تقاس مخرجات الصحة من منظور قدرة النظم الصحية على تحسين الحالة الصحية للمواطنين وتوفير الحماية المالية لهم من عبء المرض، والحفاظ على كرامتهم وحقوقهم ورضائهم عما يقدم إليهم من خدمات رعاية صحية. وترتبط هذه التحديات بتطوير سياسات العدالة الاجتماعية فى المجتمع ككل! وفى مصر وعبر العقود الأخيرة، كانت سمات اختلال العدالة وعدم الإنصاف فى الصحة تبرز فى سلسلة من الاختلالات، أهمها الفروق المتصلة بمعدل وفيات الأطفال تحت سن المدرسة (الهدف الإنمائى الرابع فى إعلان الألفية)، ووفيات وصحة الأمهات والحوامل (الهدف الخامس)، فيما بين المناطق جغرافيّا (شمال/جنوب/ريف/حضر)، وفيما بين الشرائح الاجتماعية المختلفة (الأفقر/ الأغنى)، كما تتضح من زيادة معدلات انتشار التقزم بين الأطفال فى الفئات الأفقر، مع زيادة معدلات الأمراض المعدية مثل انتشار الأمراض الكبدية (سى/بى)، وغير المعدية (أمراض الضغط والقلب والسكر). وتزايد هذا العبء المرضى وبخاصة بين الفقراء، والذى يؤدى إلى مزيد من الفقر بينهم، من جانب الحماية المالية من عبء المرض، يتضح غياب العدالة فى وجود حوالى 50% من السكان، هم الأفقر بلا أية تغطية تأمينية صحية أو اجتماعية وبخاصة فى الفئات المهمشة فى القطاع غير الرسمى من العمل والاقتصاد، ومن فلاحين يبيعون قوة عملهم فى الريف ويهجرونه باضطراد إلى المدن، إلى جانب أن أكثر من 72% من الإنفاق الكلى على الرعاية الصحية والخدمات هو إنفاق ذاتى، مصدره جيوب الأفراد والأسر، وذلك لا يعكس القدرة على الدفع للعلاج بقدر ما يعكس الحاجة والاضطرار، وفى كل الأحوال تشير (المسوح السكانية الصحية للاستخدام) إلى أن الشرائح الأفقر فى المجتمع (20%)، معدلات استخدامها للخدمات هى النسبة الأقل، رغم أنهم الأكثر احتياجا لمرافق الخدمات من الشريحة الأغنى (20%)، مما يؤكد عدم الإنصاف. ••• لا يزال مفهوم العدالة الاجتماعية مفهوما جدليّا واسعا! رغم استهلاكه بين جميع الأجنحة والكتل السياسية، ورغم تفسيراته المختلفة من ماركس إلى جون رولز، وصولا إلى سيد قطب! فإنه لا خلاف على مكوناته الأساسية والضرورية، وعلى أسباب عدم العدالة والتى لم يعد من المقبول ربطها بمهارة الشخص أو إنتاجيته، بقدر ما تذهب لما هو أبعد من ذلك. وهو ما يقتضى التعامل على ثلاثة محاور من السياسات، والتى تضمن عدالة التشارك، أى المشاركة العادلة فى صناعة النمو، وهو ما يتطلب العدالة فى توزيع الثروة وفى النفاذ لصانع القرار، أى وجود قنوات عادلة للتعبير عن الاحتياجات والوصول لمصادر التمويل، إلى جانب عدالة التوزيع، أى الوصول لنموذج عادل لتوزيع ثمار النمو بين العامل وصاحب العمل، والعدالة التعويضية وهى المنوط بها العدالة بين القادر وغير القادر على المشاركة فى النمو، التى تقوم على مبدأ التضامن ومبدأ ضمان حقوق الإنسان. ••• وفى أدبيات الصحة، اتفقت الرؤية على المنظور القيمى لمحتوى الحق فى الصحة كحق إنسانى شامل، يتضمن العدالة فى توزيع المحددات الاجتماعية للصحة ونظم الرعاية والحماية الصحية، التى يمكن قياس مؤشراتها الوسيطة من خلال الإتاحة المتساوية للرعاية جغرافيّا وماليّا (بغض النظر على قدرة الفرد عن تحمل تكاليف الخدمات وبنفس الجودة ودون تمييز لأى سبب من الأسباب)، ومن ثم ارتبط ذلك بنشوء نظام للتأمين الصحى الاجتماعى فى مصر منذ منتصف الستينيات ليوفر الإتاحة المتساوية القائمة على التضامن، وذلك ما مثل بوضوح غياب للتمييز فى إمكانية الحصول على الخدمات عند الحاجة وما بشر وقتها بتحقيق التغطية الصحية الشاملة لكل المصريين، فى عشر سنوات وهذا ما لم يحدث! لأسباب عديدة، منها هزيمة يونيو 1967 ثم تحول اتجاه الاقتصاد نحو سياسات الباب المفتوح والانفتاح، الذى أدى لبروز القطاع الخاص الصحى وتناميه بشكل متسارع وتراجع المسئولية العامة للدولة عن توفير هذه الحماية الصحية، ومن ثم تحقيق الإتاحة المتساوية والعدالة. وهذا ما يسعى المجتمع الآن لاستعادته من خلال مشروع جديد للتأمين الصحى ولإصلاح المنظومة الصحية وإعادة هيكلتها لتحقيق التغطية الصحية الشاملة عبر ثلاثة محاور من العمل تشمل تخفيض الإنفاق الذاتى على الصحة من جيوب الأفراد والأسر، وتوسيع مجال الإتاحة بالوصول للمناطق الأفقر والأكثر تهميشا وبخاصة فى الصعيد وريف البلاد، وتأسيس صندوق مالى تأمينى لتوزيع مخاطر المرض المالية. بإطلاق موجة ثالثة لإصلاح المنظومة الصحية ككل بتوفير الموارد البشرية المدربة والمالية، اعتمادا على ما ورد فى دستور 2014 بتخصيص 3% على الأقل من الناتج الإجمالى المحلى كإنفاق عام من الموازنة. فهل تنجح الدولة فى ذلك؟ نعم تستطيع عبر خارطة طريق متفق عليها، تضمن فاعلية الشراكة مع المجتمع المدنى بمختلف أطيافه وشرائحه وقواه.