مقتطف من الفكر السياسى الدولى «وصف وتشريح الثورة.. والهزيمة». يقول المفكر السياسى آى.برلين «تتعرض الثورات لتحولات كثيرة، فبعض القوى المشاركة فيها تنسحب بعد حصولها على مطالبها. وقد تصل إلى السلطة مع القوى المستبدة السابقة، وتنتهى الثورة بالهزيمة، إلا أنها بعد صراعات طويلة تنتقد مبادئ الثورة فى نهاية الأمر، وذلك ما حدث للثورة الفرنسية وغيرها من الثورات».
التحولات الكبرى فى التاريخ، يمكن أن تقع عندما تكون مؤسسات الدولة بدأت تنكشف بوضوح عن أنها أصبحت عقبة أمام قوى التغيير فى مجتمع ما، ولكن لا توجد قوة كافية لإنجاز التغيير. فى مواجهة هذا، يبدأ فى التوحد، أفراد وجماعات وتيارات مختلفة. هناك تقع اضطرابات قد تتحول إلى ثورة، تستطيع أن تحقق نجاحا محدودا. إنها تصل إلى نقطة فارقة، تنجح فى بعض، الأحيان فى تحقيق بعض المطالب والمصالح للقائمين بها، تكون كافية لإرضائهم إلى حد يجعل استمرار النضال أمرا غير مفيد. الثورار يتوقفون أو يستمرون بشكل متردد وغير حاسم. ويتفرق التحالف. وترغب بعض العناصر وعلى وجه الخصوص هؤلاء الذين يريدون تحقيق الثورة واستمرار الضغط حتى تتحقق أهدافهم ومثلهم العليا. الوقوف فى منتصف الطريق يبدو لهم خيانة عظمى. الجماعات التى تم إرضاؤها، أو أولئك الذين يخافون أن يعود نيّر الاستبداد ويتبعه قهر أشد عنفا عما قبل، يجدون أنفسهم محاصرين من جهتين: المحافظون ينظرون إليهم فى أحسن الأحوال باعتبارهم مهزومين مؤيدين لهم. وفى أسوأ الأحوال من الهاربين والخونة. الراديكاليون ينظرون إليهم فى أحسن الأحوال كحلفاء جبناء «أرانب» وفى أغلب الأحيان كمرتدين. أناس من هذا النوع محتاجون إلى جرعة كبيرة من الشجاعة لمقاومة الاستقطاب، ويسعون إلى الاعتدال فى موقف مضطرب وخطر. ومن بينهم من يرى كافة أوجه وجوانب القضية. إنهم الذين يدركون الدافع الإنسانى المختفى وراء التدابير العنيفة التى تهدد بتحويله إلى نقيضه، من الحرية إلى القهر باسم الحرية. من المساواة إلى حكم أقلية ثرية جديدة، وتتجدد آليا لتدافع عن المساواة!! ومن عدالة تقود إلى آلية تدفر كل شىء خارج عن المعتاد. والموقف الوسطى هو موقف خطر ولا يدعو إلى الإعجاب.
وهو موقف معقّد للذين يرغبون فى الاستمرار فى التحدث للجانبين، الذى كثيرا ما يفسّر بالانتهازية الناعمة. ولكن هذا الوصف الذى يمكن أن يوصف به بعض الرجال، غير صادق بالنسبة إلى غيرهم».
خصوصية ثورة 25 يناير الشبابية فى مصر
تتميز هذه الثورة بعدة خصائص:
1 إن مصر يختلط فى فضائها: «المجتمع التقليدى التراثى، ومجتمع الحداثة، ومجتمع ما بعد الحداثة»، وكانت انتفاضة شبابها المنتمى إى مجتمع ما بعد الحداثة ظهرت معالمها فى تشرذم وتفتت أيديولوجيتها وقيادتها وتلك خصائص من «عالم ما بعد الحداثة» وهى تختلف فى ذلك عن ثورة 1919 من حيث وحدة القيادة والزعامة والأيديولوجية.
2 استخدام تقنيات ثورة المعلومات والاتصالات (وهى من أدوات عالم ما بعد الحداثة) وقدرتها على التوعية والحشد.
