«مستقبل وطن».. أمانة الشباب تناقش الملفات التنظيمية والحزبية مع قيادات المحافظات    تفاصيل حفل توزيع جوائز "صور القاهرة التي التقطها المصورون الأتراك" في السفارة التركية بالقاهرة    200 يوم.. قرار عاجل من التعليم لصرف مكافأة امتحانات صفوف النقل والشهادة الإعدادية 2025 (مستند)    سعر الذهب اليوم الإثنين 28 أبريل محليا وعالميا.. عيار 21 الآن بعد الانخفاض الأخير    فيتنام: زيارة رئيس الوزراء الياباني تفتح مرحلة جديدة في الشراكة الشاملة بين البلدين    محافظ الدقهلية في جولة ليلية:يتفقد مساكن الجلاء ويؤكد على الانتهاء من تشغيل المصاعد وتوصيل الغاز ومستوى النظافة    شارك صحافة من وإلى المواطن    رسميا بعد التحرك الجديد.. سعر الدولار اليوم مقابل الجنيه المصري اليوم الإثنين 28 أبريل 2025    لن نكشف تفاصيل ما فعلناه أو ما سنفعله، الجيش الأمريكي: ضرب 800 هدف حوثي منذ بدء العملية العسكرية    الإمارت ترحب بتوقيع إعلان المبادئ بين الكونغو الديمقراطية ورواندا    استشهاد 14 فلسطينيًا جراء قصف الاحتلال مقهى ومنزلًا وسط وجنوب قطاع غزة    رئيس الشاباك: إفادة نتنياهو المليئة بالمغالطات هدفها إخراج الأمور عن سياقها وتغيير الواقع    'الفجر' تنعى والد الزميلة يارا أحمد    خدم المدينة أكثر من الحكومة، مطالب بتدشين تمثال لمحمد صلاح في ليفربول    في أقل من 15 يومًا | "المتحدة للرياضة" تنجح في تنظيم افتتاح مبهر لبطولة أمم إفريقيا    وزير الرياضة وأبو ريدة يهنئان المنتخب الوطني تحت 20 عامًا بالفوز على جنوب أفريقيا    مواعيد أهم مباريات اليوم الإثنين 28- 4- 2025 في جميع البطولات والقنوات الناقلة    جوميز يرد على أنباء مفاوضات الأهلي: تركيزي بالكامل مع الفتح السعودي    «بدون إذن كولر».. إعلامي يكشف مفاجأة بشأن مشاركة أفشة أمام صن داونز    مأساة في كفر الشيخ| مريض نفسي يطعن والدته حتى الموت    اليوم| استكمال محاكمة نقيب المعلمين بتهمة تقاضي رشوة    بالصور| السيطرة على حريق مخلفات وحشائش بمحطة السكة الحديد بطنطا    بالصور.. السفير التركي يكرم الفائز بأجمل صورة لمعالم القاهرة بحضور 100 مصور تركي    بعد بلال سرور.. تامر حسين يعلن استقالته من جمعية المؤلفين والملحنين المصرية    حالة من الحساسية الزائدة والقلق.. حظ برج القوس اليوم 28 أبريل    امنح نفسك فرصة.. نصائح وحظ برج الدلو اليوم 28 أبريل    أول ظهور لبطل فيلم «الساحر» بعد اعتزاله منذ 2003.. تغير شكله تماما    حقيقة انتشار الجدري المائي بين تلاميذ المدارس.. مستشار الرئيس للصحة يكشف (فيديو)    نيابة أمن الدولة تخلي سبيل أحمد طنطاوي في قضيتي تحريض على التظاهر والإرهاب    إحالة أوراق متهم بقتل تاجر مسن بالشرقية إلى المفتي    إنقاذ طفلة من الغرق في مجرى مائي بالفيوم    إنفوجراف| أرقام استثنائية تزين مسيرة صلاح بعد لقب البريميرليج الثاني في ليفربول    رياضة ½ الليل| فوز فرعوني.. صلاح بطل.. صفقة للأهلي.. أزمة جديدة.. مرموش بالنهائي    دمار وهلع ونزوح كثيف ..