«قولوا لنا أين أنتم.. نقل لكم أين نحن؟». رغم اختلاف الأزمان والتحديات والرجال فإن السؤال الذى طرحه قبل سبعة عقود الأستاذ «محمد التابعى» مؤسس الصحافة المصرية الحديثة يصلح عنوانا للحيرة العامة. لم يكن الأستاذ «محمد حسنين هيكل» أقرب وآخر تلاميذه، وهو يتحدث عن أسلوب «التابعى» فى مساجلاته السياسية وتعليقاته على حركة الأحداث، بوادر الحديث فى السياسة المباشرة لكنه التفت إلى أن سؤاله «أكثر تعبيرا عما نحن فيه من الأحوال التى كتب فيها». فلا أحد على يقين إلى أين نحن ذاهبون، وهذه مسألة رؤية يترتب على غيابها غلبة الرمادى فى المواقف على ما هو صريح من ألوان. بالتعريف: الرؤية مسئولية السلطة، أى سلطة، فى أن تكون الخيارات الرئيسية واضحة والسياسات تتسق مع ما هو معلن من انحيازات حتى تعرف الأطراف الأخرى أين تقف وفيم تؤيد وتعارض. غير أن الأزمة تحت السطح أخطر وأفدح مما هو ظاهر ومقلق. الرهانات الكبرى تتآكل بقسوة والأفكار الملهمة تكاد تغيب. هناك نضوب للرؤى يكاد أن يكون فقرا مدقعا. ما هو غوغائى يرتفع صوته وما هو فكرى يتوارى عن المكان. الصراخ الإعلامى يرتفع إلى حدود لا تطاق والأفكار الجديدة تتراجع إلى حدود لا تحتمل. تكاد لغة الحوار أن تبهت فى المخيلة العامة بينما الانفلاتات اللفظية تسود دون رادع من سلطة أو حساب من قانون. بعض الذين يمعنون فى العبارات القبيحة مسئولون رسميون والبعض الآخر يحسبون أنفسهم على السلطة الجديدة ويصورون للناس أنهم يحتمون تحت عباءتها. وهذه يصعب نسبتها لرئيس لا يخاطب أحدا باسمه مجردا ولسانه عف بحسب ما هو شائع ومؤكد. من يتحمل المسئولية إذن؟ هل أفلتت صراعات الأجهزة الأمنية من أى سقف فى ظل نظام لم يعلن رؤيته؟ فى هيستيريا الانفلاتات اللفظية تسميم للمجال العام وترويع لأصحاب الرأى ومصادرة لأى قيمة فى هذا البلد. الالتزام بالحد الأدنى من الأخلاقيات العامة من فوق منابر الإعلام من متطلبات أى حوار جدى حول المستقبل، فلا حوار محتمل فى مناخ مسمم ولا احترام لأحد أيا كان قدره إذا كان بعض ما يقال تخجل منه البيوت. فى تسميم المجال العام قطع طريق على أى احتمال لبناء توافقات عامة على قضايا جوهرية فى بلد يخوض حربا ضارية مع الإرهاب أو بلورة رؤية للمستقبل تتسق مع ما بذله المصريون من تضحيات على مدى يقارب أربعة أعوام. من التداعيات الخطيرة شيوع ظاهرة «المثقف المنسحب» الذى راهن على (30) يونيو، لكنه لم يعد واثقا مما يحمله المستقبل، لا يريد أن يعلن معارضته للحاضر قبل أن تستبين سياساته، يقدر حجم الأزمات المتراكمة، لكنه لم يعد متأكدا من تجاوزها. شىء ما ضرب الروح العامة دعا قطاعا لا يستهان به من المثقفين إلى ما يشبه الانسحاب. كان حضور المثقفين فى المشهد السياسى قبل (30) يونيو مبشرا وملهما للتغيير الكبير. بدا كل شىء استثنائيا ولا سابق له فى اعتصام «وزارة