فى الأسابيع التى سبقت الإعلان عن فوز مرشح جماعة الإخوان المسلمين محمد مرسى برئاسة مصر، ليصبح القائد الأعلى للقوات المسلحة، كانت ثمة توترات واضحة بين واشنطن والمؤسسة العسكرية المصرية، التى قادت البلاد فى مرحلة انتقالية قبل تنصيب مرسى. فقبل إعلان نتيجة المرحلة الثانية من الانتخابات الرئاسية، غضبت واشنطن بسبب إصدار المجلس العسكرى إعلانا دستوريا فى 17 يونيو يقلص من صلاحيات رئيس الجمهورية الجديد، قبل تنصيبه بنحو أسبوعين، ونص الإعلان على تولى المجلس العسكرى سلطة التشريع، إلى حين انتخاب مجلس شعب جديد بعد إصدار دستور جديد للبلاد، كما حصن الإعلان أعضاء المجلس من العزل، ومنحهم حق تقرير كل ما يتعلق بشئون القوات المسلحة، إلى حين إصدار الدستور.
ورأت واشنطن أن هذا الإعلان يقلص من صلاحيات الرئيس المنتخب، وعبر كبار مسئولى الإدارة الأمريكية عن قلق حقيقى بشأن تحركات المجلس العسكرى لتشديد قبضته على السلطة بمصر، وقالت المتحدثة الرسمية باسم وزارة الخارجية، فيكتوريا نولاند، إن «فشل المجلس العسكرى فى تسليم السلطة للسلطة المدنية المنتخبة ديمقراطيا سيدفعنا لإجراء مراجعة للعلاقة بين البلدين».
ومن وزارة الدفاع الأمريكية خرجت دعوات مماثلة على لسان جورج ليتل، المتحدث الرسمى لوزارة الدفاع تؤكد «أنه يتعين استمرار عملية الانتقال وأن تصبح مصر أكثر قوة واستقرارا بعملية انتقال ناجحة إلى الديمقراطية»، وقال ليتل إنه لا يعتقد أن وزير الدفاع الأمريكى، ليون بانيتا، الذى تحدث مع طنطاوى قبل يومين من صدور الإعلان، قد أحيط علما بشأن اعتزام المجلس العسكرى إصدار هذا الإعلان».
وقال «لدينا قلق عميق بشأن التعديلات الجديدة للإعلان الدستورى، بما فى ذلك اختيار توقيت إعلانها مع إغلاق مراكز الاقتراع فى الانتخابات الرئاسية.. ندعم الشعب المصرى فى توقعاته الخاصة بأن ينقل المجلس الأعلى للقوات المسلحة السلطة كاملة لحكومة مدنية منتخبة ديمقراطيا».
كما شددت وزيرة الخارجية فى ذلك الوقت، هيلارى كلينتون، على ضرورة أن يسلم المجلس العسكرى السلطة إلى الفائز فى الانتخابات الرئاسية.
تغيير مرسى لقادة الجيش
بعد أقل من أسبوعين على زيارة كلينتون وبانيتا للقاهرة، بعد تنصيب مرسى، وعلى إثر حادثة مقتل 16 جنديا مصريا فى معسكر للجيش قرب معبر رفح الحدودى، قرر مرسى إقالة المشير محمد حسين طنطاوى والفريق سامى عنان، وألغى الإعلان الدستورى المكمل، كما قرر تعيين عبدالفتاح السيسى وزيرا للدفاع كما عين صدقى صبحى رئيسا لأركان حرب القوات المسلحة.
وبمجرد الإعلان عن التغييرات فى قادة الجيش المصرى، خرجت شائعات عن مباركة أمريكية ودور لواشنطن فى إحداث هذه التغييرات، إلا أن سفيرا أمريكيا سابقا خدم فى المنطقة العربية أكد ل«الشروق» أن الإدارة الأمريكية علمت «بحركة التغييرات التى قام بها مرسى من وسائل الإعلام». ورأى المسئول الأمريكى السابق أن أى ادعاء بمعرفة الجانب الأمريكى مسبقا بما شهدته مصر فى هذا الموضوع هو «مبالغة تفتقر للدقة».
حملة «تمرد» وفريق عمل أمريكى
مع تطورات حملة تمرد الداعية لعزل مرسى وبمجرد وصول أخبار عن عزم الجيش التدخل فى حالة الاحتقان السياسى، قبل يوم 30 يونيو ومع وجود ملايين المصريين من المعارضين والمؤيدين فى شوارع مصر، إضافة لظهور إرهاصات بخروج الوضع الأمنى عن السيطرة، شكلت الإدارة الأمريكية «فريق عمل حول مصر»، لتقديم مقترحات حول ما يجب أن تتبعه الإدارة الأمريكية فى هذه الظروف.
