لم يفاجئنى الاستاذ جميل مطر بدعوته لتنظيم مؤتمر لإعادة صياغة السياسة الخارجية المصرية عبر مقاله بالشروق يوم 8 يناير الحالى، وذلك لاعتبارات عديدة أهمها على الإطلاق انه ابن مدرسة الدبلوماسية المصرية فى عصرها الذهبى ولكنه جمع بينها وبين الدراسات العلمية ومسئوليته كمثقف ازاء وطنه الذى يمر بمرحلة انتقالية تحتاج إلى تكاتف الجميع، وقد رأيت من واجبى كدبلوماسى سابق أن أؤيد ما ذهب إليه من ضرورة عقد المؤتمر ولكن لأسباب أخرى أضيفها إلى ما سبق ولعل فى مقدمتها أننا فى عالمنا العربى كجزء من العالم أجمع مقبلون على تغييرات أعمق مما نتصور ستشمل أساليب التفكير وأنماط الحياة ككل وسيكون لها انعكاسات سياسية واجتماعية حادة وستؤثر بصورة مباشرة على الاتجاهات الحاكة لمجمل سياستنا الخارجية، وهذه التغييرات نتيجة للثورة العلمية التى نمر بها فى ظل العولمة التى لا تعدو أن تكون أكثر من مجرد وسيلة، فهذه الثورة ذات الطبيعة الرقمية غيرت بالفعل من المفاهيم السياسية والاجتماعية والنفسية، كما طرحت مفاهيم جديدة لم تكن معروفة من قبل، وهذه التغييرات أدت إلى تغييرات فى محيط العلاقات الدولية والسياسات الداخلية بدون فهمها ومعرفة جذورها سنصبح عاجزين عن التعامل معها مستقبلا خصوصا أننا أصبحنا نعيش فى عالم سقطت فيه جميع الحواجز السياسية والجغرافية والزمنية، وأضحى العالم يعالج كوحدة واحدة وأضحى الانسان محور العمل وهدفه فى نفس الوقت. ••• وبالرغم من وجود وجهة نظر متحفظة على فكرة المؤتمر لثلاثة حجج لمستها وأوجزها فيما يلى: • يرى البعض أن سياسات الدول لا توضع عبر مؤتمرات عامة يشارك فيها القاصى والدانى وأنها تتسم بالسرية، وهذا الرأى مردود علية بأن لا التاريخ ولا الواقع فإن هذه الحجة، فمن الناحية التاريخية سبق للرئيس الأسبق جمال عبدالناصر ان وضع سياسة مصر الخارجية فى كتابه فلسفة الثورة الصادر عام 1954 أى بعد قيام ثورة 1952 بعامين ولم يمنعه ذلك من تنفيذ سياسة نشطة حتى فى افريقيا التى كانت تحت نير الاستعمار وساهم بايجابية فى تحريرها. أما من الناحية الواقعية فان استراتيجية الأمن القومى الامريكية والبريطانية والصينية والروسية منشورة على الشبكة العالمية للمعلومات ولا يحول ذلك دون تنفيذ سياساتها، إضافة إلى أن السرية لم تعد ممكنه فى الوقت الراهن إلا فى أضيق الحدود. • إن المؤتمر المقترح يعرض الأمن القومى المصرى والعربى للخطر لأنه يكشف عن جوهر هذا الأمن وعن السياسات المتبعة لتحقيقه وهو قول مردود عليه بأن ما يتم التوصية به هى خطوط عريضة للسياسة الخارجية تتناولها الصحف بصفة دورية فإذا قلنا إن الإرهاب العالمى مصدر تهديد للأمن القومى فما الجديد فى ذلك؟ ولكن الجديد الذى تطرحه فكرة المؤتمر هو صياغة سياسة مصر بصورة مجتمعية تعكس النتيجة التى تمخضت عنها ثورة 25 يناير وموجتها التصحيحية فى 30 يونيو، أى أن المؤتمر سيصبغ هذه السياسة بالمشروعية الواقعية فى مواجهة اى تطورات مناوئة فى الخارج من ناحية، ويعكس طموحات مصر بعد الثورة. • إن هذا المؤتمر لا ضرورة له باعتبار أن السياسة الخارجية لها أسرارها التى لا يمكن الإفصاح عنها، والرد هنا أن عقد المؤتمر ضرورة لا مناص منها لتعبئة الشباب حول أهداف السياسة الخارجية وهذه التعبئة شرط لازم لإكساب الدبلوماسية المصرية فى الخارج قوة تفاوضية تجاه الغير ودعم شعبى يكسب هذه الدبلوماسية صلابة فى تحقيق أهدافها فى الخارج. ••• ومن ناحية أخرى فإننى أعلم أن هذه التغييرات التى تجتاح العالم وغيرها تشغل فكر وزراء