قصف صهيونى عنيف على الضاحية الجنوبية لبيروت    نتنياهو يواصل عدوانه على غزة: إقامة دولة فلسطينية هي فكرة "عبثية"    أهم أخبار العالم والعرب حتى منتصف الليل.. غارات أمريكية تستهدف مديرية بصنعاء وأخرى بعمران.. استشهاد 9 فلسطينيين في قصف للاحتلال على خان يونس ومدينة غزة.. نتنياهو: 7 أكتوبر أعظم فشل استخباراتى فى تاريخ إسرائيل    29 مايو، موعد عرض فيلم ريستارت بجميع دور العرض داخل مصر وخارجها    الملحن مدين يشارك ليلى أحمد زاهر وهشام جمال فرحتهما بحفل زفافهما    خبير لإكسترا نيوز: صندوق النقد الدولى خفّض توقعاته لنمو الاقتصاد الأمريكى    «عبث فكري يهدد العقول».. سعاد صالح ترد على سعد الدين الهلالي بسبب المواريث (فيديو)    اليوم| جنايات الزقازيق تستكمل محاكمة المتهم بقتل شقيقه ونجليه بالشرقية    نائب «القومي للمرأة» تستعرض المحاور الاستراتيجية لتمكين المرأة المصرية 2023    محافظ القليوبية يبحث مع رئيس شركة جنوب الدلتا للكهرباء دعم وتطوير البنية التحتية    خطوات استخراج رقم جلوس الثانوية العامة 2025 من مواقع الوزارة بالتفصيل    البترول: 3 فئات لتكلفة توصيل الغاز الطبيعي للمنازل.. وإحداها تُدفَع كاملة    نجاح فريق طبي في استئصال طحال متضخم يزن 2 كجم من مريضة بمستشفى أسيوط العام    حقوق عين شمس تستضيف مؤتمر "صياغة العقود وآثارها على التحكيم" مايو المقبل    "بيت الزكاة والصدقات": وصول حملة دعم حفظة القرآن الكريم للقرى الأكثر احتياجًا بأسوان    علي جمعة: تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم أمرٌ إلهي.. وما عظّمنا محمدًا إلا بأمر من الله    تكريم وقسم وكلمة الخريجين.. «طب بنها» تحتفل بتخريج الدفعة السابعة والثلاثين (صور)    صحة الدقهلية تناقش بروتوكول التحويل للحالات الطارئة بين مستشفيات المحافظة    الإفتاء تحسم الجدل حول مسألة سفر المرأة للحج بدون محرم    ماذا يحدث للجسم عند تناول تفاحة خضراء يوميًا؟    هيئة كبار العلماء السعودية: من حج بدون تصريح «آثم»    كارثة صحية أم توفير.. معايير إعادة استخدام زيت الطهي    سعر الحديد اليوم الأحد 27 -4-2025.. الطن ب40 ألف جنيه    خلال جلسة اليوم .. المحكمة التأديبية تقرر وقف طبيبة كفر الدوار عن العمل 6 أشهر وخصم نصف المرتب    البابا تواضروس يصلي قداس «أحد توما» في كنيسة أبو سيفين ببولندا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أورهان باموق: كل ما قمعه المشروع الأتاتوركى يعود متخفيا فى رواياتى‬
منى أنيس ويوسف رخا يتحدثان إلى الكاتب التركى الأشهر أورهان باموق عن الهوية والاختلاف وعلاقة الإسلام بالعلمانية فى ما تنتجه إسطنبول من أدب
نشر في الشروق الجديد يوم 20 - 02 - 2015

‬‬أورهان باموق رجل وسيم، وهو يدرك ذلك ويستخدم وسامته كرأسمال مضاف لشهرته الأدبية وتربيته البرجوازية الناعمة. التقيته فى ندوة أدبية فى كوبنهاجن قبل ما يقرب من عشرين عاما، وأقمنا بضعة أيام فى الفندق نفسه. لم يكن قد حصل على جائزة نوبل وقتها، إلا أننى لاحظت كما لاحظ غيرى تحفظه فى التعاطى مع الآخرين، تحفظا تشوبه مسحة من التعالى وإن ظل تعاليا مهذبا. ‬
الأسبوع الماضى وبينما ننتظر باموق فى بهو فندق "الفورسيزونز" هنا فى القاهرة، تساءلتُ والصديق يوسف رخا عن صورة الكاتب الناجح إلى هذا الحد. وردا على قولى إن زهوه بنفسه لابد وأن يكون قد ازداد مع صعود نجمه قال يوسف: "هذا رجل حاز جائزة نوبل قبل أن يبلغ منتصف الخمسينيات، على عكس نجيب محفوظ وآخرين لم تصل إليهم الجائزة حتى مراحل متقدمة من العمر... والبادى أنه اعتنق الدور الذى هيأه له مثل هذا النجاح أيضا.. لم لا؟"‬.
