فور صدور أحكام محكمة القرن ومحاكمة الرئيس السابق ورجاله، نزلت جموع هائلة إلي ميادين التحرير غاضبة غضباً هائلاً بعد سماعهم منطوق الأحكام، واعلنوا اعتصامهم في تلك الميادين، وبنفس السرعة انطلقت من فوهات مدافع السخرية الكثير من الاتهامات، والتسفيه للتندر والسخرية من رد فعل الناس من جانب بعض أصحاب الأقلام، ووجوه الفضائيات بنظرة فوقية وترفع (ولا أشكك في وطنيتهم ولا أزايد علي نواياهم الطيبة) علي مواقع الكترونية وعبر فضائيات يلهث مُعدي برامجها للرأي المختلف المترفع.. أقتبس من بعض تلك التصريحات "إنها مظاهرات ضد القانون" و"قولهم : الشعب يريد تطهير القضاء جريمة ضد كل الشعب" و"يجب أن نضع نهاية للفوضي من أجل استقرارالوطن" و"إنه حكم موضوعي وعادل لن يرضي به بلطجية الفوضي " و يهاجم ثالث مُذكراً بالقضية القبطية" الآن يهتف المتنطعون (الشعب يريد تطهير القضاء) طهرو اأنفسكم أولاً.. أين كنتم عند صدور الحكم المؤبد علي 12 قبطي بأبو قرقاص .. الشعب يريد تغيير الشعب !!" وأخيراً "الشعبوية سيدة الموقف، حتي لو انهار الوطن او احترق" باسم الشعب دائماً تصدر الأحكام باسم الشعب، فإذا كان الحكم يخص حاضر ومستقبل شعب بكامله، وفي مرحلة تحول انتقالية غاية في الأهمية التاريخية والخطورة معاً، فإن الأمر لا يقبل بأي حال من الأحوال إقصاء رأي الشعب، ولا نعتبر غضبته من الأحكام جريمة يتندر بها نخبة متسامية بدون مناسبة، وكأنهم ينظرون من فوق قمة جبل، بينما كان ينبغي الاقتراب من الناس ومجالستهم بعد ثورة قدموا فيها الروح والدم علي مذابح التحرير، ولعلنا في ذكري الشاعر المصري الأصيل الراحل أمل دنقل نُذكر ببعض ماقال وكأنه بيننا الآن " دُعيتُ للميدان ! أنا الذي ما ذقت لحم الضأن أنا الذي لا حول لي أو شان أنا الذي أقصيتُ عن مجالس الفتيان : أُدعي الي الموت .. ولم أُدع الي المجالسه"!! عيب أن يري بعض النخبة الجماهير في الميادين وممارساتهم الوطنية والإنسانية التلقائية، وأتوقف علي سبيل المثال فيما ذكرت من عبارات التسفيه (بلطجية فوضي / متنطعون / ضرورة تغيير الشعب / الشعبوية ..) .. أتوقف، ويؤلمني جداً نعت التحرك الثوري للجماهيرب "النطاعة" والشعبوية"، أما عن النعت الأول فإنه يقع في إطار السب الساذج، ولكن حكاية "الشعبوية" هي التي ينبغي التوقف عندها.. الشعبوية في تعريفها تشير إلي الخطاب السياسي الذي يستخدم الديماغوجية ودغدغة عواطف الجماهير الغير مثقفة لتحييد القوي العكسية. حيث يعتمد بعض المسؤولين علي الشعوبية لكسب تأييد الناس والمجتمعات لما ينفذونه أو يعلنونه من السياسات، وللحفاظ علي نسبة جماهيرية معينة تعطيهم مصداقية وشرعية، ويبقي السؤال : هل يليق نعت جماهير محبطة تعيش أزمة "شفيق/ مرسي" ونهاية غير سعيدة لمشوار ثورة ساهم بقدر ما في الوصول إلي بعض