نعود إلى البدايات: هل من سبيل للدفاع عن قيم الديمقراطية وآلياتها فى ظل مزاج شعبى يرفضها ويميل إلى بدائل أخرى لإدارة العلاقة بين المواطن والدولة والمجتمع؟ فقد أخفقت بعض الشعوب فى الإبقاء على تنظيمها الديمقراطى وانتكست وسط موجات من الغضب الشعبى أو من فقدان الثقة فى قدرة المؤسسات المنتخبة على الإنجاز الاقتصادى والاجتماعى، وقبلت بديكتاتور جاء إليها برداء المخلص (هتلر وموسولينى وغيرهما) أو استجابت لحكم سلطوى ذى خلفية شعبوية عسكرية (إسبانيا والبرتغال والكثير من جمهوريات أمريكا اللاتينية فى أواسط القرن الماضى). وكذلك فشلت بعض الشعوب فى التحول إلى ديمقراطيات مستقرة بعد ثورات أو انتفاضات واسعة أو انقلابات عسكرية أو تحرر وطنى إن بسبب القبول العام لحكم سلطوى وعد بالتقدم وبالعدالة الاجتماعية ولم يحققهما (مصر والجزائر والعراق وسورية واليمن والكثير من الجمهوريات الأفريقية فى النصف الثانى من القرن الماضى)، أو لفشل أولى لآليات الديمقراطية كالانتخابات وتداول السلطة فى دفع الدولة والمجتمع إلى الأمام وإلحاقها الكثير من الأضرار بتماسك الدولة الوطنية وبالسلم الأهلى (مصر بعد عام رئاسة الدكتور محمد مرسى أو روسيا النصف الأول من التسعينيات مع يلتسين والخبرات المعاصرة لرومانيا وبلغاريا). كما تواصل غياب الطلب الشعبى على قيم الديمقراطية وآلياتها إن فى ظل إنجازات اقتصادية واجتماعية عظيمة وانتهاكات مستمرة لحقوق الإنسان كالنموذج الصينى أو كدول مجلس التعاون الخليجى الموظفة لعوائد الثروة النفطية لرفع معدلات التنمية البشرية والحفاظ على ولاء القطاعات السكانية المختلفة للأسر الحاكمة. فى هذه الحالات جميعا تعانى القوى المدافعة عن الديمقراطية والرافضة للمساومة على الحرية وحقوق الإنسان مصائر صعبة للغاية، فيتحول بعضها إلى مجموعات هامشية وأقليات منبوذة يرفضها المزاج الشعبى، ويتعرض بعضها الآخر لقمع منظم أو لقيود متصاعدة تحول بينها وبين التواصل مع الناس لغرس الإيمان بأفضلية الديمقراطية على الرغم من أزماتها المتعددة أو لتجديد الإيمان وإنقاذه من براثن الشعبوية والسلطوية والحلول الأمنية. فى هذه الحالات جميعا تحتاج القوى المدافعة عن الديمقراطية إلى التماسك والتكتل والرهان طويل المدى على استعادة المزاج الشعبى لتوازنه وحتمية اكتشافه لمسالب التنظيم غير الديمقراطى الذى يهدر الحريات وحقوق الإنسان ويندر أن يحقق تنمية بشرية مستدامة أو يحافظ على السلم الأهلى والعيش المشترك. فى هذه الحالات جميعا يتعين على القوى المدافعة عن الديمقراطية أن تقاوم اليأس الذى يورثه أحيانا النبذ المجتمعى، وأن تواصل البحث عن هوامش ومساحات لفعلها العام والسياسى بسلمية خالية من الشوائب وباشتباك إيجابى مع قطاعات المواطنات والمواطنين دون غضب أو استعلاء أو ابتعاد. غدا هامش جديد للديمقراطية فى مصر.