أدهشنا باموق فور وصوله بإصراره على ذكر ما لا يود أن يتطرق له من موضوعات، وإيضاح ما يود أن يقوله إذا ما تطرق لها، إلا أننا فهمنا قلقه حين أدركنا أن تحفظاته تتعلق بأمور سياسية راهنة. يقول: أنا أحب الأدب عشرة أضعاف السياسة، وبما أننا جميعا نحب الأدب أكثر من أى شىء آخر، فدعونا نتحدث من خلال ما نحب. ‬
فيمزح يوسف مشيرا إلى: "لست متأكدا إذا ما كانت هى تحب الأدب أكثر من السياسة." ونضحك جميعنا قبل أن أوضح لباموق أن جيلى تربى وسط الأحداث السياسية الساخنة فلم يكن ممكنا تجنب السياسة. إلا أن باموق نفسه وهو من ذات الجيل استطاع أن ينحى السياسة جانبا فى القسم الأكبر من أعماله. أسأله كيف.‬
يقول باموق: لنبدأ من هنا. فعلى الرغم من أننى لا أعد نفسى من رجال السياسة إلا أن تركيا مرت بأحداث سياسية كثيرة ساخنة، ولذا أحيانا ما أجد نفسى مضطرا للتعليق فى وسائل الإعلام على الأحداث السياسية فى بلادى، نظرا لأنهم لا يجدون غيرى للتعليق ولأنى أحب أن أكون صريحا.‬
"إذن لنبدأ من التجربة التركية كما تنعكس فى أعمالك" هكذا أجيبه خاصة رواية "الثلج" (2002)، والتى قلت إنها عملك السياسى الوحيد. أنت تتناول فيها التيارات السياسية المختلفة وقضايا العلمانية والاسلام السياسى.."‬.
يقول باموق: مصر بلد محورى فى فهم العلاقة بين الإسلام والسياسة والعلمانية، وكذلك تركيا. وقد كتبت رواية "الثلج" كمحاولة لتناول هذه القضايا أدبيا. لقد قلت لنفسى وأنا أشرع فى كتابة هذه الرواية: لقد اخترت الإطلال على روح الأمة فى رواياتك السابقة، مرة من نافذة الفن كما فى رواية "اسمى أحمر"، ومرة من خلال مدينة اسطنبول كما فى رواية "الكتاب الأسود". والآن جاء وقت الإطلال على الأمة من خلال نافذة السياسة. يعرف الناس فى مصر وفى العالم الإسلامى بل وفى أنحاء أخرى من العالم غير الغربى حالة التوتر بين الدين وبين الحريات الفردية والحداثة بشكل عام. ‬
وفى رواية "الثلج" قمت بعمل معالجة درامية لهذا التوتر. إن جزءا كبيرا من شعبية هذه الرواية فى عالمنا له علاقة بتناولها لموضوع التقاليد فى مواجهة النزعة الفردية، وله علاقة أيضا بتناولى لموضوع مكانة الجيش فى المجتمع. أما فى الولايات المتحدة وأوروبا فإن شعبية هذه الرواية لم تتأت بسبب طرحها لتلك القضايا بل فى الأساس بسبب تناولها لموضوع الإسلام السياسى وهو ما كان الغرب يخشاه ولا يعرفه. وهكذا بدا وكأن كتابى يفتح لهم عالما مجهولا، بينما فى عالمنا نحن استطاع القراء تفهم ما أتحدث عنه من صراع بين الفردية وبين الانتماء للأمة وتحدى القوى المهيمنة سياسيا، تناولى لمكانة الجيوش الأبدية فى مجتماعاتنا إدانتى لتعامل البوليس الهمجى مع الشعب.. وكلها ظواهر معروفة لشعوب منطقتنا.‬
يقول يوسف: "يبدو لى من أعمالك ومما قرأت من سيرتك أنك نشأت بمعزل عن تيارات الإسلام السياسى"‬.
