• لطفل فلوباتير يتابع عزاء والده الشاب حزينا .. ووالدته الصغيرة تحمل لقب "أرملة" • أحد أقارب خمسة ضحايا: كذبنا على الأطفال كثيرا بشأن آبائهم .. فماذا سنقول لهم اليوم؟ • "بابا خلاص راح" .. ابنة الشهيد ماجد سليمان تنبأت بالخبر الأليم قبل إعلانه • ميلاد دانيال: لو كان لديهم مصدر رزق في بلدهم ما تركوها محمولا على كتف صبيّ صغير، وبملامح حزينة، لم تحل دونها قطع الحلوى الصغيرة في يده، تابع الطفل فلوباتير، الذي لم يتجاوز عمره العامين، توافد المعزين في وفاة والده الشاب ملاك سمير (25 عاما)، بعد مقتل الأخير ذبحا بسكين "داعش" في ليبيا، ضمن واحد وعشرين من رفاقه وأقاربه، على ساحل طرابلس، المطل على شاطئ البحر الأبيض المتوسط. الأشقر الصغير، فلوباتير، سينتظر لسنوات، قبل إدراك أسباب المشهد اللافت أمام كنيسة العذراء مريم بقرية "العور" الصغيرة التي ينتمي إليها بمركز سمالوط بالمنيا (شمال الصعيد)، إذ التف العشرات من رجال القرية البسطاء، بجلاليبهم ذات الألوان الغامقة، حول بعضهم، مسلمون ومسيحيون، يواسون أسر الضحايا، تاركين قضاء مصالحهم اليومية المعتادة، في مشهد لا يتكرر إلا نادرا. لم يكن فلوباتير بصحبة والدته، كغيره من صغار أسر شهداء الحادث الإرهابي، إذ غابت عنه صباح أمس، بعد إصابتها بصدمة عصبية بسبب الحادث، استدعت نقلها عبر سيارة الإسعاف، للعلاج بالمركز، بحسب ما قاله أحد شباب العائلة ل"الشروق"، ولم تكن زوجة ملاك، التي باتت تحمل لقب "أرملة"، وحدها ممن أصيبوا بصدمة عصبية، فقد أصيب بها نحو عشرة أشخاص، من ذوي الضحايا، بينهم اثنان أصيبوا بصدمة عصبية حادة، وعولجوا بمستشفى المركز، وذلك بحسب تصريح الطبيب عادل معاذ ل"الشروق"، وهو مدير الإدارة الطبية بسمالوط. "كذبنا على الأطفال أكثر من مرة، قلنا لهم إن آباءهم سيعودون بعد أسبوع، ثم قلنا بعد ثلاثة أيام، حتى ذبحتهم داعش، فماذا سنقول لهم اليوم؟!"، بعيون دامعة، وبملامح شاحبة، قال ميلاد فايز دانيال (38) عاما، عبارته السابقة، وهو مزارع صغير بالقرية، وله صلة قرابة بخمسة على الأقل من شهداء الحادث الإرهابي، أحصى منهم: ملاك إبراهيم سنيور، وجرجس ميلاد سنيور، وميلاد مكين، وملاك سمير، وهاني عبد المسيح صليب، وتادرس يوسف تادرس. وأضاف دانيال أن جميع شهداء القرية البالغ عددهم نحو خمسة عشر، من إجمالي واحد وعشرين، تربطهم علاقات قرابة ونسب، فالقرية صغيرة، ويتزاوج أهلها فيما بينهم، وغالبيتهم أقرباء بعضهم. كغيره من بقية أفراد القرية، ينتقد دانيال بشدة إدارة وزارة الخارجية للأزمة، فيقول: "الخارجية لم تفعل شيئا، وحين التقينا بمسؤوليها في القاهرة مؤخرا، أخبرونا أنهم بصدد مشاورات مع شيوخ القبائل، للإفراج عن أبناءنا حين كانوا مختطفين، ولم يخبرونا وقتها بطبيعة تلك المشاورات بدعاوى أمنية، إلى أن شاهدنا فيديو ذبحهم، نحن نريد جثث أبنائنا الآن، هذا مطلبنا الوحيد". وتعليقا على الضربات الجوية التي نفذها الجيش ضد معاقل داعش في ليبيا، قال دانيال: "لو أبادوا ليبيا بالكامل، لن يفهم الأطفال سوى شيء واحد، وهو غياب آبائهم، لم نكن نرغب في أكثر من استعادة أهلنا، ونار الأمهات ستبرد إذا أعادوا لنا الجثث، ولو أن لدينا مصدرا للرزق في بلدنا لما خرجوا ولما سافروا إلى ليبيا". تتفرع من الشارع العمومي بالقرية، الذي يبلغ عرضه نحو ثمانية أمتار، شوارع وحارات ضيقة، تضم منازل صغيرة من طابق واحد أو طابقين، وكلما اقترب المارة أكثر من كنيسة العذراء مريم الواقعة بالشارع العمومي، سمعوا بوضوح صراخ أمهات شهداء الحادث الإرهابي، من داخل المنازل، وفي الحارات، يطلقن صرخات حادة، وإحداهن كانت تقود بضعة إناث خلفها، يبكين، ويصرخن، وهي تردد بصوت متشنج مبحوح، عبارات ترثي بها الضحايا، وبين يديها، فوق رأسها، منديل أبيض، تحرّكه للإمام وللخلف، بين كل صرخة وأخرى. الرجال والشباب والعجائز، شوهدوا أيضا في الطرقات يجهشون ببكاء مرير، حتى تلاشت أصوات غالبيتهم، وبدا التوتر واضحا في امتناع غالبيتهم عن الحديث إلى الصحفيين تماما، إذ قال أحدهم في وجوه مندوبي وسائل الإعلام: "هنقولكم إيه؟ وهتعملوا لنا إيه؟ هتجيبوهم تاني؟". "بابا خلاص راح".. عبارة تتذكرها إحدى الفتيات لصديقتها ابنة الشهيد ماجد سليمان، أميرة، حيث تروى الفتاة التي طلبت عدم ذكر اسمها أنها هاتفت ابنة الشهيد قبل نشر فيديو مقتله ذبحا، وحاولت طمأنتها، ودعتها للخروج من المنزل، ومباشرة حياتها اليومية، كالمعتاد، إلا أن كريمة الشهيد، ردت بالعبارة السابقة، قبل أن يؤكدها مقطع الفيديو الذي نشره تنظيم داعش الإرهابي. مشاهد الحزن التي باتت عنوانا لقرى أهالى ضحايا الحادث الإرهابي، وأبرزها قرية "العور" بسمالوط، كادت ترتسم من تلقاء نفسها بالأمس، فبينما كان بعض المعزين في طريقهم إلى العزاء باكين، سُمع رنين هاتف محمول أحد القساوسة قبل عبور عتبة الكنيسة، وكانت ترنيمة كنسية شهيرة، تردد "ارحمنا يا رب".