•إنهاء الفقر واحترام حقوق الإنسان واقتصاد سوق مصحوب ببرامج اجتماعية •الاقتصاد المصرى يحتاج لبرنامج إصلاح هيكلى لن يقدر على دفع فاتورته سوى نظام قوى ومحبوب جدًا •التجربة البرازيلية: دا سيلفا اتخذ كل إجراءات تحرير الاقتصاد التى حلم بها كاردوسو مع وضع شبكات ضمان اجتماعى •التجربة الإندونيسية: رغم فساد نظام سوهارتو فإنه فتح الاقتصاد وبدأ نهضة صناعية طوال عشرين عامًا •التجربة الروسية: رجل قوى سياسيًا يأتى بعد فترة مضطربة ويستمر فى اقتصاد السوق مع بعض التعديلات •توقعات من التجربة الكورية: أمامكم فترة من الوقت تستنزفون فيها قواكم حتى تتعبوا ثم تبدأوا رحلة الصعود شاهدت الشهر الماضى برنامج جى بى إس (GPS) لمقدم البرامج الشهير فريد زكريا (Fareed Zakaria). والبرنامج يذاع كل أسبوع على شبكة سى إن إن (CNN). وكان ضيف الحلقة الرئيس الشيلى سباستيان بينيرا (Sebastian Pinera). وسأله مقدم البرنامج عن كيفية تحقيق شيلى معدلات النمو السريعة خلال الفترة من 2001 2010. فرد الرئيس قائلا: إن الإصلاحات الاقتصادية التى حدثت فى نهاية عهد الديكتاتور بينوشيه هى التى فتحت الباب. فقد تبنينا اقتصاد السوق مع برامج اجتماعية مصاحبة له (social market economy). ثم سأله المقدم عن «نصائحه» لدول الربيع العربى فرد قائلا: لقد عقدنا اتفاقا واسعا (Broad Agreement) للوصول إلى تنمية اقتصادية شاملة. وهذا الاتفاق مبنى على ثلاثة أسس: أولا: إنهاء الفقر، ثانيا: احترام حقوق الإنسان، ثالثا تبنى اقتصاد السوق مع برامج اجتماعية مصاحبة له. ثم استرسل الرئيس بينيرا قائلا: شيلى مختلفة فنحن خلال المائتى عام الماضية كان لدينا ديمقراطية. وقد تخللت هذه الديمقراطية فترتان وجيزتان من الديكتاتورية آخرهما خلال فترة حكم الجنرال بينوشيه، التى استمرت حوالى 15 عاما. «مصر مختلفة فهى لم تتعود على الديمقراطية»، وسوف يتعلم أهلها العيش فى حكم ديمقراطى على عُهدة الرئيس التشيلى. أرمينيو فراجا (Arminio Fraga) كان محافظا للبنك المركزى البرازيلى مرتين خلال فترة حكم الرئيس كاردوسو (Cardoso) فى الفترة من 1999 إلى 2002 (بعد الأزمة المالية فى الأسواق الناشئة). وهو صديق قديم ألتقيه مرة فى السنة على الأقل. وحكى لى أكثر من مرة عن التجربة البرازيلية. فالاقتصاد كان يمر بأزمة عاصفة فى النصف الثانى من التسعينيات. وتبنت حكومة كاردوسو إجراءات لتحرير الاقتصاد. ثم أتى الرئيس البرازيلى العظيم لولا دا سيلفا (Lula da Silva) وفعل كما فعل الرئيس السادات «أعطى إشارة شمال ثم دخل يمين». فقد كان التخوف من الرئيس لولا الذى ينتمى إلى الحركة العمالية أنه سوف يتحول إلى النظام الاشتراكى. وروى لى فراجا (Fraga) والذى رفض أن يستمر مع الرئيس دا سيلفا كمحافظ للبنك المركزى، أن الرئيس أخذ كل إجراءات تحرير الاقتصاد التى كان يحلم أن يتخذها كاردوسو ولم يستطع أحد أن يزايد عليه بسبب خلفيته العمالية. ولكنه فى نفس الوقت وضع شبكات ضمان