وحضر إلى البيت الأبيض، إلى مكاتب مجلس الأمن القومى تحديدا، عدد من خبراء الشأن المصرى للاستعانة بآرائهم للوقوف على مستجدات الاحداث. كما هرع للبيت الأبيض وزراء الدفاع وفريق كبير من وزارة الخارجية وكبار قادة البنتاجون وممثلو أجهزة الاستخبارات المختلفة.
وبعد عقد اجتماعات على مدار الساعة، تواصلت حتى يوم 1 يوليو، وبعد بيان وزارة الدفاع المصرية الذى منح القوى السياسية 48 ساعة للتوصل لاتفاق، اتفق الحاضرون على أنه أصبح من الخيال الوصول لاتفاق بين الرئاسة المصرية والقوى السياسية المعارضة يمكن معه الخروج من الأزمة، بما يوقف التظاهرات، خاصة بعد خطاب مرسى الذى أعلن فيه تمسكه بشرعيته الانتخابية، ولم يعد هناك بديل للجيش إلا التدخل.
وتبلور الموقف الأمريكى واضعا فى الاعتبار عدة عوامل:
أولا: أن حدوث انقلاب عسكرى يعنى تلقائيا وبمقتضى قانون أقره الكونجرس الأمريكى، عام 1961، وقف كل المساعدات لمصر، ولأى دولة يتدخل فيها الجيش بالانقلاب على رئيس مدنى منتخب.
ثانيا: ضرورة عدم انفراد القوات المسلحة بإدارة المرحلة الانتقالية، ووجود وجوه سياسية مدنية لها شعبية ومصداقية.
ثالثا: عدم اتباع أى أساليب قمعية مع كبار قادة الإخوان المسلمين وغيرهم من القوى السياسية الإسلامية.
من هنا جاءت مكالمات تليفونية كثيرة وطويلة بين مسئولى البنتاجون ووزارة الدفاع المصرية هدفت للتأكيد على عدم استخدام العنف، وعدم الرغبة فى وقوع «انقلاب عسكرى».
وتحدث وزير الدفاع الأمريكى، تشاك هاجل، مرتين مع نظيره المصرى عبدالفتاح السيسى آخرها كانت قبل ساعات من بيان السيسى، ولم يكشف المتحدث باسم البنتاجون جورج ليتل عن تفاصيل ما دار فى المكالمات، لكنه قال «أعتقد أنكم يمكن أن تفهموا حساسيات الوضع الآن».
وقبل بيان الفريق السيسى قالت وزارة الخارجية الأمريكية، الأربعاء الماضى، إن واشنطن «قلقة للغاية» بشأن الوضع فى مصر، موضحة أن المقترحات الواردة فى خطاب مرسى «غير كافية» لحل الأزمة، وأن الموقف لايزال مائعا ولا يمكن تأكيد حدوث انقلاب عسكرى.
وبعد البيان الذى عزل مرسى، ووضع خطوطا عامة للمرحلة الانتقالية، خرج الرئيس أوباما ببيان قال فيه على العكس مما جرى عند تنحى مبارك «إذا اعتبرنا أن تحرك الجيش انقلاب، فإن الولاياتالمتحدة ستكون ملزمة بقطع المساعدات العسكرية عن مصر». وأضاف «الأجهزة الأمريكية المعنية، تعكف على تقييم أبعاد الخطوة التى اتخذها الجيش المصرى ومدى تأثيرها على المساعدات الأمريكية».
ولم يصل أوباما إلى حد توجيه إدانة صريحة لتدخل الجيش، فقد قال «تراقب أمريكا الوضع الذى لم تتحدد معالمه بعد فى مصر، ونعتقد أنه فى نهاية المطاف فإن مستقبل مصر يمكن فقط أن يقرره الشعب المصرى، بالرغم من هذا نحن نشعر بقلق عميق لقرار القوات المسلحة عزل مرسى وتعليق الدستور المصرى».
من ناحية أخرى، قال السيناتور باتريك ليهى (ديمقراطى فيرمونت) فى بيان حاد إنه «من الأكيد أن القوانين الأمريكية تتطلب قطع المساعدات عن أى دولة ينتخب رئيسها يتم إزاحته عن طريق انقلاب عسكرى أو بيان عسكرى».
وأضاف «نعم كانت حكومة الرئيس مرسى سيئة لأغلب الشعب المصرى، ولكل من أمل منهم أن يكون حكومة ممثلة لكل المصريين وتلبى تطلعاتهم فى الفترة الانتقالية التاريخية الحرجة». وعاد وأكد أن «لجنة الاعتمادات بمجلس الشيوخ ستراجع المساعدات المستقبلية لمصر بعد اتضاح الصورة كاملة من القاهرة».