قراءة الصحف الغربية والسعودية التى صدرت فى أعقاب الإعلان عن توصل إيران والغرب إلى اتفاق تركت الانطباع بأن الصفقة كان لها وقع القنبلة أو الزلزال فى أجهزة الإعلام الغربية وبخاصة الأمريكية والعربية وبخاصة السعودية. هدأت الضجة قليلا فى دول الخليج، وفى المملكة السعودية بوجه خاص، ولم تهدأ تماما فى دول الغرب وبخاصة فى فرنسا، ولكن فى كل الحالات انتقل النقاش العام من حيز التعليق على الصفقة القنبلة إلى ساحة تحليل خلفيات الاتفاق ومغزاه الحقيقى والمباحثات السرية التى مهدت له ومستقبل الدبلوماسية الدولية على ضوء الفهم الجديد لاستراتيجيات أمريكا ودبلوماسيتها. كان واضحا بل ولافتا للنظر الجهد المبذول من جانب عدد كبير من المحللين فى الولاياتالمتحدة وخارجها لإعادة «قراءة الرئيس باراك أوباما»، بينما راح محللون آخرون يبذلون الجهد فى «إعادة قراءة أمريكا»، باعتبار ان الرئيس أوباما إنما يتصرف ويقرر بناء على رؤيته وإدراكه للتغيرات الحادثة فى أمريكا ومن حولها. سواء كانت أمريكا هى التى تغيرت تحت تأثير ظروف ثقافية واقتصادية وتوازنات دولية أو كان أوباما صانع التغيير وأمريكا تتبعه وتطيع وتتغير حسب رؤيته، تبقى الإشارات واضحة على أن وجه أمريكا صار يبدو للإعلام الخاص، وربما لصانعى السياسة فى الخارج، مسالما وتصرفاتها تميل إلى تفضيل التفاوض وغيره من الأساليب الدبلوماسية فى تعاملها مع الأزمات الدولية أو لتأمين مصالحها القومية. اتساقا مع هذا الفهم تزداد أهمية العودة لدراسة سياسات أوباما منذ أن قرر الخروج بجيوش أمريكا من العراق ومن أفغانستان، وقراره بالتراجع عن قصف سوريا بالصواريخ لإجبار الأسد على التخلص من أسلحته الكيماوية واستجابته المذهلة للمبادرة الروسية، وإصراره على مدى سنوات على الاستمرار فى التفاوض مع إيران ورفض الابتزاز المتصاعد ضده من جانب إسرائيل ويهود أمريكا للسماح لها بقصف مفاعلات إيران وإشعال حرب فى منطقة الخليج قابلة للامتداد حتى شواطئ المتوسط. من ناحية ثانية، عادت تتأكد نية أوباما فى رغبته التسرب من الشرق الأوسط متوجها إلى شرق آسيا وجنوبها، باعتبار أن المستقبل الحافل للدبلوماسية والاقتصاد العالمى يرقد هناك منتظرا دورا أمريكيا فاعلا. رأينا خلال السنوات الأخيرة كيف أن أمريكا ألقت بثقل نفوذها وإمكاناتها إلى صف تركيا مراهنة على دور قيادى لها فى الشرق الأوسط، بعد أن تأكدت واشنطن من أن الدول العربية مجتمعة فى نظام إقليمى أو فى تجمعات إقليمية أو منفردة مازالت غير مؤهلة لأداء أى دور فى توجيه النظام الإقليمى شرق الأوسطى، ولا حتى النظام الإقليمى العربى. سقط الرهان على تركيا عندما فشلت فى سوريا، ولم تكن على المستوى الدبلوماسى والسياسى اللائق بدولة رشيدة مرشحة لزعامة المنطقة فى تعاملها مع تداعيات الثورة فى مصر وتقلباتها. من ناحية ثالثة، ثارت مخاوف قوية لدى المسئولين الأمريكيين حول النتائج المحتملة للمحاولات الدؤوبة لإثارة فتنة بين الشيعة والسنة فى العالم العربى والإسلامى، وثارت شكوك حول قدرة الدول ذات الصلة على تهدئة أسباب هذه الفتنة ووأدها قبل استفحالها. سمعت خبيرا غربيا اقترب لفترة من مواقع صنع قرارات الشرق الأوسط فى لندنوواشنطن وباريس، سمعته يردد أن المسئولين الأمريكيين يعربون عن خشيتهم من أن يتركوا الشرق الأوسط قبل أن يجدوا وسيلة مناسبة تهدئ من الفتنة المذهبية، وأنهم عازمون على الاقتراب من المشكلة عن طريق «تحييد» العامل السياسى فيها، ألا وهو انعزال إيران وشكوكها المتبادلة مع جيرانها وعدم اطمئنانها إلى نوايا دول الغرب وبخاصة الولاياتالمتحدة. من ناحية رابعة، أدركت واشنطن أنه لا أمل فى أن يستعيد النظام الإقليمى العربى فى وقت منظور قدرته على التدخل لتسوية أزماته. لقد فشلت الحكومات العربية فشلا ذريعا فى التعامل مع الأزمة السورية، بل أن التدخل العربى يتحمل مع الأسد، كلاهما أو مع غيرهما، مسئولية تدهور الأوضاع فى سوريا واشتراك المتطرفين من الأجانب والإسلاميين فى حملة هدفها تدمير سوريا. فشل العرب كذلك فى استعادة