خارجية مصر السابقين والوزير الحالى السيد سامح شكرى، فقد حافظ على تقليد وضعه الوزير السابق السيد نبيل فهمى بالاجتماع بعدد محدود من السفراء السابقين المهتمين بالشأن العام لمناقشة ما تواجهه مصر من معضلات وطرح ما يستجد فيها من تطورات، فالسياسة الخارجية المصرية تتسم بدرجة عالية من المهنية والنظر للمستقبل، وكلا الأمرين الدعوة لعقد المؤتمر واهتمام وزير الخارجية بالتغييرات الدولية والاقليمية أجدها عوامل مشجعة على البدء فى التفكير لطرح رؤية للمؤتمر المقترح من الناحية العملية والإجرائية. بداية، ومن حيث الشكل اقترح أن يكون المؤتمر على مرحلتين: المرحلة الأولى تمهيدية وتشمل دراسة الثورة العلمية وانعكاساتها على الاوضاع السياسية داخليا وخارجيا ودراسة تجارب تغيير السياسات الخارجية للدول الأخرى كالولايات المتحدة والصين والبرازيل والهند وروسيا والتعرف على أهداف التغيير، وآليات تحقيق ذلك، ومحتوى التغيير خاصة أن سياسة مصر الخارجية ستطبق فى بيئة دولية مختلفة تساهم فيها هذه الدول بنشاط والتعرف على الاتجاهات الحاكمة لهذه البيئة أمر مطلوب لتحديد كيف ترى مصر مصادر تهديد الأمن القومى، والعناصر المتحكمة فيها وكيف يمكن مواجهتها، وهذه المرحلة يمكن أن تأخذ شكل مجموعات عمل مصغرة تعمل بشكل متواز تختص كل منها بتجربة أو اثنتين على الأكثر على ان تكون كل مجموعة مكونة من اعداد محدودة من الباحثين وبعض المسئولين فى الخارجية لا يزيد عددهم على 20 شخصا كما اقترح الاستاذ الدكتور بهجت قرنى فى الأهرام وتنتهى هذه المرحلة بمشروع لجدول أعمال المؤتمر الذى يشمل عدة بنود مثل الحاجة لإعادة بلورة سياسة مصر الخارجية فى ضوء ما بمر به العالم من ثورة علمية اولا وانعكاساتها، وما تمر به مصر والمنطقة العربية من تحولات سياسية، مبادئ وأهداف السياسة الخارجية، أولويات سياسة مصر الخارجية، مصادر تهديد الأمن القومى العربى، سياسات مواجهة هذه التهديدات. أما المرحلة الثانية من المؤتمر فهى عقد المؤتمر بالفعل وتبدأ بدعوة من السيد سامح شكرى وزير الخارجية لعدد من كبار المسئولين مثل السيد رئيس الوزراء ومستشار الأمن القومى د. فائزة ابو النجا والوزراء وقادة الفكر ورؤساء مراكز الفكر والدراسات ويمكن أن ينقسم المؤتمر إلى جلسة عامة لطرح الفكرة وطرح جدول الأعمال على أن يوزع فى بداية الجلسة الاوراق التحضيرية التى اعدتها مجموعات العمل المختلفة خلال المرحلة التمهيدية. ومن ثم أتصور أن ينقسم المؤتمر إلى ثلاث مجموعات عمل تعمل بشكل متواز ايضا تختص الأولى بمصادر تهديد الأمن القومى وتنتهى إلى بلورة مفهوم جديد للأمن القومى وتحديد عناصره، والثانية تستهدف وضع توجهات عامة للسياسة الخارجية المصرية، والثالثة تختص بمناقشة السياسات الواجب اتخاذها لتحييد مصادر التهديد للأمن القومى على أن تتولى لجنة صياغة اعداد التوصيات التى تقدمها اللجان الثلاث، وبناء على ذلك لا أتصور أن يمتد المؤتمر لأكثر من يومين فقط. ••• لقد أصبحنا نعيش فى عصر كان يوصف بأنه «عصر المعلومات» وأصبح يوصف اليوم بأنه «عصر المعلومات المؤكدة المنقولة عن بعد «نتيجة اتجاه هذه الثورة الرقمية إلى التكامل بعد أن نجحت فى الربط بين ثورة المعلومات وثورة البيوتكنولوجى فى الطب والعلوم الصيدلانية وثورة النانوتكنولوجى فى علوم المواد بمخترعات اصبح الاستغناء عنها بغض النظر عن المستوى الاجتماعى والثقافى محالا مثل التليفون المحمول ومن ثم أصبحت العزلة عما يجرى فى العالم غير ممكنة بل وغير مطلوبة من اجل مستقبل افضل.