اجتماعى فى صورة برامج اجتماعية أشهرها بولسا فاميليا (Bolsa Familia) وفوم زيرو (Fom Zero). مرة أخرى رجل جاء بعد فترة تحول اقتصادى بحب الناس ويستطيع الاستمرار فى التحول الاقتصادى مع برامج اجتماعية مصاحبة له. صديقى الكورى الجنوبى زارنى عدة مرات فى العامين الماضيين. ومع اندلاع ثورة 25 يناير فإن هذا الصديق قال لى منذ حوالى عامين. نحن فى كوريا استمررنا فى مرحلة الفوضى لمدة خمس سنوات. فالجنرال بارك تشونج هى (Park Chung-hee) كان ديكتاتوريا. ولكنه استطاع البدء فى المعجزة الكورية. الرئيس كيم دار جونج (Kim Darjong) أتى بعد الأزمة المالية فى جنوب شرق آسيا عام 1998 التى فقد خلالها اليوان الكورى ثلثى قيمته. وتسبب انخفاض قيمة الأصول (بالدولار) فى إفلاس كثير من الشركات الكبيرة. قال لى صديقى «لقد عشنا سنوات من الفوضى. لقد تناحرنا حتى تعبنا وبدأنا العمل وحققنا معدلات نمو سريعة». ثم استرسل بعين المجرب قائلا: «أمامكم فترة من الوقت تستنزفون فيها قواكم حتى تتعبوا ثم تبدأوا رحلة الصعود». جنوب إفريقيا فى المقابل أنهكت بسبب المقاطعة العالمية لنظام التفرقة العنصرية وكان النظام الحاكم فيها يمينيا. وقد تسببت المقاطعة فى أزمة اقتصادية. ثم أتى «الرئيس الذى لا يستطيع أحد أن يزايد عليه» نيلسون مانديلا (Nelson Mandela)، شخصية تاريخية بكل المقاييس، استطاع «لم شمل» البلد. نفس الشىء اقتصاد سوق وشبكات ضمان اجتماعى مصاحبة لها. الاختلاف فى جنوب إفريقيا أن البلد غنى بثروات تعدينية كبيرة وبالتالى استطاعت جنوب إفريقيا اجتياز الأزمة. مانديلا رجل كبير استمر فى النظام الاقتصادى لنظام التفرقة العنصرية مع تعديلات طفيفة. عقد مصالحة مجتمعية مبنية على المصارحة والمصالحة (truth and reconciliation). أول مرة زرت فيها تركيا كانت عام 1999. وقد كانت أسعار الفائدة على الليرة التركية 2.5% يوميا وكان تخفيض الليرة أمام الدولار يحدث بشكل يومى وكانت المحال تغير أسعارها كل نصف يوم. وانهارت قيمة الأصول (بالدولار) وتسبب ذلك فى تعثر الكثير من البنوك. أتذكر أن جارنتى بنك (Garanti Bank) كان معروضا فى ذلك الوقت «بتراب الفلوس». كانت تلك الفترة من أسوأ ما عاشه الشعب التركى الذى جاءته الفرصة فى انتخابات 2003 التى أتت بأردوغان. ووقعت تركيا اتفاقا مع صندوق النقد الدولى، وفى ذلك الوقت خفض البنك الفيدرالى الأمريكى أسعار الفائدة لفترة طويلة لإنقاذ كل الأسواق الناشئة (ويتهم كثير من الاقتصاديين الآن جرينسبان (Alan Greenspan) محافظ البنك الفيدرالى الأمريكى وقتها بأن خفضه سعر الفائدة لفترة طويلة هو ما تسبب فى ارتفاع أسعار الأصول بشكل غير مبرر (Asset Bubble) خاصة أسعار العقارات، الأمر الذى أدى إلى الأزمة المالية عام 2008. أول مرة زرت فيها أندونيسيا كانت فى أكتوبر 1997 وكان سعر الروبية حوالى 2000 روبية للدولار، ومكثت هناك شهرا، وعندما غادرت كان سعر الروبية حوالى 5000 روبية للدولار. وأتذكر أن حجم