كتب ديفيد رانسيمان، أستاذ العلوم السياسية فى جامعة كامبريدج وزميل فى قاعة الثالوث، مقالا نشر على موقع جريدة «The Chronicle of Higher Education» تناول فيه تاريخ الديمقراطية الحديثة والصعوبات التى تواجه الديمقراطية الأمريكية جاء فيه: تمر الديمقراطية الأمريكية بإحدى نوباتها الدورية من كراهية الذات. حيث يعارض الرأى العام أداء جميع فروع الحكومة، حتى المحكمة العليا. كما تدنت نسبة التأييد للكونجرس على نحو بالغ لدرجة تدعو إلى التساؤل عن الصحة العقلية للقلة الذين ما زالوا يعربون عن ثقتهم فيه. وقد أثار إغلاق الحكومة الأخير فى واشنطن جولة غاضبة من تعليقات الأكاديميين والنقاد من جميع أنحاء الطيف السياسى. هناك شبه إجماع: هذه ليست طريقة لإدارة الحكومة. ولكن انفجار السخط على طريقة عمل الديمقراطية ليس أمرًا جديدًا. وهى ليست حالة أمريكية خاصة، فقد تحرر الأوروبيون (ربما باستثناء الألمان) تماما من وهم السياسيين المنتخبين. ويعتبر التباكى على إخفاقات الديمقراطية سمة دائمة للحياة الديمقراطية، وهى سمة تستمر مع أزمات الحكومات ونجاحاتها على حد سواء. ولم يمر فى القرن الماضى عقد واحد لم يشهد مناقشات مطولة بين المعلقين والمثقفين فى الغرب الديمقراطى عن أوجه القصور فى السياسة الديمقراطية. ولا ينطبق هذا فقط على العقود التى كانت فيها الديمقراطية الغربية على المحك بشكل واضح، مثل الثلاثينيات، وعندما كانت مهددة من قبل الفاشية، أو السبعينيات، عندما كانت مهددة بالتضخم والصدمة النفطية. ولكن ينطبق أيضا على عقود الازدهار والاستقرار النسبى. وفى العشرينيات قاد والتر ليبمان الهجوم، بحجة أن الجماهير الديمقراطية كانت تفتقر الى العلم بدرجة كبيرة جدا، وتفرط فى إدارة شئونها بنفسها. وفى الخمسينيات، أبدى الأكاديميون قلقهم من تفاهة الحياة الديمقراطية. واتخذ دانيال بيل موقفا إيجابيا برؤيته عن نهاية الأيديولوجيا، ولكن الديمقراطية عل النحو الأغلب كانت تعامل على أنها، نظام حكومى يتسم بالإهمال والاجهاد، معرض بشكل دائم للتآمر السوفيتى.
ويعتبر تاريخ الديمقراطية الحديثة، قصة نجاح مطرد، يصحبه دق دائم لطبول الفشل المتوقع. وكان ألكسيس دى تاكفيل، أول من رصد هذه السمة المميزة للحياة الديمقراطية (وأكثر من قام بتفسيرها). فعندما سافر إلى أمريكا، فى عام 1831، اصطدم فورا بنوعية السياسة الديمقراطية الطائشة. فقد كان المواطنون دائمى الشكوى، بينما انشغل ساستهم بتبادل الاتهامات بين بعضهم البعض. غير أن تاكفيل لاحظ أمرا آخر بخصوص الديمقراطية الأمريكية: إنها تتمتع بالاستقرار رغم الفوضى على السطح. حيث لدى المواطنين مع استيائهم إيمان بأن السياسة الديمقراطية سوف تعطيهم الحق فى نهاية المطاف. والمفارقة، أن فوكوياما لم يكن أكثر تفاؤلا من تاكفيل بشأن السياسة الديمقراطية. بل أنه كان فى الواقع متشائما على نحو ملحوظ. فقد استند إلى مجموعة من الكتاب السابقين، من بينهم تاكفيل ونيتشه، وخلص الى الاعتقاد بأن انتصار الديمقراطية يعج بالخطر. فأى نظام حكم، يتمتع بكل المزايا لمدة طويلة، يمكن أن يصبح باليًا وسطحيا فى ممارساته اليومية. ولن يتم تحفيز المواطنين فى النظم الديمقراطية على اتخاذ قرارات كبيرة أو للسيطرة على مصيرهم. ولن يكون لديهم سبب وجيه لاتخاذ السياسة على محمل الجد على الإطلاق. وكتب فوكوياما أن «نهاية التاريخ سوف تكون وقتا محزنا للغاية». فسوف تؤدى قدرة الديمقراطية على التفوق على منافسيها إلى تركها عرضة لعيوبها المتأصلة.