3 كانت أفكارها السياسية «شعبوية Populiat» راديكالية الطابع قامت بها نخبة شعبوية. ونمو الفكر الشعبوى يتزامن مع النمو الرأسمالى ويأتى معارضا له ويرى أنه يمكن تفادى شرور النمو الرأسمالى.
4 إنها ثورة ثقافية سياسية فى المقام الأول. ثقافية ترفع شعار «عيش كرامة إنسانية»، وشعار «إرفع رأسك لفوق أنت مصرى». وسياسية «إسقاط نظام الاستبداد وإقامة الديمقراطية» وليست ثورة اجتماعية ترفع شعار «الإخاء والمساواة» وهو شعار الثورة الفرنسية لعام 1789.
5 إنها انتفاضة شبابية طلابية فى الأساس، ثم تحولت إلى انتفاضة شعبية سلمية، تتجنب العنف.
6 إنهاء انتفاضة وليست ثورة، لأنها لم تكن تستهدف الاستيلاء على السلطة أو محاولة ذلك، مثلها فى ذلك مثل الانتفاضة «perolt» الطلابية الشبابية الفرنسية التى وقعت عام 1968.
7 أنها تمثّل صراع أجيال (جيل الآباء الليبراليين نتاج ثورة 1919 ودستور 1923، وجيل الأبناء الشعبويين الراديكاليين نتاج ثورة 1952 الناصرية الشعبوية».
8 إن انتفاضة 25 يناير سنة 2011، كان لها «بروفة» قام بها الطلبة المصريون عام 1972، والحركات الاحتجاجية والاجتماعية التى قام بها الشباب والرجال والنساء: حركة كفاية والحركة الوطنية للتغيير وحركة 6 أبريل، والاشتراكيون الثوريون وغيرها من الحركات الاحتجاجية والاجتماعية.
9 كانت المؤسسة العسكرية فى حقيقة الأمر معادية للانتفاضة، وقد حاولت قمعها وتطويقها وتوظيفها لأغراضها.
10 تدخل الإمبريالية الدولية وبخاصة الامبريالية الأمريكية فى المساهمة فى أحداث الانتفاضة تحت قناع تأييدها للتغيير الديمقراطى، وذلك بقصد تطويقها وتوظيفها فى تحقيق مصالح فى مصر والمنطقة.
وفى هذا المجال، فإنه يجب بيان دور الإمبريالية فى مصر والمنطقة بدعوى تأييدها للتغيير الديمقراطى.
الربيع العربى ليس ثورة ولكن انتفاضة. ومن المفيد هنا أن نورد تأملات طارق رمضان المفكر الأكاديمى والمحاضر فى الدراسات الإسلامية المعاصرة بجامعة إكسفورد، وهو حفيد الشيخ حسن البنا، فى كتابة «الربيع العربى انتفاضة وليس ثورة». يقول طارق رمضان فى كتابه أنه حاول أن يتجنب التنبؤ بسير الانتفاضات رغم تشاؤمه تجاه غالبيتها، وفضّل أن يترك الأمر كرواية لها نهاية مفتوحة تقبل كل الاحتمالات، ويتساءل.. هل هى انتفاضات مصنوعة ومخطط لها من الخارج، أم نبعت داخليا وتلقائيا من مجتمعاتها. فهو لا يقبل سواء بالرأى الساذج الذى يقول إن القوى الخارجية كانت مجرد متفرج سلبى على الأحداث، ولا بالرأى المقابل الذى يعتقد أن الانتفاضات العربية كانت لعبة فى أيدى اللاعبين الخارجيين الماكرين، فالولاياتالمتحدة وحلفاؤها ساعدوا فى توجيه الأحداث قطعا، بالتعاون مع العسكريين الذين أزاجوا الرؤساء فى تونس ومصر، وبالتدخل الشامل فى ليبيا لعدة أسباب واضحة، وهى الاتفاقية التى أبرمت مع المجلس الانتقالى الوطنى فى ليبيا التى تضمن لفرنسا الحصول على 3 فى المائة من صادرات ليبيا من النفط فى المستقبل. ثم وبمنطق أقل إقناعا.. هناك مؤامرة الإعلام الاجتماعى وشبكات التواصل الاجتماعى، والحديث عن متدربين من 37 دولة تعلموا النشاط التقنى السلمى فى صربيا.