يرد باموق: نعم، أنا أنتمى طبقيا للشرائح العليا من الطبقة الوسطى، وهى الشرائح البرجوازية المؤمنة بالمبادئ الجمهورية والعلمانية. وفى الزمن الذى نشأت فيه أستطيع إن أقول أن ثمانين فى المئة من تكوين الطبقة العليا فى تركيا كان علمانيا. أما الآن فإن تركيب الطبقات العليا قد اختلف كثيرا.‬
فيعود يوسف يؤكد: "اعتدنا فى مجتماعاتنا أن نرى الدين كعنصر أساسى فى تنمية الحس بالانتماء للجماعة، هل تعتقد أن العلمانية تستطيع أن تخلق بين معتنقيها هذا الحس الجمعى نفسه؟"‬.
يجيب باموق: بكل تأكيد. فهناك فى تركيا جماعة علمانية قوية وأنا أنتمى لهذه الجماعة. أنا أؤمن بشدة بالعلمانية التى تربيت عليها فى عائلتى وتعلمتها من خلال قراءاتى ومعتقداتى الإنسانية. ولكنى عشت هذه القيم ومارستها من خلال العائلة قبل أن أتوصل للاقتناع بأهميتها من خلال القراءة. ولم أتعلم العلمانية وحدها من عائلتى بل تعلمت أيضا احترام الكثير من القيم المرتبطة لدى بالغرب: قيم الاحترام لقدرة الفرد على العمل الخلاق، وتقدير الغرابة والتفرد والاختلاف. لقد تعلمت هذه الأشياء من عائلتى أولا.‬
نسأل: "هل نفهم من كلامك إذن أن العلمانية لم تمثل أى عقبة تاريخية فى تركيا أمام الانتماء للمجموع؟ وهل العلمانية والكمالية صنوان؟"‬.
فيؤكد: لا أرى أى مشكلة تاريخية مع العلمانية. المشكلة تنشأ من إساءة استخدام شعارات العلمانية فى إضفاء الشرعية على الانقلابات العسكرية وعدم احترام أصوات الناخبين. وللأسف فإن الجيش التركى اعتاد فى الماضى ولعقود طويلة إساءة توظيف العلمانية ولكن هذا الأمر أصبح من الماضى الآن فالجيش لم يعد يتدخل فى السياسة. أما بالنسبة للكمالية فأنا أحب كمال أتاتورك. لقد ظهر بعد الحرب العالمية الأولى فى عصر مختلف عن عصرنا ولا يجوز الحكم على ما قام به بمقاييس عصرنا الحالى.‬
"لكن طالما أن العلمانية والقيم الغربية هى نقطة انطلاقك وطالما أنك لا تجد مشكلة فى الانتماء لها قلبا وقالبا" هكذا يقول يوسف، مصمما على الخوض فى القضية "من أين يأتى الإحساس بالاختلاف عن الغرب وحس الاغتراب الذى نستشعره فى أعمالك؟"‬.