الثقافة». مزيج من الغناء الثورى والباليه فى الشارع والحوار السياسى والثقافى وروح الغضب. روائيون وشعراء وفنانون من أجيال مختلفة من عميد الأدباء «بهاء طاهر» إلى أصغر مبدع يهتف من قلبه للحرية والعدل والدولة المدنية الحديثة. فى تلك اللحظات الحاسمة وصل التحدى ذروته لنظام يعادى الثقافة من حيث طبيعتها وأدوارها وتملكت المحتجون ثقة بلا حدود فى المستقبل غير أن التطورات لم توافق التطلعات ولا اتسقت مع التضحيات التى أبدوا استعدادا هائلا لبذلها. كما يحدث دائما فى مصر منذ تأسيس دولتها الحديثة فإن الغطاء الثقافى بمعناه الاجتماعى العريض من مقتضيات الصعود إلى السلطة أو السقوط من فوقها. عندما اجتمعت كلمة شيوخ وفقهاء «الأزهر» كما حدث فى صعود «محمد على» أو كلمة المثقفين والمبدعين قبل عزل «محمد مرسى» فإن الأمر كان محسوما. غير أنه لم يمضِ وقت طويل حتى تصورت وجوه الماضى أن بوسعها أن تصادر «يونيو» لصالحها وبدأت حملة ممنهجة تنال من «يناير» وتسفه من جماعات المثقفين والنخب السياسية والفكرية. كل ما له قيمة محل طعن وكل ما له وزن موضع سخرية. الفارق جوهرى بين النقد الضرورى لبنية السياسة والثقافة والمجتمع وبين التسفيه المنهجى لأية قدرة عامة على البناء من جديد. بعبارة أخرى استهدف التسفيه المنهجى إعادة إنتاج الماضى الذى ثار عليه شعبه ونسف أية رهانات على مستقبل مختلف. لم يكن تسميم المجال العام سياسة طائشة أو خيار منفلت بقدر ما كان مقصودا لاصطناع خصومة بين «يناير» و«يونيو» تسمح بعودة الماضى بوجوهه وسياسته وبعض ما جرى استهدف الرئيس الجديد نفسه، فالنيل من «يناير» يضرب فى شرعيته بعمق ويثير تساؤلات قلقة عن طبيعة المستقبل الذى نذهب إليه. هذا المناخ المفرط فى سلبيته عطل أية أدوار ممكنة تضخ أفكارا جديدة فى الشرايين السياسية والاجتماعية وتبنى توافقات تحتاجها مصر لحلحلة أزماتها المتفاقمة بأقل كلفة ممكنة. بناء الأفكار والتصورات من طبيعة أدوار المثقفين والمفكرين، وفى الانسحاب مشروع هزيمة روحية تسحب من أى نظام شعبيته أيا كان قدرها وتنال من شرعيته أيا كانت قوته الأمنية، فالنظم تتأسس على ما يلهم والشرعيات تكتسب صلابتها بقدر ما تتبنى من سياسات ورؤى تستلهم مصالح شعبها وتستجيب لمقتضيات عصرها لا بمدى الصراخ العام من فوق منابر منفلتة. القضية ليست محض سياسية، فالأثر السلبى يمتد إلى المجتمع كله فيفقد احترامه لنفسه ويتشكك فى تضحياته التى بذلها، ويستحيل كل شىء أمامه بلا معنى. هنا يتقوض دور المثقف فلا أساس يبنى عليه ويتراجع التوافق الوطنى حيث لا رؤية للمستقبل أو ثقة فيه. خسارة السلطة أكبر من أى خسارة لأية أطراف أخرى، وهى مدعوة للحسم حيث يجب أن يكون الاحترام أساسا لأى حوار والندية متوفرة. وقف تسميم المجال العام مهمة لا تفريط فيها ولا تساهل معها وإلا فإننا سوف نخسر مؤكدا قضية المستقبل.