السماء تسقط على رأس الرئيس الفرنسي السابق "نيكولا ساركوزي" وحزبه اليميني "الاتحاد من أجل حركة شعبية" وتنشر الصحف بصورة شبه يومية فضائح قضائية تمس الرئيس السابق وحزبه. آخر هذه القضايا، ما كشفت عنه صحيفة "لوموند" من قيام قضاة التحقيق بالتنصت على مكالمات "نيكولا ساركوزي" ومحاميه "تيري هرزوج"، في إطار التحقيق حول اتهام محتمل بتلقي تمويل مالي لحملته الانتخابية من الزعيم الليبي السابق "معمر القذافي" في سابقة هي الأولى من نوعها. تتوالى متاعب حزب الرئيس السابق منذ العام الماضي؛ بدء بالصراع العنيف في انتخابات الأمين العام للحزب بين "جان فرانسوا كوبيه" و"فرانسوا فيون" رئيس وزراء "ساركوزي"، والتي انتهت بفوز "كوبيه"، ولكنها أدت إلى انقسام غير معلن في الحزب واتهامات بالتزوير. وتسارعت وتيرة الفضائح مع ما نشرته مجلة "لوبوان" اليمينية من اتهامات بالفساد ل"كوبيه"؛ نظرا لأنه منح شركة "بيجماليون" للعلاقات العامة- ويديرها اثنان من أصدقائه- عددا كبيرا من العقود المبالغ في قيمتها لإدارة عدة حملات انتخابية ودعائية للحزب، وبعدها بأيام تفجرت فضيحة جديدة مع نشر تسجيلات مسربة لاجتماعات الرئيس السابق "نيكولا ساركوزي" مع عدد من مستشاريه، ومنهم "باتريك بوسون" مستشاره الإعلامي الذي قام بتسجيل هذه الاجتماعات على مدى مئات الساعات. تسجيلات تضمنت تعليقات قاسية وساخرة على عدد من مستشاري ومعاوني الرئيس، والأخطر من ذلك، بعض وزراء حكومته. وقد أعلن مستشار الرئيس الإعلامي أن هذه التسجيلات سرقت منه. وتثير شخصية "بوسون" الكثير من التساؤلات بسبب تاريخه كصحفي انتمى لتيارات اليمين المتطرف المختلفة، ويتردد أنه كان وراء تحول حملة "ساركوزي" الرئاسية إلى اتجاه يميني متشدد وإطلاق الرئيس السابق لتصريحات معادية للمهاجرين لكسب أصوات اليمين المتطرف. وتظل آخر هذه التسريبات، والخاصة بالتنصت على مكالمات "ساركوزي" بإذن قضائي هي الأخطر، نظرا لأنها المرة الأولى التي يطلب فيها قاضي تحقيق التنصت على مكالمات رئيس جمهورية سابق، بما في ذلك مكالماته مع محاميه، والتي من المفترض أن تتمتع سريتها بالحماية القانونية. من الجاني؟ خلال الشهور الماضية، أكد الكثير من المظاهر والتحركات السياسية عزم الرئيس السابق "نيكولا ساركوزي" على العودة إلى الحياة السياسية واحتمال خوضه للانتخابات الرئاسية المقبلة عام 2017، وتطرح سلسلة هذه التسريبات والقضايا أسئلة كثيرة عن الجهة التي تقف ورائها. يوجه حزب "التجمع من أجل حركة شعبية" أصابع الاتهام إلى خصمه التقليدي، الحزب الاشتراكي ورئيس الجمهورية "فرانسوا هولاند" لقطع الطريق على عودة "ساركوزي"، وللإساءة لسمعة أكبر أحزاب اليمين التقليدي عشية الانتخابات المحلية، حيث تشير استطلاعات الرأي إلى أن الاشتراكيين سيخسرون هيمنتهم على الأغلبية الساحقة للبلديات في فرنسا بسبب انهيار شعبية الرئيس الاشتراكي "هولاند". إلا أن الأمور قد لا تكون بهذه البساطة، حيث يشير