يتمهل باموق لوهلة قبل أن يجيب: نعم، أنا مختلف. أنا مختلف لأن ثقافتى مختلفة نظرا لأن تركيا بلدى تختلف عن البلدان الأخرى. ولكن هذا لا يعنى عدم اعتناق العلمانية. أنا أؤكد فى أعمالى على اختلاف ثقافتى ولكنى أؤكد أيضا على القيم الغربية التى أحبها كاحترام حقوق المرأة وحرية التعبير والصحافة واحترام حقوق الأقليات واحترام أصوات الناخبين. أنا أؤمن بالديمقراطية البرلمانية. لست بالشخص الحالم الذى يريد تغيير العالم من خلال المشاريع السياسية الكبيرة.. ولكن ها قد عدنا إلى السياسة. (وهنا يرتفع صوت باموق بما يشبه الضجر)، ألم نقل إننا سنبتعد عنها؟‬
أقول: "فلنبتعد عن السياسة إذن ونتحدث عن علاقتك بالتاريخ العثمانى الذى تناولته فى عملين من أعمالك هما، القلعة البيضاء واسمى أحمر".‬
يستطرد: أعمالى هى فى جزء منها رد فعل على كتابات الأجيال التى سبقتنى من الكتاب الأتراك، والذين تبنوا الواقعية المباشرة مثلهم مثل أغلب الكتاب فى هذا الجزء من العالم. لقد آمنوا بالخطاب الغربى عن النمو والتقدم بشكل ساذج فاعتقدوا أن التدين الشعبى سيختفى حينما تتحسن أمورنا المادية. ولم ينتبهوا لأهمية الدين فى فهم حياة البشر. وكان من أثر هذا كله تبنى الواقعية المباشرة فى الكتابة الأدبية، سواء أكانت واقعية اشتراكية أو واقعية نقدية. أذكر أننى عندما بدأت الكتابة الأدبية كانت النماذج المطروحة للأدب تتمثل فى كتابات شتاينبك ومكسيم جوركى وربما هيمنجواى إلى حد ما. لم تكن هذه الذائقة تتسع حتى لأعمال ويليام فوكنر الذى كانت تعتبر أعقد مما ينبغى. ‬
لقد تم تجاهل الجوانب المعقدة والسوداء فى النفس البشرية والحنايا غير العقلانية وغير المفهومة فى العقل البشرى. أنا أردت حين شرعت فى الكتابة أن أتناول هذه القضايا التى تم تجاهلها طويلا. وإذا أردت أن أصيغ هذه القضية بشكل أبسط لعلنى أقول: مثلما أحب الواقعيين الأتراك جوركى وشتاينبك، أحببت أنا نابوكوف وبروست وبورخيس. ولم يعجبنى فى الموروث التركى اليسارى تجاهل الجوانب التى تتناولها أعمال من أحببت من الكتاب.‬
أسأل: "هل تعنى بميراث الكتابة اليسارية فى تركيا أدباء كعزيز نسين مثلا؟" لكن قبل أن أورد الأسماء الكبيرة الأخرى فى الأدب التركى التى أريد أن أسأله عنها ناظم حكمت، على سبيل المثال يبدو الضيق الشديد على وجه باموق، وبصوت حاد يقاطعنى: لا تدفعى بالأسماء فى وجهى.‬
يواصل: هذا الجيل أيضا لم يكن مهتما بالموروث الثقافى العثمانى. وقد أردت لهذا الموروث أن يظهر بوضوح فى رواية "اسمى أحمر". لقد ساد فى الأدب التركى الحديث اتجاه عام لتجاهل المواضيع المتعلقة بالأسلام. فإذا ما تحدثنا مثلا عن جلال الدين الرومى أو فريد الدين العطار فإن هذا يغضبهم، بينما أعتقد أنه من الممكن الجمع بين العلمانية وبين الاهتمام بالتراث. إننا اذا ما تمعنا فى هذا التراث الثقافى الثرى والجميل يمككنا أن نخرج بكتابة معاصرة وعلمانية جديدة. فواجبنا ككتاب هو اكتشاف أشكال جديدة من الكتابة الحديثة عوضا عن تقليد بورخيس وادجار الان بو.‬
تتناول رواية "اسمى أحمر" حرفة الرسم التى أحبها بالرغم من فشلى فيها، ولكنها تتناول أيضا النصوص الكلاسيكية، ذلك أن نشأة حرفة الرسم الإسلامى ارتبطت بالرسوم الإيضاحية لهذه النصوص الادبية. ولهذا أردت إحياء ذلك التراث الأدبى لأقول للقارئ التركى: هاكم أعمال تقابل أعمال شكسبير فى بريطانيا مثلا. فالسادة الأتراك فى القرن السابع عشر كانوا يتعاملون مع هذه النصوص مثلما يتعامل الإنجليز مع شكسبير الآن. وبينما كنت أقرأ هذه الأعمال من موقعى الطبقى كأحد أبناء الطبقات العليا الذين يقطنون الأحياء الراقية، كنت أكتشف أشياء جديدة بالنسبة لى. فقد تم تهميش الثقافة التقليدية والنظر إليها باعتبارها ثقافة الطبقات الدنيا حيث إن التغريب فى تركيا كان فى جانب من جوانبه ظاهرة طبقية.‬
وهنا يسأل يوسف: "عندما بدأت فى تناول الموروث العثمانى هل أحسست بأنه أجنبى أو غريب عنك، وإذا كان الأمر كذلك فكيف تمكنت من استعادة القرب إليه؟"‬.
