فى إطار البحث عن تجارب لدول نامية استطاعت أن تحقق نماذج ناجحة فى التنمية الاجتماعية والقضاء على الفقر، باعتبارها من أهم الأهداف التى تسعى مصر لتحقيقها بعد ثورة يناير، تردد اسم البرازيل بقوة فى العديد من الأوساط، سواء فى مجتمع رجال الأعمال أو على المستوى الحكومى، بحسب ما صرح به وزير المالية المصرى أكثر من مرة خلال الأسابيع الماضية. وتنبع جاذبية النموذج البرازيلى فى نجاح الرئيس السابق لولا دا سيلفا فى الجمع بين التأييد الجماهيرى وثقة المستثمرين نتيجة تبنيه لسياسات اجتماعية ذكية، كان أبرزها برنامج «بولسا فاميليا» الاجتماعى، حيث يقول فابيو فيراس، الخبير بمركز السياسات الدولية للنمو الشامل بالبرازيل، ل«الشروق»، إن البرامج الاجتماعية بالبرازيل بما فيها «بولسا فاميليا» تعتمد بشكل نسبى على التمويل من خزانة الدولة، إلا أن هذا البرنامج قام على أساس تغطيته لأكبر نسبة من السكان بطريقة رخيصة، فاستطاع أن يساعد 25% من سكان البرازيل بتكلفة لم تتعد ال 0.5% من الناتج الاجمالى للبلاد، مؤكدا أن تطبيق هذا البرنامج، الذى بدأ مع حكم دا سيلفا عام 2003، لم يقتض فرض أى ضرائب جديدة، وإنما انخفاض تكلفته مكن الحكومة من الاعتماد على توفير التمويل له من خلال إعادة توزيع بعض بنود الانفاق فى الموازنة العامة، ويستهدف البرنامج تقديم المساعدات للاسر الفقيرة عن طريق تسليمها للأمهات بشرط التزام الأسرة بالتردد المنتظم على العيادات الصحية والتزام الأبناء بالحضور المدرسى. الاشتراكية الديمقراطية وتستمد التجربة البرازيلية جاذبيتها فى مصر بعد الثورة، مع تردد مصطلح «الاشتراكية الديمقراطية» كسياسة يرى البعض أنها الأنسب للمرحلة الراهنة، بعد أن وصلت السياسات الليبرالية المتطرفة التى اتبعها النظام السابق بالمجتمع إلى مرحلة الانفجار. وجاءت الدعوى لتطبيق هذا النمط من الاشتراكية على لسان بعض رجال الأعمال، بل وصرح محمد البرادعى، أحد أبرز الشخصيات التى أعلنت عن نيتها الترشح للرئاسة، عن تبنيه لهذا المذهب الاقتصادى. وربما يكون الدافع وراء تلك الآراء هو قدرة بعض القادة المتبنيين لهذا المذهب فى العالم على تحقيق المعادلة الصعبة بين إرضاء الجماهير والاستحواذ على ثقة المستثمرين، كما فعل الرئيس البرازيلى السابق لولا دا سيلفا، أحد أبرز قيادات اليسار الديمقراطى. وقد جاء صعود لولا دا سيلفا إلى رئاسة البرازيل فى عام 2003 مقلقا للعديد من المؤسسات الاستثمارية، فالرجل جاء من قاع المجتمع، تربى فى العشوائيات، ومات أحد أطفاله فى أحد المستشفيات العامة، وترقى فى العمل السياسى من خلال نشاطه فى النقابات العمالية حتى صار قياديا بارزا فى حزب العمال البرازيلى. وكان المصدر الأكبر لقلق المستثمرين من دا سيلفا، إن جزءا من جماهيره يعزى إلى أنه كان الرمز النقيض للرئيس الأسبق كاردوسو، الذى حكم البلاد لثمانى سنوات بسياسات نيو ليبرالية، دفعت