أما شركة جوجول فقد منحت النشطاء المصريين شغرة خاصة للدخول على الإنترنت عن طريق القمر الصناعى، لكنها فى المقابل لم تفعل ذلك مع النشطاء السوريين. ويهتم طارق رمضان كثيرا بما يقال عن المؤامرة الخارجية، لأنه كما يقول.. إن البارانويا التآمرية لهؤلاء الذين فقدوا إيمانهم فى قدرة البشر على صنع تاريخهم بأنفسهم، وكذلك لأنه مثل وسائل الإعلام، يركز كثيرا على نشطاء الفضاء الإلكترونى، وليس على العمل المنظم الدءوب لحركات الإضرابات فى تونس ومصر التى أصبحت أكثر أهمية وتأثيرا.
الإمبريالية والتغيير الديمقراطى
معضلة القوى الديمقراطية والوطنية واليسارية
ربيع الديمقراطية فى الوطن العربى، وحدوده، تحت المراقبة والسيطرة وتحكم الإمبريالية الدولية تحت قيادة الولاياتالمتحدةالأمريكية. وعودة الإمبريالية الغربية فى أساليبها إلى بداية القرن العشرين يذكرنا ذلك بتوافق السياسة الكولونيالية لتقسيم المنطقة العربية بين بريطانيا وفرنسا (فى التوافق الودى Emtente Cordiole) عام 1904 واتفاقية سيكس بيكو عام 1916). وها نحن الآن نرى السفراء الأمريكيين رائحين غادين بكل نشاط يعيدون ترتيب الأوضاع للقوة الإمبريالية الجديدة، على امتداد الوطن العربى كله. من العراق، بعد التخلص من الطاغية صدام حسين، إلى السودان وسوريا ولبنان وليبيا والسفير الأمريكى يرتب أمور اليمن بعد التخلص من الطاغية على عبدالله صالح. وينتظر الأمريكيون سقوط الطاغية بشار الأشد ليقوموا بنفس المهمة. هل هى عودة إلى التبعية الكاملة للغرب مقابل إسقاط رموز الطغيان والفساد والخراب؟ لقد بدأت الموجة العاتية عام 2003 بالغزو الأمريكى للعراق لإقامة «الديمقراطية بالغزو». وفى عام 2004 أعلن جورج بوش فى اجتماع مجموعة الثمانية الكبار، بضرورة إقامة الديمقراطية فى منطقة الشرق الأوسط الكبير، واعتبار النموذج الإسلامى التركى لحزب «العدالة والتنمية»، هو النموذج الأفضل لهذه الدولة العضو فى حلف الأطلنطى للتطبيق فى دول المنطقة. ومن هذا الوقت بدأ الدور التركى يتمدد فى المنطقة.
صراع الأجيال وثورة 25 يناير
يقول آلان جريشن نائب مدير تحرير صحيفة «لوموند ديبلوماتيك».. (لقد ثار الشعب المصرى ضد نظام استبدادى وضد الفساد والفقر. وكان الشباب عنصرا أساسيا فى عمليات التعبئة.
وهذه هى الأرضية التى ينبغى للثوار أن يختبروا عليها أحلامهم، عن طريق اقتراح سياسات تؤدى إلى خلق حياة ديمقراطية فى البلاد، وتحولات اقتصادية واجتماعية، مع الدفاع عن الفئات الأكثر حرمانا كأولوية.. إن الشباب الذين يمثلون غالبية السكان والذين مازالو يعانون من التهميش إلى حد كبير.. هؤلاء الشباب بإمكانهم الإسهام بشكل حاسم، ولذلك يُعد تجديد الأجيال ضرورة تاريخية).
صراع الأجيال هذا ظهرت عوارضه فى مصر فى عام 1972 فى احتجاجات الطلبة والشباب على الهزيمة فى الحرب مع إسرائيل والحكم الفردى الاستبدادى المطلق (الأتوقراطى)، وقد كان ذلك هو بذور انتفاضة 25 يناير 2011.