لم يكن هذا التراث أجنبيا. لم أكن أعرف الكثير عنه لكن هذا لا ينفى أنه كان مألوفا جدا، لأن كل هذه الحواديت التى تنتمى للقرون الوسطى تسللت بشكل خفى إلى الثقافة الشعبية التركية المتمثلة فى الأفلام وطرق السلوك اليومى والطقوس الحياتية. وأحيانا ما أقول مازحا إن كل ما تم قمعه (بالمفهوم الفرويدى) بسبب المشروع الحداثى الأتاتوركى يعود متخفيا فى رواياتى. فرواياتى تمثل عودة التراث العثمانى التقليدى المقموع متخفيا فى ثوب ما بعد حداثى. وهذ أحد أسباب شعبية أعمالى. ‬
يضيف يوسف: "فهل يجوز إذن وصفك فيما بعد بالإسلامى؟" فيضحك باموق نافيا بشدة، رافضا التصنيفات وقائلا إنه ليس حتى مابعد حداثيا، الأمر الذى يستدعى سؤاله عن التجارب الشكلية فى أعماله ومحاولاته التوصل إلى أسلوب خاص فى الكتابة أو ومتى تم ذلك وضعا فى الحسبان أنه جرب أشكالا مختلفة للتناول الروائى بدءا من أسلوب الواقعية النقدية فى عمله الأول "جودت بك وابناؤه" (1982) ومرورا بالكتابة البوليسية التى تتناول جماعات سرية منغلقة على نفسها فى "الكتاب الأسود" (1990) بل وعالم القوى السحرية السفلى فى "الحياة الجديدة" (1994).‬
أقول: "الآن وقد تجاوزت الستين هل يمكن القول إنك توصلت لأسلوب محدد تعرف عندما تجلس للكتابة أنك ستكتب من خلاله؟"‬.
يجيب: أعتقد أننى توصلت لما تصفين بأسلوبى الخاص بعد أن فرغت من كتابة "القلعة البيضاء" وأثناء كتابة "الكتاب الأسود". وقتها أحسست بأننى قد عثرت على الصوت المناسب لى. وعندما يشعر الكاتب بأنه عثر على صوته فإنه يبدأ فى تقليد نفسه. فمثلا "اسمى أحمر" تحمل الكثير من سمات "القلعة البيضاء" و"الكتاب الأسود". أنا الآن أكثر من أى وقت مضى أمتلك حسا قويا بأسلوبى الخاص. دعينى أحاول أن أبسط سمات أسلوبى الخاص هذا كما أراها أو كما يتلقاها القارئ. فى حالتى الخاصة أجدنى موزعا بين نوعين من القراء: القراء الذين يهمهم الأدب فى المقام الأول يقولون إن "الكتاب الأسود" أهم أعمالى وإننى لن أكتب عملا آخر يفوقه، بل أحيانا ما يقول لى أحد هؤلاء عندما أصدر كتابا جديدا: لقد خنت "الكتاب الأسود" مرة أخرى. أما النوع الأخر من القراء فهو النوع الذى أعجب بالقصة الواقعية لأربعين سنة من التاريخ الاجتماعى التركى فى رواية "جودت بك"، وهؤلاء عادة ما يقولون: لقد بدأت بداية قوية ثم أتيت بأفعال غريبة بعد ذلك جريا وراء ما بعد الحداثة. وكلما بدا لى أننى أرضيت أحد الطرفين، فإننى أجد الطرف الآخر قد غضب. ويبدو أننى سأقضى بقية عمرى موزعا بينهما. ‬
يسأل يوسف: "وهل ينطبق نفس هذا الأمر على القراء خارج تركيا؟".‬