ببرنامج للخصخصة، جلب للبلاد 90 مليار دولار، إلا أنها فى الوقت ذاته ضاعفت مستوى الدين العام وخفضت الأجور ومستوى الخدمات العامة، وركزت ملكية أراضى الدولة فى يد عدد قليل من الأفراد. إلا أن داسيلفا وحزب العمال البرازيلى تعمدا أن يطمئنا مجتمع الأعمال على أنهما لا يحملان نوايا معادية للاستثمار، حيث التزم الرئيس اليسارى باتفاقيات البرازيل الموقعة مع صندوق النقد الدولى، وبنى دا سيلفا برنامجه على تنشيط النمو الاقتصادى لزيادة دخل الدولة من جهة، وتطبيق برامج اجتماعية لمكافحة الفقر، حتى إن صحيفة الحزب الاشتراكى البريطانى وصفت برنامجه بأنه «لم يكن اشتراكيا ولكنه كان يدير الرأسمالية بطريقة أفضل من الرأسماليين أنفسهم». ومع اقتراب دا سيلفا من الفوز بالدورة الثانية من الرئاسة قال أولافو ستبال، أحد أبرز القيادات المصرفية فى البرازيل، إن مؤسسات المال لا تشعر بالقلق من فوزه للمرة الثانية لأنه لا يتبنى السياسات الاشتراكية التى تخشى من تطبيقها. مشاركة القطاع الخاص ويأتى انفاق الدولة على السياسات الاجتماعية فى البرازيل معتمدا على مشاركة القطاع الخاص، من خلال ما يفرض عليه من الضرائب، وتفرض البرازيل ضرائب مباشرة تبلغ 34%، شاملة ضرائب الدخل وضريبة اضافية وضريبة مشاركة اجتماعية تختصم من أرباح الشركات، بينما تطبق مصر على سبيل المثال ضريبة دخل موحدة على مختلف الشرائح بنسبة 20%. إلا أن فيراس يرى أن النظام الضريبى بالبرازيل ما زال بعيدا عن تحقيق العدالة الكاملة فى توزيع أعباء توفير الموارد للانفاق الاجتماعى، حيث يشير إلى أن إيرادات الضرائب المباشرة تمثل 10% فقط من الناتج الإجمالى، بينما تمثل إيرادات الضرائب غير المباشرة، والمعروفة فى مصر بضرائب المبيعات، 14.5%، وهى الضرائب التى تحملها الشركات للمستهلك من خلال زيادة الأسعار، بحسب فيراس. وبالرغم من أن دا سيلفا يؤمن بأن «مكافحة الفقر أمر لا يمكن ترك مسئوليته لآليات السوق»، الا أنه كان يؤمن أيضا بضرورة تنشيط النمو الاقتصادى للمساعدة على تحقيق هذا الهدف، فبجانب برنامج بولسا فاميليا الاجتماعى كان هناك برنامج تصعيد النمو الاقتصادى، المعروف اختصارا بأسم «باك». ويقول فيراس أن فكرة برنامج «باك» كانت مبنية على مساعدة القطاع الخاص للقيام بدور فى الاستثمارات العامة بدلا من الاتجاه لزيادة الضرائب لتوفير الموارد المطلوبة لاستثمارات كالبنية الأساسية. وتعد فكرة المشاركة بين القطاعين العام والخاص، التى كان وزير المالية المصرى السابق يروج لها، أحد الأفكار التى تبناها دا سيلفا فى سياساته. إلا أن الاعتماد على القطاع الخاص فى البنية الاساسية لا يعنى إخلاء مسئولية الدولة، ومن أبرز الأمثلة على ذلك برنامج «الكهرباء للجميع»، الذى أطلقه دا سيلفا لتوفير التغطية الكهربية ل2 مليون منزل محروم، والذى لم تجد الحكومة استثمارات خاصة متحمسة للدخول فيه، بسبب ارتفاع