للوهلة الأولى، تبدو 30 يونيو وكأنها انقلاب؛ فلقد تدخل الجيش لعزل رئيس منتخب، وإلغاء الدستور القائم، وللإشراف على حكومة فترة انتقالية تشرع فى إقامة انتخابات برلمانية ورئاسية جديدة، وكتابة دستور جديد. ولكن ماذا لو كان هذا هو ما تريده الأغلبية فى البلاد؟ وهل يكون أى تدخل عسكرى من هذا النوع غير شرعى بالضرورة؟ وكيف علينا أن نقرأ الدور الداعم الذى قام به الجيش فى ثورة 25 يناير فى مصر، أو دور الجيش فى ثورة القرنفل البرتغالية عام 1974، والتى أسست لنظام ديمقراطى؟. يحدث الانقلاب، عندما تطيح مجموعة من النخبة الحاكمة مثل الجيش بمجموعة أخرى وتنتزع قهرا السلطة منها بدون أدنى أى مشاركة من الشعب. وما حدث فى مصر فى ال30 يونيو كان أكثر من ذلك بكثير. فقد كان «إكراها ثوريا» أكثر مما كان انقلابا؛ فقد كان تدخل الجيش لعبة النهاية لانتفاضة هائلة فى ثورة طويلة حدثت عندما خرج إلى الشوارع حوالى 17 مليون مواطن من كل الفئات (مسلمين، مسيحيين، رجالا، نساءً، متدينين، علمانيين) من مدن صعيد مصر والدلتا، مستعرضين نضالهم الجماعى بشكل غير مسبوق فى نضالات الأمم. لقد قاموا بهذا للإطاحة بحكومة إسلامية رأوا أنها مشغولة ببناء ثيوقراطية انتخابية أكثر من تحقيق مطالب الثورة فى العيش والحرية والعدالة الاجتماعية، وهى المطالب التى قدمت تضحيات كبيرة، وسالت دماء غزيرة لأجلها. وعملت حركة تمرد الثورية المفعمة بالنشاط ليلا ونهارا لأشهر لتعبئة وجمع ما يقارب 25 مليون توقيع لسحب الثقة من مرسى قبل ال30 من يونيو. ••• أما الجيش، فقد كان يشاهد الموقف، ويتابع عن كثب انتشار الاستياء الذى تفاقم فى النهاية ليشكل دراما 30 يونيو. وعندما رأى فى النهاية حجم المحتجين، وجد نفسه مجبرا للوقوف إلى جانب الثوار فى محاولة منه لتأمين سلطته وامتيازاته فى ميزان القوى الجديد. فى هذه المرحلة، تلاقت مصالح الثوار ومصالح الجيش؛ فبالنسبة للثوار، عمل تدخل الجيش بالإطاحة بمرسى كمحفز بإزالته لكثير من الحواجز، وبمنعه وبدفعه للثورة المتوقفة أن تتحرك قدما، أى أنه كان بمثابة قابلة لأمة حُبلى لا تتوقف آلام مخاضها من أجل أن تأتى بنظام اجتماعى جديد. كانت الثورة فى حاجة إلى دفعة درامية: إكراه ثورى. تعكس هذه المرحلة من الدراما الثورية المصرية الاستراتيجية المتناقضة لثورة افتقدت القوة الإكراهية اللازمة لما قام به الجيش باسمها، وهى عواقب مفارقة ولكن حتمية لطبيعة الثورة المتناقضة؛ فقد تمتعت الثورة بشعبية، غير أنها افتقدت السلطة الإدارية؛ وكان لها هيمنة ملحوظة غير أنها لم تحكم، هذه العواقب دفعتها لأن تعتمد على أجهزة الدولة القائمة وفى هذه المرة الجيش كى تتمكن من إنجاز التغيير. وفى الحقيقة، لو كان الثوار المصريون مثل كل نظرائهم فى القرن العشرين قد تمكنوا من إنتاج مواردهم الخاصة وقوتهم الصلبة مثل (الميليشيات الثورية، الجيش الثورى) لكانوا قد قاموا بما توقعوا أن يقوم به الجيش لأجلهم وهو ما لم يكن أن يصنف