العراق لمكانة يستحقها فى النظام العربى، وفشلوا فى إنقاذ تونس من محنتها، وإخراج ليبيا من ورطتها، وتخفيف معاناة شعب اليمن. من ناحية خامسة، تابعت واشنطن، بقلق فى بداية الأمر، وفضول فى مراحل أخرى، وبتمعن عند النهاية، التقدم الذى أحرزته إيران فى محيطها العربى والآسيوى، ونجاحها فى تجاوز أو تحمل عقبات الحصار المفروض عليها. حافظت على علاقة متميزة ونافذة فى العراق الجديد، ويعود لها الفضل الأكبر فى تطوير الحرب فى سوريا لصالح النظام المتحالف معها، واستمرت فاعلة، وإن لم تكن مهيمنة، فى الوضع المتجمد اللبنانى مساندة أحد الأطراف الأساسية فيه، ومؤثرة فى توازن القوى الإقليمى. هذا إلى جانب وساطاتها التى تعرفها واشنطن واستخدمتها فى أفغانستان ووسط آسيا. تلك كانت نماذج من تجارب التعاون التى تشجع الآن أطرافا فى أجهزة صنع القرار الأمريكى لدعم فكرة الاستعانة بإيران لتسوية بعض الأزمات فى المنطقة العربية. أستطيع فهم الضجة التى استقبلت بها بعض الدول العربية نبأ الصفقة القنبلة، فالتاريخ القريب للعلاقات بين هذه الدول وإيران لا يوحى بالاطمئنان للمستقبل حين تصبح إيران قوة إقليمية معترف بنفوذها وقوتها. أستطيع أن أفهم أيضا السرعة التى هدأت بها الضجة، والعبارات الناعمة التى صدرت فى بعض عواصم الخليج وإن اجتمعت على اشتراط حسن النوايا لنجاح هذه المرحلة المبكرة من عودة إيران طرفا دوليا مشاركا فى صنع السلام الإقليمى والدولى. أفهم هذا التحول من الضجة إلى العبارات الناعمة على ضوء اعتبارات معينة، منها: أولا: إن استمرار الضجة المعارضة للصفقة يضع الدول العربية المعترضة فى صف واحد مع إسرائيل وفرنسا، الأمر الذى يمكن أن يثير غضب الرأى العام العربى والإسلامى. بل ويثير غضب القطاع الأكبر فى الرأى العام الأكبر الذى فاجأ الجميع بدعمه للاتفاق مع إيران. ثانيا: تسريب أنباء تؤكد أن المباحثات التى مهدت للتوصل إلى صفقة جنيف جرت فى دولة عمان بعلم ومتابعة عدد من عواصم الدول أعضاء مجلس التعاون، ودول عربية أخرى، وأنها ربما بدأت قبل إعلان فوز روحانى فى الانتخابات. بمعنى آخر يبدو أن الدعم الدولى راسخ ولا جدوى من معارضة يثيرها بعض العرب. ثالثا: على ضوء تطورات الموقف الأمريكى من سوريا، والمؤشرات الدالة على طبيعة السياسة الخارجية الروسية فى هذه المرحلة، وانكشاف وهم وجود سياسة خارجية أو دفاعية أوروبية فى طور النشأة، على ضوء هذا كله، تأكدت الدول العربية الحليفة لأمريكا منذ عقود عديدة، أن لا بديل لأمريكا فى الدفاع عنها فى مواجهة مع إيران وفى وجود الصفقة أو فى غيابها. رابعا: بدأ يتكون فى دول عربية عديدة، وفى دول خليجية بالتحديد، رأى عام يأمل فى أن تصدق نبوءة أو تمنيات الأمريكيين الذين اشتغلوا لعقد هذه الصفقة مع إيران، وكانوا يعتقدون أن إعادة دمج إيران فى المجتمع الدولى سيجعلها أكثر ثقة فى جيرانها ويفرض عليها انتهاج سياسات سلمية وإقامة علاقات طيبة معهم. أنا، وبعض الذين أتابع ما يكتبون ويناقشون، سنبقى متطلعين ليوم نتعرف فيه بقدر من الدقة على أسلوب أوباما فى صنع السياسة الخارجية. البعض منا يعتقد أن أوباما أثبت أنه «مستقبل ومستخدم» جيد لمبادرات الآخرين، بمعنى استعداده الطيب للاستجابة لمبادرات يطلقها آخرون توفر عليه اتخاذ قرار حرب. يراه البعض الآخر منا صانعا مبدعا لمبادرات يمتنع عن إطلاقها بنفسه أو باسمه، وتتركز براعته فى قدرته على تسريبها لدول وزعماء أجانب يطلقونها، ثم يتبناها. أمامنا تجارب تؤكد هذا الرأى وأخرى تؤكد الرأى الآخر وثالثة ترفض كلاهما. نسأل هل سرب أوباما إلى روسيا مبادرة تخلى سوريا عن أسلحتها الكيماوية أم كانت حقا مبادرة روسية استجاب لها أوباما. ونسأل: هل كان العمل الشاق فى الأسابيع الأخيرة للتمهيد لاتفاق مع إيران بمبادرة من مرشح الثورة الإسلامية وتلقفها أوباما أم مبادرة سربها أوباما إلى الإيرانيين عن طريق وسطاء من الخليج أو أوروبا وتلقفتها السلطة الإيرانية. أسئلة وتكهنات لا تخرج عن كونها تمارين أكاديمية، فالعبرة دائما بالنتائج.