تكاليفه فقامت الحكومة بهذه المهمة وغطت نسبة كبيرة من هذه الأسر بدون أن تطالبهم بمقابل مادى بسبب انخفاض دخولهم، «ولا يعنى أنهم فقراء أن عليهم أن يعيشوا بدون طاقة»، على حد قول دا سيلفا لصحيفة الإيكونوميست، مضيفا أن هذا المشروع كلف الدولة مبالغ ضخمة «ولكن إن لم تقم به الدول فمن سيقوم به». كما اهتمت البرازيل، التى تصنف ضمن مجموعة البريكس الصاعدة، بتنمية القطاع الصناعى، وتكنولجيا الزراعة التى حققت فيها تقدما مهما بدعم من مركز «أمربرابا» البحثى الذى تموله الدولة، تبعا لفيراس، والذى أضاف أن النقاش فى البرازيل حول تنمية القطاع الصناعى يتركز حاليا بشكل قوى حول كيفية دعم «الابتكار» فى الصناعة. التوافق حول السياسات الاقتصادية وتختلف اشتراكية البرازيل عن النموذج السوفييتى المعروف بطريقته الصارمة فى التخطيط الاقتصادى، حيث يقضى دا سيلفا وحكومته وقتا طويلا فى التفاوض مع فئات الشعب المختلفة لإقناعهم بتطبيق مشروعاتهم، والسر فى ذلك أن اشتراكية البرازيل «ديمقراطية». وضرب دا سيلفا مثالا على ذلك فى أحد حواراته الصحفية بمشروع لإنشاء قناة تنقل المياه عبر ولايتين، قضى دا سيلفا 4 سنوات فى التشاور مع أهالى تلك الولايتين حتى أقنعهم بالمشروع. ويتفهم الرئيس البرازيلى السابق اعتراضات المواطنين، التى قد تبنى أحيانا على مجرد الرغبة فى عدم التغيير «حتى بعض الناس الذين تريد أن تخرجهم من العشوائيات يرفضون تغيير معيشتهم»، هذا بجانب مقاومة السياسيين لمشروعاته الاقتصادية، «ليس كل ما يريده الرئيس ينفذ» كما يقول دا سيلفا، فى تعليق على قدرة البرلمان على تعطيل قانون للإصلاح الضريبى أراد الرئيس تمريره. ويخلق هذا السلوك التفاوضى مناخا من التراضى بين اطراف المجتمع المختلفة حول السياسات الاقتصادية للبلاد، وهو نفس المنطق الذى أدار به الاحتجاجات العمالية فى بلاده، حيث يرى أن «على السياسيين أن يستوعبوا أن إدارتهم للأمور تختلف عن ادارة رجال الأعمال لشركاتهم، ففى الدول الديمقراطية هناك مؤسسات مثل الاتحادات العمالية والصحافة، والتى قد تأخذ مواقف مع أو ضد أصحاب الأعمال، ودور الرئيس هو أن يوازن بين رغبات الفئات المختلفة فى المجتمع». ويقول فيراس إن سياسة البرازيل فى التعامل مع مطالب العمالة تتركز على تحقيق الزيادة فى الحد الادنى للأجور وفى الوقت ذاته جعل معدل التضخم «تحت السيطرة». وبصفة عامة فإن قدرة الرئيس اليسارى دا سيلفا فى الحفاظ على جماهيريته الشعبية وثقة مؤسسات المال جعلت منه نموذجا مثاليا للسياسى القادر على امساك العصا من المنتصف، إلا أن بعض المراقبين من اليسار يرون ضرورة التعامل مع هذا النمط من الاشتراكية بحذر، حيث يتخوفون من أن يتحول فى بعض المواقف لأداة فى يد اليمين الرأسمالى، ويضرب هذا الفريق مثالا بقدرة دا سيلفا على تمرير قانون يمينى للتأمينات عجز سلفه النيوليبرالى كوردوسو على تمريره وهو فى الحكم.