الفساد من جانب الجنرال سوهارتو رئيس الجمهورية كان غير طبيعى. فكل شركة زرتها كانت الشركة القابضة المملوكة للرئيس تملك من 10% 20% من أسهمها. ولكن يحسب للرئيس سوهارتو إنه فتح الاقتصاد وبدأ نهضة صناعية خلال العشرين سنة الأولى من حكمه. واضطرت إندونسيا أن تغير سريعا ووقع الرئيس يوسف حبيبى اتفاقا مع صندوق النقد الدولى. وبدأ الحكم الديمقراطى بالرئيس عبدالرحمن وحيد الذى وقع اتفاقا مع صندوق النقد الدولى. واستمر فى سياسات اقتصادية منفتحة. الصين أيضا فعلت نفس الشىء، الحزب الشيوعى تحول إلى آليات السوق مع حكم دينج شياو بينج (Deng Xiaoping) فى بداية الثمانينيات وبدأت المعجزة الصينية بالاستثمار فى منتجات موجهة للتصدير مع تخفيض مقصود للعملة لكسب تنافسية مبنية على جاذبية الأسعار. ثم بدأ فى التحول تدريجيا إلى الاستهلاك الداخلى (برجاء متابعة فاعليات المؤتمر العام للحزب الشيوعى الصينى منذ أسبوعين). مرة أخرى عدد من مرات انتقال السلطة بوجوه مختلفة داخل الحزب الواحد وكلها فى اتجاه انفتاح اقتصادى يدار بحكمة حتى أصبح الاقتصاد الصينى ثانى أكبر اقتصاد فى العالم. محمد العريان اقتصادى مصرى أمريكى شهير. وكان يعمل فى صندوق النقد الدولى (IMF) وعمل بعد ذلك عام 1997 فى البنك الاستثمارى سولومون براذرز (Solomon Brothers). وقد استطاع العريان عام 1998 التنبؤ بالأزمة المالية الروسية قبل حدوثها وقد انهار الروبل خلال هذه الأزمة. وحكى لى أنه عندما كان فى روسيا كان هاجسه أن تليفونه مراقب، وقد استعمل كلمة «شارلى» المستوحاة من فيلم فورست جامب (Forrest Gump) بطولة توم هانكس (Tom Hanks) والتى تعنى فى هذا الفيلم «اترك كل شىء واجرِ ولا تتوقف» وكانت هذه إشارة منه لعملائه ببيع سندات الخزانة الروسية. وانهارت بعدها العملة الروسية وفقد الروبل فى ستة أشهر سبعين فى المائة من قيمته أمام الدولار. وكان ذلك ميلاد محمد العريان كنجم ساطع فى عالم المال العالمى. المهم جاء بوتين عام 1999 وضبط الأمر «بديمقراطية لها أنياب» كما كان يقول الرئيس السادات خاصة بعد فترة بوريس يلتسين (Boris Yeltsin) والتى اتسمت بانفتاح «سداح مداح» وخصخصة على أوسع نطاق. واستمر بوتين الذى أتى من جهاز المخابرات الروسى (KGB) فى سياسات اقتصاد السوق وحقق الاتحاد السوفييتى معدلات نمو سنوية متوسطة 7% لمدة عشر سنوات وهذا إنجاز. مرة أخرى تحول اقتصادى سريع هذه المرة تسبب فى أزمة ثم أتى رئيس قوى استمر فى الطريق الجديد مع بعض التعديلات. القصة «ما فيهاش اختراع».. رجل قوى ومحبوب (لا يستطيع أن يزايد عليه أحد) يأتى بعد أزمة اقتصادية يعبر بالاقتصاد عن طريق اتفاق واسع (Broad Agreement) مبنى على الأسس الثلاثة: إنهاء الفقر، احترام حقوق الإنسان، اقتصاد سوق مع برامج اجتماعية مصاحبة له. ليس مهما كيف أتى. بالديمقراطية فى أغلب الأحوال و«بشبه ديمقراطية» فى بعضها. المهم هو احترام الاتفاق الواسع. الأمر لا علاقة له بالدين ولا