فيقول باموق: الوضع يختلف خارج الدائرة التركية فعادة ما يصبح الأديب معروفا فى الغرب، نظرا لإعجاب القراء بعمل معين. طبعا هناك من يقرأ أكثر من عمل للكاتب نفسه، ولكننى مثلا معروف فى الولايات المتحدة بسبب رواية "الثلج"، بينما لا يهتم القارئ الصينى بهذه الرواية ويحب رواية "اسمى أحمر"، لأنها تتناول طرق رؤية الأشياء والصينيون كما نعلم يمتلكون تراثا عظيما فى التصوير، كما أن هذا العمل بالذات يتناول موضوع فن التصوير التقليدى فى مواجهة الحداثة والقلق الوجودى بخصوص هشاشة الهوية فى العالم الحديث، وكل هذه القضايا تعنى القارئ الصينى أو الكورى مثلا.‬
القارئ الغربى لا يهتم بإشكالية تحقق الفردية فى مجتمعاتنا. وهنا ينبغى التمييز بين نوعين من القراء: القارئ الأمريكى والقارئ الأوروبى. القارئ الأمريكى يقرأ ليتعرف على شىء جديد مثل الإسلام السياسى فى "الثلج" أو فن المنمنمات فى "اسمى أحمر"، أما القارئ الإسبانى مثلا فيفضل كتاب سيرتى الذاتية وسيرة مدينة أسطنبول. وأنا سعيد بأننى لا أرتبط فى ذهن جميع القراء بكتاب واحد كما يحدث لأغلب الكتاب. أنا أحب فكرة تنوع القراء وارتباط كل نوع منهم بعمل مختلف.‬
أسأل اورهان باموق عن روايته الأخيرة "متحف البراءة" وعن مغزى كتابة رواية عن الذكريات التى أقام لها باموق متحفا فى الكتاب وفى الواقع، وأطلب منه أن يتحدث عن مشروعه هذا بتحويل الزمن الضائع إلى متحف وهل يعكس ذلك رغبة فى الترويح عن نفسه وعن قرائه، خاصة وأنه يعيد الاعتبار لما هو ساذج وسينتمنتالى من الأعمال كما يتبين من عنوان محاضراته التى ألقاها فى جامعة هارفارد عام 2011.‬
وباموق يتفق معى فى أهمية الترويح والتسلية، قائلا عن روايته الأخيرة "متحف البراءة": هى قصة حب تتناول الكثير من التفاصيل السينتمنتالية وهى الآن فى تركيا أكثر رواياتى مبيعا، ليس فقط بسبب اهتمام أهل الأدب بها ولكن لأن الكثير من العشاق يقرأون هذا العمل لفهم هذا العشق الحارق الذى يستولى على كيان المرء ويحجب أى شىء ما عداه. وربما يرجع جزء من شعبية هذه الرواية إلى ارتباطها بالمتحف الذى تم افتتاحه فى أسطنبول منذ ثلاث سنوات. أنا فخور جدا بأننى لم أضطر إلى طلب المال من أى جهة لتمويل المتحف، فعائد التذاكر يكفى للإنفاق على هذا المشروع الذى يتسم بالاكتفاء الذاتى. وقد بدأت فى التفكير فى مشروع المتحف أثناء كتاباتى للرواية. ومن ثم فالمشروعان مرتبطان. وكما تعلمين من الرواية فإن المتحف يحتوى على أشياء كثيرة صغيرة مأخوذة من مفردات الحياة اليومية فى مدينة اسطنبول ما بين الخمسينيات والتسعينيات من القرن الماضى. أفلام، كروت بوستال، وصور لأشخاص ينتمون للطبقة نفسها التى تحكى الرواية عنها. ومن ثم فإن القصص التى تتناولها الرواية تصبغ على المتحف الكثير من السحر. كما أن طريقة ترتيب الأشياء المعروضة فى الفاترينات والصناديق فنية. كل شىء فى المتحف بدءا من المبنى نفسه حتى أصغر الأشياء يرتبط برغبتى الشديدة فى الحفاظ على الذكريات. وكنت أواجه بعدم التصديق كلما تكلمت عن هذا الموضوع، تماما كما لم يصدقنى الكثيرون عندما قلت فى بداية شبابى إننى أود أن أكتب روايات. ‬
