1 اختص القرآن الكريم الجدل المذموم بمصطلح خاص هو «المراء»، والمقصود ب«المراء» استمرار رفض الحجج المعروضة والتنكر لها بغير علم قاصدا عدم إقرار الخصم على صحة قوله هادفا إلى عدم الوصول إلى نتيجة. ومن نماذج المراء الذى نهى عنه الشرع مراء المجادل فى موضوع لا يعلم بأوله وآخره. ولا اطلاع له على حقيقة المسائل المعروضة، وفى هذا يقول القرآن (وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولا) أى لا تتصدى للجدل والمراء فى مسألة كل علمك فيها كلمة من صديق، أو عمود فى صحيفة، أو جملة فى شبكة المعلومات، ولشديد الأسف فإن كثيرا من الناس أصبحوا يجمعون معلوماتهم من الشبكة العنكبوتية، وهى شبكة مفتوحة للجميع المتخصص وغير المتخصص. فهل تصلح تلك المعلومات أساسا للجدل والمراء؟! وقد أوضح القرآن ما فى الجدال بغير علم من سوءة وجهل، فيقول مخاطبا اهل الكتاب (هَا أَنْتُمْ هؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ)، ثم جاء القرآن بالحكم الإلهى على هؤلاء المتجرئين على الحقيقة والذين يجادلون بمجرد ما بلغهم من معلومات سطحية لا تسمن ولا تغنى من جوع فيقول (إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِى آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِى صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) 2 وكذلك فإن الكون الذى نسكنه يتكون من عالم مشهود نراه ونسكنه، وكذلك توجد عوالم غيبية كثيرة لا قدرة لنا على معرفتها، وقد سماها القرآن «الغيب والغيوب» ولا يعلم «الغيوب» إلا الله. ويمتلئ عالم «الغيب» بما تسمع عنه وما لا تسمع عنه. ومن «المراء» المذموم أن يتصدى إنسان ليجادل فى شأن الغيب إما تحقيقا ووصفا لبعض الغيوب دون أن يراها، وإما إنكارا لبعض الغيوب لمجرد أنه لا يتصورها. وتلك مأساة الإنسانية أن يتطفل الإنسان فيناقش ويمارى فيما لا علم له به ولا قدرة عليه. ومن ذلك المراء فى مسائل القدر والأرزاق والإرادة الإلهية والعرش والكرسى.. إلخ، وكل ذلك لا علاقة له بمهمة الإنسان التى خلق لها، فلا حاجة ولا ضرورة للتكهن بها. -3- ومن المراء المذموم محاولة البعض معارضة بعض آيات القرآن للبعض الآخر. والمتخصصون يعلمون تماما أن جميع آيات القرآن لا تعارض بينها ولا تضاد. وهذا النوع من المراء يضعف إيمان العوام ويفتح باب الشبهات. ولو التزم هؤلاء بمنهج القرآن فردوا ما يجهلوه إلى الله والرسول لعلموا الحق واتبعوه. 4 كذلك فمن رحمة الله بخلقه أن جعل شريعته يسيرة سهلة يستطيع كل من آمن بها أن يتخذ سبيله إليها، ولهذا تكثر وجهات المذاهب فى التطبيق والتنفيذ، ومادام الأصل واحدا فلا يحل لأرباب المذاهب والجماعات أن ينتصروا لمذاهبهم بمجادلة غيرهم والإصرار على الانتصار عليهم. كما لو كان إمام مذهبهم إله أو نبى حاش لله ، وهذا اللون الكريه للمراء للأسف الشديد قد سيطر على بعض النخب الثقافية فى القرن الرابع الهجرى فرأينا مراء وسفها وسبا ولعنا، وليس كل ذلك من الدين فى شىء. 5 وقد قذفت فلسفة الرومان سهامها إلى عواصم الفكر الإسلامى فى بغداد والبصرة والكوفة ثم دمشق، ونقلوا عدوان السفسطائية على العقل، حيث يلعبون بالعقول لعبا فيثبتون الشىء وضده ويقولون بتساوى النقيضين من خلال قياس منطقى فاسد، فمثلا يقولون إن الشخص الأعور (ذو العين الواحدة) = نصف المبصر السليم. وأن نفس الشخص الأعور (ذو العين الواحدة) = نصف الأعمى. وعلى ذلك حسب مرائهم يستوى الأعمى مع البصير، وتلك السفسطة سماها المسلمون «مراء الأغاليط» فليطهر الإنسان نفسه من الجدل والمراء.