بمعجزة أردوجان. الأمر أيضا لا علاقة له بالاشتراكية أو أن نأخذ من الغنى لنعطى الفقير. كل هذه الدول وصلت لقناعة أنه يجب أن ترفع الدخل القومى عن طريق تشجيع الاستثمار مع إعطاء نسبة أكثر من الزيادة للناس الأقل حظا. كل الناس تكسب أكثر مع مراعاة إعطاء الفقراء نسبة أكثر مما كانوا يحصلون عليه سابقا عن طريق برامج اجتماعية ودعم نقدى مشروط وتأمين صحى.. إلخ. الأمر له علاقة بأزمة مالية تثبت باليقين وجوب التغيير وشعب يتمرد على واقعه وينتفض وينهض. فى بعض البلدان لا يمكن اختصار المراحل. رجل قوى يضع الاقتصاد فى الطريق الصحيح ويدفع الثمن ويرحل ثم تأتى الديمقراطية «برجل كبير» يحافظ على الطريق الاقتصادى ويكمله بالبرامج الاجتماعية وحقوق الإنسان. إن تكلفة الديمقراطية كبيرة. فالصرف على التعليم والصحة والبرامج الاجتماعية يجب أن تأتى بعد أو على الأقل متزامنة مع الإصلاح الاقتصادى. لأنه بدون ذلك فإنه لا يوجد إيراد يدفع فاتورة الديمقراطية، كما أن التوازنات والاستحقاقات فى الديمقراطية تصعب من قدرة الاقتصاد على النمو السريع. إن قائمة أكثر 10 اقتصادات من حيث النمو بها 7بلدان إفريقية «غير ديمقراطية». أى إنها متحررة من تكاليف واستحقاقات الديمقراطية. لقد عشنا ستة أعوام من المراحل الانتقالية (2008 2013) لأسباب مختلفة. ففى الفترة النهائية لحكم الرئيس مبارك لم نستطع اتخاذ قرارات صحيحة خوفا من آثار الأزمة المالية العالمية ثم انتظارا لانتخابات مجلس الشعب 2010 ثم تحسبا لانتخابات رئاسة الجمهورية فى أكتوبر 2011. ثم أتت ثورة 25 يناير وحتى الآن.. مرحلة انتقالية بعد الأخرى ولا أحد يريد اتخاذ قرارات. إن الاقتصاد المصرى يحتاج لبرنامج إصلاح هيكلى لن يقدر على دفع فاتورته سوى نظام قوى ومحبوب جدا. ولولا تدخل الإمارات والسعودية والكويت بعد 3 يوليو لحدث ما لا تحمد عقباه اقتصاديا. وللأسف، فأنا لا أرى زعامة تاريخية مدنية بقامة نيلسون مانديلا أو لولا دا سيلفا. وما زاد الطين بلة أننا فى أسوأ أوضاعنا من حيث عدم قدرة مؤسسات الدولة على مواجهة التحديات. كما أن الهيئات الاقتصادية للدولة فى وضع سيئ. لقد تصورت أن وزارة الدكتور الببلاوى يمكن أن تلعب هذا الدور دور ذكر النحل الملقح الذى يقوم بالبدء فى إجراءات صعبة ثم يموت (سياسيا) ولكن خاب ظنى. هل لأن الحزب المصرى الديمقراطى الاجتماعى سوف يخوض الانتخابات القادمة (وهو حق مشروع) ولذلك لا يريد اتخاذ قرارات صعبة؟ لا أعرف الإجابة. كل ما آمل فيه ألا ننتظر الأزمة المالية المصرية حتى نتحرك. إن قوة الجهاز المصرفى المصرى هو الذى حمى مصر من الأزمة حتى الآن ولكن ذلك ليس كافيا. الديمقراطية فى ظل مجتمع بلا مناعة ولا ثوابت ولا أرضية صلبة ليست بالضرورة هى الحل. التنمية الاقتصادية مع احترام الاتفاق الواسع (إنهاء الفقر احترام حقوق الإنسان تبنى اقتصاد السوق مع برامج اجتماعية مصاحبة له) هى جزء من الحل. وإلى الحلقة القادمة لوضع تصور لشكل الحل فى مصر.