النتائج السلبية نخبة غير راشدة بهذا الوصف؟.. هل يليق توجيه اللوم إلي شعب يتابع علي مدي أكثر من عام ونصف تراكم أحداث سلبية لثورة عظيمة لم تصل بثوارها لمقاعد إدارة دفة العمل الوطني، فنستهين بتفاعلاتهم التلقائية ونروج لهاباعتبارها مجرد توجهات وطلبات شعبوية..؟! وفي الواقع ينبغي الإشارة إلي أن الاعتراض علي أحكام القضاء، لاينبغي أن يكون في ميادين الثورة، لكن مكانه ساحات القضاء وفق آليات الاعتراض القانونية منها الطعن والاستئناف، ولكن ينبغي في المقابل أن نقدر حالة شعب يعاني قوي أسطورية تجهض كل يوم أحلامه، وبعد ثورة عظيمة شهد لها العالم، فمرة تخونه نخبة ليبرالية تترك الميدان لدنيا حصاد الغنائم والحصول علي ثمن الوجود في ميادين الثورة مادياً وجاهاً وشهرة ومناصب، ومرة أخري وبوضع اليد هذه المرة علي الميدان يختطف منهم الاخوان والسلفيين حلم إقامة دولة مدنية قوية والاتجاه بإصرار حول ممارسة اللعبة الطائفية المقيتة (مسلم ومسيحي) عبر خلط السياسي بالديني، وأخيراً قوي لديها مخطط منظم لإعادة إنتاج العصر المباركي عبر تفعيل آليات الدولة البوليسية. نعم، مشهد المحكمة، وما حدث فيها من غضب جماهيري لا يوافق أحد علي حدوثه، لكن دعونا نسترجع مشاهد المحاكمة، وكيف رفعت المقدمة التي تلاها رئيس المحكمة سقف توقعات الحضور بشكل عام، وأهالي الشهداء وأصحاب الإصابات التي وصل بعضها حد أن خلفت لديهم عاهات مستديمة بشكل خاص. ذكر رئيس المحكمة في مقدمته : مع بزوغ صباح يوم الثلاثاء الخامس والعشرين من يناير عام 2011 أطلت علي مصر شمس فجر جديد لم تره من قبل، أشعته بيضاء حسناء وضاءة تلوح لشعب مصر العظيم بأمل طال انتظاره ليتحقق مع نفاذ أشعتها شعاعًا وضاحًا وهواء نقىًا زالت عنه الشوائب العالقة فتنفس الشعب الصعداء بعد طول كابوس ليل مظلم ولكنه أخلد لثلاثين عامًا من ظلام دامس حالك أسود أسود أسود، فخرج ابناء مصر الشرفاء من كل المحافظات في مظاهرات سلمية متوجهين إلي ميدان التحرير طالبين العدالة الاجتماعية والحرية والديمقراطية. هي مقدمة رغم فقرها اللغوي والبلاغي لمحاولات التقعر الساذجة في الصياغة، باتت في صراخها كهتاف الثوار في الميدان من فرط الحماسة، لكن الرجل لم يلبث أن سارع بقسوة بالهبوط السريع والحاد بأحلام طالبي القصاص، ومباغتة الحضور بنشيد قراره الرئيس والمتكرر " خلت أوراق الدعوي" والتي تشير لأوراق قضية خلت ملفاتها من المستندات والوثائق والشرائط وأدلة فنية قطعية، وعليه كانت الأحكام وكان رد الفعل .. نحن أمام نخبة تمارس الشعبوية، وشعب باتت لهم مواقف وردود فعل أكثر فهماً وقراءة للواقع عن نخبته. صدقني يصديقي العزيز والنقي والصادق بحق أننا أمام موامرة ابشع تستغل الصدمة الشعبية في تحقيق مشروعهم المدمر ظني اننا نحتاج لإدارة مختلفة لأزمة وطن يحتضر.