على أنه انقلاب. ••• قد كان لمعظم ثوار القرن العشرين مثل هذه القوة الإكراهية. ففى الثورة الإيرانية عام 1979، على سبيل المثال، كانت بعض المجموعات الثورية مسلحة بالفعل مثل (فدائيين خلق ومجاهدين خلق) فى الوقت الذى قام البعض الآخر فيه بالهجوم على مراكز الشرطة وثكنات الجيش للاستيلاء على الأسلحة. وقد مكنهم هذا من الالتحام بالتمرد المسلح والذى بدفعة واحدة هزم مناصرى الشاه ودفع الجزء الأكبر من الجيش إلى الانضمام إلى الثورة. وفور أن سقط النظام العتيد، كونت هذه المجموعات الحرس الثورى (باسداران) الذى أشرف على الدفاع عن الثورة والإشراف على إنجاز «العدالة الثورية»، وهو ما أزال رموز النظام القديم وقضى على معارضى النظام الجدد. ولم يكن يسمى هذا «انقلابا» بل سمى ثورة. وربما يجادل المرء بأن الأوضاع فى مصر مختلفة. فقد انطلقت 30 يونيو «الثورة الثانية» ضد حكومة شرعية منتخبة بمساعدة من الجيش الذى لم يكن صنيعة الثوار بل كان حليف لغرض ما فى إطار علاقة متوترة. ويهاجم الإخوان المسلمون الإطاحة بمرسى انطلاقا من أن حكومته كانت منتخبة قانونيا ومن ثم ثم تحظى بالشرعية. وبالتأكيد كانت حكومة مرسى قانونية. ولكن هل تمنح المشروعية القانونية وحدها مؤسسة ما أو عملية ما الشرعية؟ لقد كان قانون الطوارئ أثناء حكم مبارك مرسوما قانونيا غير أنه لم يكن بالضرورة شرعيا. وفى إيران اليوم، فإن مجلس صيانة الدستور سيئ السمعة، والذى يتمتع بحصانة كبيرة فى تحديد من يستطيع أن يترشح للانتخابات ومن لا يستطيع، يتمتع هذا المجلس بالقانونية غير أنه ليس بالضرورة شرعي؛ فما يؤكد الشرعية ليس ببساطة المشروعية القانونية، ولكنه الرضا الشعبى، والذى قد يأخذ وقد لا يأخذ شكلا قانونيا وفى الظروف الاعتيادية، عندما يحكم الإجماع العريض على القواعد والمبادئ مؤسسات الأمة، فإن الصناديق الانتخابية عادة ما تحدد الرضا الشعبى. ولكن فى مصر بعد الثورة، قلما شهدنا ولو يسيرا الحكم على أساس من الاستقرار والسوية والإجماع وهو يقود الحياة السياسية للأمة. ••• لقد ظلت مصر منذ 25 يناير 2011، فى حالة مستمرة من الحركة الثورية حيث طغت سياسات الشارع إلى حد بعيد على عمل المؤسسات القانونية. وبالطبع استمرت الحياة، ولكن ليس بفضل بعض المؤسسات العاملة ذات السلطة القانونية، بل بسبب هيمنة الأنماط المتجاوزة للقانون والتنظيم الذاتى كما بوسع المرء أن يلحظه فى المصانع، والأحياء السكنية، والمدارس والمحاكم والجامعات والبرلمان نفسه. وكيف للمرء أن يتحدث عن وجود حالة طبيعية وإجماع فى ظل اندلاع ما يقارب 130 مظاهرة فى الشوارع و200 احتجاج اجتماعى مثل قطع الطرقات بشكل أسبوع فقط خلال تسعة أشهر. وفى مثل هذه الحالة الثورية غير الاعتيادية، عندما تظهر المؤسسات القانونية المعهودة الاضطراب، فى ظل قليل من الإجماع حول قواعد اللعبة، فإن السياسة تتم ممارستها فى الشارع خارج هذه المؤسسات. فالشارع لا البرلمان هو من يعبر ويمثل صوت