجهزة الراديو والجرامفون، ويسطع صوت أسمهان بأغنية «إمتى ها تعرف إمتى.. إنى باحبك إنت»، وتخرج الكاميرا لتطل على البحر وتنظر إلى المدينة، ومع استمرار الأغنية تبدو كما لو أنها كتبت ولحنت من أجل هذا الموقف تحديدا. إنه فيلم يثير العقل ويلمس شغاف القلب، لكن جائزة أفضل فيلم ذهبت ل«خلطة فوزية».. فلا بأس..