يذكرنى ذلك بصراع الأجيال فى روسيا القرن التاسع عشر، باعتبارها مجتمعا يمر بمرحلة النمو الرأسمالى، مثلها فى ذلك مثل مصر وغيرها من «البلدان النامية». وقد كانت دولة مستبدة حالفة بصراع الأجيال، جيل الكبار الليبرالى وجيل الشباب الراديكالى. هذا الصراع الأبدى السرمدى بين الكبار والشباب، بين الآباء والأبناء، كل متمسك بحقيقة، الصدام بين الأجيال تم نسيانه فى خضم سخونة الجدل.
أحد الشباب يقول إلى رجل كبير السن: (أنت تمتلك محتوى ولكن دون قوة). رجل كبير السن يقول لأحد الشباب: (وأنت تمتلك القوة دون محتوى). وقد صور صراع الأجيال هذا، الروائى المشهور تورجنيف فى روايته الشهيرة «الآباء والأبناء». وقد كانت الشخصية المحورية فى الرواية هى شخصية «باظاروف». أثرت شخصية «باظاروف» على الشباب، كما أثرت رواية «فيرتر» ل«جيته»، ورواية «قطاع الطرق» ل«تشيلر»، ورواية «تشايلد هارولد» ل«بيرون»، فى أيامهم فى القرن التاسع عشر. هل يمكن أن يكون «باظاروف» مثالا لزعماء انتفاضة 25 يناير.
إن «باظاروف» ليس حبيسا لأى نظرية.. هذه هى جاذبيته. أنه هو الذى يصنع التقدم والحرية.
الفكر السياسى وثورة 25 يناير الشعبوية ومدى ملائمتها للبلدان النامية ومن بينها مصر
يمكن أن يُدْرس الفكر السياسى الروسى فى القرن التاسع عشر قبل الثورة الروسية عام 1917 كمثل مبكّر لما يجرى فى بلد من بلدان «العالم النامى» التى تمّر حاليا بعملية التغريب والتنمية الرأسمالية، ومن بينها مصر. يقول البروفسيور س.ف أتشون، أستاذ الاقتصاد السياسى فى كلية لندن للاقتصاد والعلوم السياسية، إنه «يمكن أن يُدْرس الفكر الروسى كمثل مبكر لما يجرى فى بلد من «بلدان العالم النامى» التى تمر حاليا بعملية التغريب والتنمية الرأسمالية. هذا الجانب الشعبوى من الفكر الاقتصادى والاجتماعى، المتعاطف مع الفلاحين، يجتذب الناس ذوى العقول المتشابهة فى البلدان الأخرى فى شرق وجنوب شرق أوروبا، وكما أوضح البروفسيور «مترانى Mitrany» أن النظرية الشعبوية، مارست تأثيرا كبيرا على كثير من المفكرين وعلى عدّة أحزاب سياسية فى تلك البلاد. وبالنظر للماضى من زاوية الفرصة المناسبة للنجاح فى منتصف القرن العشرين، على المشاكل التى يحاول الشعبويون حلها، والحلول التى اقترحوها، تدرك أن ما كان يظهر لهم مجرد وضع روسى خاص نشأ، ومستمر فى النشوء فى أيامنا هذه فى «بلدان العالم النامى»، وأن النظرة الشعبوية والأحزاب الشعبوية كثيرا ما تكون ذات فائدة باعتبارها «سوابق تاريخية».
وقد شكلت تجربة الزعيم جمال عبدالناصر شعبوية مصرية وسطية معتدلة، هو وزعماء دول باندونج أمثال نهرو وسوكارنو وسو إن لاى شعبوية وطنية الطابع، وإن كانت مستمرة من الشعبوية الروسية فى القرن التاسع عشر، كما بين المفكر السياسى سالف الذكر.
وهذا هو ما يحدث فى الوقت الحالى فى مصر والبلدان المتشابهة فى العقد الثانى من القرن الواحد والعشرين. ففى مصر تنشأ أحزاب وتيارات شعبوية، شكلت شعبوية مصرية وسطية معتدلة مثل الحزب المصرى الديمقراطى الاجتماعى وحزب الكرامة والتيار الشعبى والحزب الناصرى الجديد والتحالف الشعبى الاشتراكى وحزب التجمع.