الجماهير. وفى 30 يونيو، شهدنا 17 مليون مواطن يتحركون فى الشوارع من أجل الإطاحة بالرئيس الفاشل لا من خلال البرلمان، ولا عبر وسائل قانونية ولكن فى الشارع عبر فعل ثورى. والثورات على أية حال أمر غير قانونى. قطعا لا تقتصر الممارسة الديمقراطية على صناديق الانتخابات، ومؤخرا بدا واضحا كيف أن المؤسسات الديمقراطية الليبرالية فى العديد من البلدان حتى الغرب، قد فشلت فى التعبير عن آمال عدد كبير من المواطنين. غير أن هذا لا يعد سببا للاحتفاء الزائد بسياسات الشارع أو التعامل برومانسية بالممارسات المتجاوزة للقانون. بل بالعكس، فإن هذه الممارسات هى النتيجة الحتمية للاستبعاد وانعدام الثقة وفشل السياسات المؤسسية فى ظل أوضاع ثورية متقلبة؛ وهو الاتجاه الذى بدا واضحا فى العديد من البلدان التى شهدت احتجاجات شعبية فى السنوات الأخيرة. ليست سياسات الشارع بالفضيلة فى ذاتها ولكنها ضرورة. فالفضيلة تكمن فى بناء إجماع واسع عبر الجموع المتنوعة للسكان بروح المواطنة. تلك الروح التى ليسودها المساواة والعدالة الاجتماعية. ومن ثم، فإن هذه المؤسسات مثل الأحزاب السياسية والمجتمع المدنى، والتصويت والبرلمان، وفوق كل هذا حكم القانون، على قدر كبير من الاهمية، بل فى حقيقة الأمر لا يمكن الاستغناء عنها، ولكنها ليست مكونات كافية لبناء نظام سياسى شامل يمكن من خلاله أن تتحقق أهداف الثورة فى العيش والحرية والعدالة الاجتماعية. ولتحقيق هذا، لا يمكن للثورة أن تبقى قابعة فى الشوارع الرئيسة بل عليها أن تتحرك أبعد من هذا لتحتل الشوارع الخلفية، والأحياء والقرى والاتحادات المهنية، والمدارس، والتجمعات السكنية، من أجل أن تعلم وان تربى وان تعبئ وأن تنظم. وهذه هى العناصر الأساسية فى استئناف الثورة الطويلة. الآن، اصطفت أقوى مؤسسات الدولة إلى جانب الثوار، ومن لا يريد مثل هذا الدعم من الجيش؟ ولكن ما الثمن؟، كيف لنا أن نبنى نظاما شاملا للحكم، وأن ننهى الثقافة القمعية للدولة العميقة والجيش جزء أصيل منها؟ فما الخير فى القابلة التى قد تعرض حياة الوليد لخطر عظيم؟ فهذا الجيش هو نفسه الذى وقف الثوار فى مواجهته منذ شهور، وتعرض 12 ألف شخص منهم لمحاكماته العسكرية، كما غض الطرف عن اختبارات العذرية سيئة السمعة، وهو الجيش نفسه الذى دائما ما يلقى المباركة من البنتاجون. وعندما يأتى وقت الحسم، على الأرجح سيضحى بالثوار. ••• السؤال إذا، هو كيف تُدار العلاقات بالجيش؟، كيف يمكن للثوار أن يمارسوا رقابة على هذه المؤسسة؛ وإلى أى حد يمكنهم مقاومة قيادتها للأمور؟ هل سيقفون فى مواجهة الجيش والشرطة للحد من ممارساتهما القمعية، وللدفاع عن وحماية خصومهم الأيديولوجيين من المطاردة والاضطهاد، ولتأكيد رغبة الملايين الذين صنعوا معجزة 30 يونيو؟ الأمر الجيد هو أن المصريين أثبتوا مرة أخرى امتلاكهم روحا وريادة غير معتادة، قلما توجد فى مكان آخر. فقد أتقنوا فن عدم الانصياع، وهذه هى القوة العظمى فى الأزمنة العصيبة.