بقليل من الاستبداد استطاع الكاتب بلال فضل الانتصار للشعر، وللشاعر مريد البرغوثى، خلال احتفالية دار الشروق بإصدار أعماله الكاملة، بعد أن كاد البعض يستقطبها جهة السياسة. أسئلة من نوع مصير سوريا، نصائح ل«تمرد» قبل 30 يونيو، واتجاهات العرب نحو القضية الفلسطينية تأثرا ب«عبث» حماس، تصدى لها بلال، مؤكدا أن هذه ليلة شعرية، مكتشفا سلطة أن يكون مديرا لحوار بين شاعر كبير وقرائه. وخلال الأمسية قدم فضل قراءة لشعر مريد، استعاضت عن عدسة الناقد، بعينى المحب، المندهش، غير متخل عن سخريته الأثيرة، فانحصرت تعليقاته النقدية فى عبارات من قبيل: «يخرب عقلك جبتها إزاى دى» أو «يخرب بيت كدة»، سائقا العديد من المقاطع الشعرية، ومقتطفات القصائد، وتعقيبات مكثفة عليها، لتقول للمتلقى خلاصة ما يمكن أن يقوله النقاد.
أما المهندس إبراهيم المعلم رئيس مجلس إدارة دار وجريدة الشروق فافتتح الأمسية بالتأكيد على أهمية مريد البرغوثى، مشيرا إلى أنه كان شاهدا على الاحتفاء العالمى الذى حظى به فى الغرب، وكيف تصدت لترجمته كبريات دور النشر هناك، والاحتفاء الكبير به فى الصالون الثقافى لمعرض لندن للكتاب.
وأعرب المعلم عن سعادته بطباعة الأعمال الكاملة للبرغوثى، معتبرا الإقبال الكبير عليها من قبل القراء، دليلا على وعى القارئ المصرى، المفترى عليه ب«كلام إنشا» حول معدل قراءته وتفضيلاته، مشيرا إلى أن الشباب هم أكثر فئات القراء عددا، وأفضل معدلات قراءة حققها كانت خلال الأعوام الثلاثة السابقة للثورة.
الاحتفاء بمريد البرغوثى كان فرصة للاحتفاء بضلعى مثلث إبداعه الأدبى، الكاتبة الكبيرة رضوى عاشور والشاعر تميم البرغوثى، اللذين وصفهما بلال فضل بالاستثناء من قواعد عدة، فإذا كانت رضوى استثناء من قاعدتى أن الشعراء تعساء دائما فى الحب، أو أن عظيم الموهبة لا يسعد إلا فى صحبة متوسطة الموهبة، فإن تميم بحسبه، كان استثناء من قاعدة أن الشعراء الكبار عادة ما ينجبون شعراء محدودى الموهبة، ولولا «نقطة النظام» التى أقرها بلال فضل باختصاص مريد وشعره بهذه الأمسية، لتوزعت عشرات المداخلات على ثلاثتهم.
وفيما اختتمت رضوى عاشور الأمسية، بكلمة مكثفة عن شعر مريد، موضحة أن أول قصيدة سمعتها له أيام الجامعة جعلتها تتوقف عن كتابة الشعر، علقت على وصف زوجها لنفسه بأنه senior citizen، بمعنى كبير السن صاحب الامتيازات، قائلة إنها وتميم يعتبرانه كبير المقام، قال تميم إنه تهرب من الكتابة عن والده لتلك المناسبة، لأنه وجد أن أى محاولة للكتابة ستكون قصيدة، فآثر أن يشرك الحضور معه فى «أشياء بسيطة»، مثل سيارة الشرطة التى أخذت أباه عام 1977، وعمره 5 أشهر، وأول مرة التقى والده بعدها بالمنفى، والتربية بين عدة لغات، إلى جانبهم كانت اللغة الأهم، الفصحى، لغة الكارتون والأبطال الذين يمكنهم الطيران، ولغة الشعر أيضا.
وأضاف أنه كان دائم التقليد لأبيه فى كل شىء ودائم التعلم منه خصوصا فيما يتعلق بالشعر والوزن، مشيرا إلى أن ابتعاده عن كتابة شعر الفصحى، لم يكن تمردا على أبيه بل محاولة للهرب، لأنه «لو اقتربت من هذا النور فسأحترق».
أما الكاتبة الكبيرة أهداف سويف فأشارت إلى ملمحين فى حياة وشعر البرغوثى التى شهدت العديد من محطاتها بحكم صداقتها للعائلة، أولهما أن الرومانسية يمكن أن تنجح، معتبرة أن علاقة مريد ورضوى «حياة سعيدة رغم كل الصعاب»، وبالتوقف عند شعر مريد الذى تولت سويف ترجمته للإنجليزية، أكدت الكاتبة ما اعتبرته صعوبة أو استحالة ترجمة شعره، مشيرة إلى أنها استغرقت مدة محاضرة كاملة مع طلابها فى محاولة ترجمة الأسطر الثلاثة الأولى من قصيدته الشهيرة «لى قارب فى البحر».
وقوفا عند تلك القصيدة التى آثر مريد أن يقرأها خلال الأمسية قال الشاعر إنها القصيدة التى أهداها الشهيد التونسى شكرى بلعيد إلى التونسيين فى إحدى المقابلات الإعلامية معه، وقرأ مريد بالإضافة إلى تلك القصيدة عدة قصائد، من بينها قصيدة «الحرب راضية عن نفسها» وهى قصيدة لم تضمها أعماله الكاملة، فضلا عن قصائد: «غمزة»، «محمد»، و«الحب فى الحياة».
وخلال الأمسية تجنب مريد التعرض لسيرته الذاتية كشاعر فلسطينى، ومنفى، ومعتقل، مؤكدا أن أى حديث عن المآسى الشخصية فى ظل ما تعيشه الآن مصر وسوريا وفلسطين والعراق، يعد نوعا من الترف.
كما تجنب توجيه نصائح فيما يخص كتابة الشعر، قائلا لأحد الشباب الذى سأله كيف أكتب الشعر: لكى تكتب شعرا جيدا، لا تسأل أحدا كيف اكتب شعرا جيدا، موصيا إياه فقط بالانتباه، لأن الشعر برأيه كالحب هو أقصى درجات الانتباه، ومحذرا إياه من الالتفات للتسميات والتقسيمات الشعرية، لأن الشكل برأيه لا يصنع نصا بذاته.
وتوقف الشاعر عند تيمة البناء فى شعره، مشيرا فى هذا السياق إلى أن الفرق بينه وبين الشاعر الكبير محمود درويش أن الآخير «كان يغنى بينما أنا أبنى»، مشيرا إلى ملمح ذكره تميم عن شعر والده وهو «تبريد اللغة» والاتكاء على لغة مادية محسوسة بهدف تشكيل مبنى شعرى رهيف.