وفى أوائل التسعينيات، اعتبر المؤمنون بانتصار الديمقراطية، هايك أحد مهندسى نجاح الديمقراطية. والآن، يستشهد جانب من مروجى فشل الديمقراطية بالمفكر الذى تنبأ أكثر من أى شخص آخر بالفشل الوخيم إذا لم تغير الديمقراطية سلوكها المدمر. ويتحمل هايك نفسه جزءا من اللوم، حيث تحتوى كتاباته على إشارات متقطعة لكل من الطمأنينة المشرقة، وأحلك نذر الشؤم، بشأن آفاق الديمقراطية. (وكان يميل إلى أن يكون الأكثر إشراقا عندما يكون آخرون متشائمين، والأكثر تشاؤما عندما يكون الآخرون متفائلين). وفى أواخر الثمانينيات، أعرب كينان الذى كان يناهز أيضا التسعينيات من عمره، لكنه ظل محتفظا بالوضوح الذهنى عن شكوكه العميقة فى التأثيرات المحتملة لفوز كان يتوقعه. وكتب خلال صيف 1989، بعد حصوله على الوسام الرئاسى للحرية «لا أرى بادرة أمل فى أى من ذلك». وعقب سقوط جدار برلين، قال انه لم يغير رأيه. وكان لديه دائما، مثله فى ذلك مثل هايك، أخطر الشكوك بشأن الديمقراطية. واعتبر أن تهور الرأى العام الديمقراطى، خاصة فى الشئون الخارجية، يمكن أن يخرب بسهولة المزايا التى تحققت عبر فترة طويلة، لصالح أنظمة أيديولوجية جامدة. وقدم انتصار الديمقراطية (الذى نسب الفضل فيه للرئيس رونالد ريجان، وكان كينان يعتبره لفترة طويلة تجسيدا لغباء الديمقراطية) ببساطة الفرصة لوقوع أخطاء أكثر وأكبر. ولا شك أن هايك وكينان وفوكوياما مفكرون مختلفون للغاية مع بعضهم البعض. ولكن القاسم المشترك بينهم، هو الإحساس بأن الديمقراطية تتعلم الدروس الخطأ من هيمنتها لمدة طويلة. فبدلا من تصبح أكثر صلابة وأكثر ذكاء، تصير أكثر إهمالا وعجرفة. ويشترك المفكرون الثلاثة أيضًا فى أن مخاوفهم وقلقهم بشأن الديمقراطية، تتراجع أمام رسالة أبسط وأكثر مدعاة للاطمئنان: الديمقراطية تنتصر فى النهاية.
وتتأرجح الديمقراطيات بين الرضا والغضب. وهى لا توفر مجالا للمثقفين الذين يريدون أن يخلقوا حالة علاقة دائمة ومفتوحة بين الحالتين. وبينما يتشوق البعض إلى حكايات النصر أو حكايات الكارثة الوشيكة، فالحقيقة أن الديمقراطية ليس محكوما عليها بالنجاح أو بالفشل. ولكن نجاحاتها تفتح الباب أمام إخفاقات ناجمة عن الثقة المفرطة والرضا عن النفس.