والحمدلله أننى تمكنت من تحقيق الأمنيتين. فطالما أحسست بأن داخلى فنان تشكيلى محبط ينتظر البعث وكم أسعدنى نجاح هذا المتحف والاحترام الذى حظى به من جانب المتخصصين فى فن المتاحف. لقد اشتركت فى تنسيق المتحف مع المتخصصين وحظيت بصداقات عديدة فى الوسط الفنى. أعطانى المتحف حياة جديدة. فقبل هذا المشروع كان جل أصدقائى من الكتاب، أما الآن فقد أصبحت صديقا للعديد من الفنانين وأتلقى الدعوات للكثير من المعارض الفنية بل وألقى محاضرات عن الفن. إن هذا يسعدنى كثيرا.‬
يشغلنى سؤال عما يسمى "أسلوب آخر العمر"، وكيف يلجأ العديد من كبار الكتاب للكتابة عن الجنس مع الصغيرات الحسناوات. ومحاولة أن أصيغ السؤال بطريقة مهذبة أسأل عن مغزى تناوله هذه المرحلة من النضج الفنى والعمرى لقصة حب ملتهبة مع فتاة صغيرة. إننى أتذكر أنه أبدى إعجابا بكاتب "لوليتا"، فأقرر أن أبتعد عن "لوليتا" وأتحدث عن كتاب الكاتب اليابانى ياسونارى كواباتا الحائز جائزة نوبل للآداب عام 1968، والذى كان فى الستينيات من العمر عندما كتب روايته الصغيرة الشهيرة "منزل الجميلات النائمات" (1961). وهى الرواية التى ألهمت كاتبا عظيما آخر هو جبريل جارثيا ماركيز كتابة آخر أعماله الروائية "ذكريات عاهراتى الحزينات" وهو فى نهاية السبعينيات من العمر. إذاك يبدو على باموق شىء من الحرج أحسه أنا الأخرى. ‬
ويقول له يوسف رخا ممازحا: "هى تقول لك بلا لف ودوران إنك تقدمت فى العمر." ويضحك ثلاثتنا وأقرر أن أتنازل عن السؤال. لكن قبل أن ننتهى يسارع يوسف بسؤال باموق عما إذا كان يود أن يقول شيئا عن زيارته لمصر.‬
يقول باموق: أنا سعيد جدا بزيارة مصر فى هذه الأوقات العصيبة والتى تشهد انتهاكات لحقوق الإنسان، حيث يتعرض الكثير من الناس لمتاعب متعددة ويسود إحساس بأن هناك الكثير من المظالم. وقد جئت لمشاهدة ذلك وللحديث مع أناس ذوى آراء متنوعة. فمصر هى البلد الأهم فى العالم الإسلامى، ومن ثم فإن صدى ما يحدث فى مصر يتردد فى جميع أنحاء العالم وليس فقط العالم الإسلامى. وبجانب هذا فأنا سعيد بالطبع للالتقاء بقرائى من المصريين.‬
••أعمال أورهان باموق وفقا لتاريخ النشر فى تركيا‬:
• جودت بك وأبناؤه (1982) ‬
• منزل الصمت (1983)‬
• القلعة البيضاء (1985)‬
• الكتاب الأسود (1990)‬
• الحياة الجديدة (1994)‬
• اسمى أحمر (1998)‬
• الثلج (2002)‬
اسطنبول (2003)‬
• حقيبة أبى (2006)‬
• ألوان أخرى (2007)‬
• متحف البراءة (2008)‬
•شظايا من منظر أرضى (2010)‬
• الروائى الساذج والعاطفى (2011)‬


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.