الكثير من المراقبين إلى أن عودة "ساركوزي" لا تثير الارتياح في أوساط قيادات حزبه التي تتصارع، حاليا، على زعامة الحزب وبالتالي على الترشح باسمه للانتخابات الرئاسية في 2017، ولن تكون المرة الأولى التي يتبادل فيها زعماء متنافسون ينتمون لحزب واحد ضربات بهذا العنف والقسوة. بالرغم من أنه من المستبعد أن يكون حزب "الجبهة الوطنية" اليميني المتطرف وراء هذه الحملة لأنها تتجاوز قدراته ونفوذه داخل مؤسسات الدولة، إلا أن الكثيرين يركزون على انتماء "باتريك بوسون" المستشار الإعلامي ل"ساركوزي" إلى تيارات اليمين المتطرف التي تشكل إستراتيجية المؤامرات والضربات تحت الحزام منهجا أساسيا في عملها السياسي. على مستوى آخر، لم ينس الكثير من رجال القضاء والعدالة في فرنسا سياسة إغلاق المحاكم القاسية وتقليص مساحة تواجدهم الجغرافي التي طبقتها حكومة الرئيس السابق. وإذا كان من الصعب أن يقوم أي منهم بتلفيق القضايا، إلا أنه من المؤكد أنهم سيبذلون جهدا كبيرا في التحقيق في اتهامات ضد "ساركوزي". يبقى أن الإعلام الفرنسي، وإن كان لا يناصب "ساركوزي" العداء بعد خروجه من السلطة، إلا أن كل ما يتعلق بالرئيس السابق يشكل مادة ثرية تحتل الصفحات الأولى، نظرا لأن قصص "ساركوزي" تتمتع بدراما تفتقدها الحياة السياسية، خصوصا بعد اتضاح عزمه العودة إلى السلطة. مَن الضحية؟ "ساركوزي" وحزبه "التجمع من أجل حركة شعبية" هما، بالتأكيد، الضحية الأولى التي ستخسر الكثير، ولكن ليس بسبب الملاحقات القضائية والفضائح في حد ذاتها، لأن هذه الأمور تشكل الخبز اليومي لكافة الأحزاب السياسية الفرنسية، وإنما تكمن الخسارة الرئيسية لأكبر أحزاب اليمين التقليدي في أن هذه القضايا أبرزت عجزه خلال عامين على أن يكوِّن معارضة فعالة ومزعجة للأغلبية عاجزة عن تقديم بديل يتمتع بالمصداقية، وأنه حزب مشلول، عمليا، بسبب صراعاته الداخلية وبعض قضايا غير واضحة المعالم تتعلق باستغلال النفوذ والفساد. يعاني الحزب الاشتراكي، من جانبه، من وضع كارثي بسبب انهيار لم يسبق له مثيل لشعبية الرئيس "فرانسوا هولاند" وعجز الأغلبية الواضح عن تحقيق وعود الحملة الرئاسية وتقديم حلول حقيقية أو نسبية للأزمة الاقتصادية ومشاكل البطالة وإفلاس الشركات المتوسطة والصغيرة، وتشير كافة استطلاعات الرأي إلى كارثة متوقعة للحزب الاشتراكي في الانتخابات المحلية، وتشمل هذه الأزمة المدافعين عن البيئة، كحلفاء للاشتراكيين يشاركون في الحكومة الحالية. جرت العادة على أن فشل اليمين أو مصائبه يعني تقدما وانتصارا لليسار، والعكس صحيح، إلا أن الضحية الكبرى في سلسلة التفجيرات السياسية هذه هي الطبقة السياسية الفرنسية بأكملها، ذلك إن عجز اليمين وفضائحه في المعارضة يبرز جليا في نفس اللحظة التي أدرك فيها رجل الشارع أن الأغلبية اليسارية عاجزة عن حكم البلاد في ظل الأزمة. مَن المستفيد؟ يبقى اليمين المتطرف ممثلا في حزب "الجبهة الوطني" هو الرابح الأكبر في هذه الفوضى السائدة، ذلك إنه أقام إستراتجيته الدعائية منذ البداية على اتهام اليسار واليمين معًا بالفساد والفشل والتواطؤ لتبادل السلطة، محاولا إقناع الناخب الفرنسي بأنه القوة السياسية الوحيدة الملاصقة لآمال الشعب والتي تقترح إستراتيجية مختلفة جذريا ستخرج البلاد من الأزمة. وتبرز مفاجأة أخرى في استطلاع للرأي أجرته صحيفة "لوباريزيان"، وامتنعت عن نشره، ذلك إنه تضمن سؤالا عن الشخصية التي يمكن أن تحكم فرنسا بصورة أفضل من "فرانسوا هولاند"، فأجاب عليه 56% من المشاركين بأنه "دومينيك ستروس كان" مدير صندوق النقد الدولي السابق وأقوى مرشح اشتراكي كان من المفترض أن يواجه "ساركوزي" في الانتخابات الرئاسية السابقة، قبل أن يضطر للانسحاب من الحياة السياسية إثر فضيحة ارتكابه لاعتداء جنسي على خادمة في أحد فنادق نيويورك، وجاء في استطلاع الرأي هذا أمام "آلان جوبيه" رئيس وزراء ديجولي سابق وإحدى شخصيات اليمين التي تتمتع بقدر كبير من الاحترام والثقة في الشارع الفرنسي. في الخلاصة، سواء كان الأمر يتعلق بأحزاب وتيارات أو بشخصيات سياسية، يبدو أن التطورات الأخيرة في الساحة السياسية وضعت الأطراف الهامشية في مقدمة المسرح، فهل ستبقى في هذا الموقع عندما ينبغي على الناخب تحويل خياراته الظاهرية في استطلاعات الرأي إلى خيارات حقيقية؟ الحكم إلى جانب الشبكات الاجتماعية سؤال جانبي وجهته أغلبية من المراقبين والمختصين في الحياة السياسية الفرنسية ويتعلق بمدى قدرة رأس السلطة التنفيذية على الحكم واتخاذ القرارات الصعبة وهو يدرك أنه من المحتمل نشر النص الكامل لمشاوراته وتعليقاته في أكثر الاجتماعات سرية يمكن أن ينشر على الملأ. وهل الشفافية المطلقة تشكل خطوة إلى الأمام في حكم المجتمعات المتقدمة أم أنها عائق أمام الحكم بصورة فعالة؟ شاهد الفرنسيون في الماضي القريب أفلام فيديو قصيرة، صورت لبعض وزرائهم وهم يدلون بمقولات ليست للنشر على موقع "يوتوب"، ولكننا لا نتحدث هذه المرة عن تعليقات جانبية لهذا الوزير أو ذاك وإنما عن مشاورات رئيس الجمهورية مع مستشاريه، تمهيدا لاتخاذ قرارات أساسية. يبقى في النهاية، السؤال الأهم، ماذا سيفعل الفرنسيون بعد 3 أعوام؟ وهل ستدفعهم الأوضاع الراهنة وفضائح وعجز اليمين واليسار عن الحكم والمعارضة إلى عصر الليمون وانتخاب "مارين لوبن" زعيمة حزب "الجبهة الوطنية" اليميني المتطرف في 2017 لمنصب رئاسة الجمهورية؟ أم أن الناخبين في الديمقراطيات القديمة والمستقرة لا يعصرون الليمون؟ نيكولا ساركوزي الرئيس الفرنسي السابق الرئيس الفرنسي السابق نيكولا ساركوزي والزعيم الليبي السابق معمر القذافي
الرئيس الفرنسي السابق نيكولا ساركوزي ومستشاره الإعلامي باتريك بوسون فرانسوا هولاند الرئيس الفرنسي مارين لوبن رئيسة حزب "الجبهة الوطنية" اليميني المتطرف جان فرانسوا كوبيه الأمين العام لحزب "الاتحاد من أجل حركة شعبية"
دومينيك ستروس كان المدير السابق لصندوق النقد الدولي