من المؤلفات الصغيرة للمؤرخ تقى الدين المقريزى رسالة من بين رسائله تحمل عنوان «شذور العقود فى ذكر النقود»، وهى رسالة كتبها بناء على طلب مسئول كبير فى الدولة كما يذكر فى مقدمته للرسالة: «..وبعد، فقد برز الأمر المطاع زاده الله علوا وتمكينا بتحرير نبذة لطيفة فى أمور النقود الإسلامية فبادرت إلى امتثال ما خرج الأمر العالى أعلاه الله به من ذلك والله أسأل التوفيق منه». وقد وضع هذه الرسالة التى تأخذ شكل التقرير فى زمن السلطان المؤيد شيخ، بعد شهر صفر سنة 818ه. والهدف من الرسالة التأريخ للسكة أو النقود الإسلامية، ليخرج من هذه الدراسة بمقترحات لحل الأزمة النقدية التى كانت تعيش مصر فى ظلها لسنوات طويلة منذ سقوط الدولة الفاطمية، تلك الأزمة التى يرصدها المقريزى بقوله: «فلمازالت الدولة الفاطمية بدخول الغز من الشام إلى مصر على يد السلطان الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب فى سنة سبع وستين وخمسمائة، قررت السكة بالقاهرة باسم أمير المؤمنين المستضىء بأمر الله. وباسم السلطان الملك العادل نور الدين محمود بن زنكى، صاحب بلاد الشام، فنقش اسم كل منهما فى وجه، وفيها عمت البلوى والضائقة بأهل مصر. لأن الذهب والفضة خرجا منها، وما رجعا، وعدما فلم يوجدا، ولهج الناس بما عمهم من ذلك، فصار إذا قيل دينار أحمر فكأنما ذكرت حرمة الغيور له، وإن حصل فى يده فكأنما جاءت بشارة الجنة له». وقد تطورت الأمور بعد ذلك وجرت عدة محاولات للإصلاح النقدى لم يقدر لأى منها أن تستمر طويلا، فعندما تولى صلاح الدين السلطنة سعى لإجراء إصلاح نقدى بضرب دنانير ودراهم خالصة، لكن الملك الكامل الأيوبى ضرب دنانير ثلثيها من الفضة وثلثها من النحاس أوقف التعامل بالدراهم الناصرية، وقد ضرب الظاهر بيبرس دراهم جديدة زاد فيها نسبة الفضة إلى 70% فى محاولة منه لإصلاح النقد. لكن الأمور صارت إلى الفساد مرة أخرى سنة 781ه فى أواخر زمن دولة المماليك البحرية، وعندما تولى برقوق السلطنة وأسس دولة المماليك الجراكسة، قام الأمير محمود بن على الأستادار بإبطال ضرب الدراهم الفضية وأكثر من ضرب الفلوس النحاسية حتى سادت وأصبحت النقد الرسمى للبلاد. وعندما تولى السلطان المؤيد شيخ السلطنة قام بمحاولته الإصلاحية الجديدة التى أخرجت البلاد من أزمتها النقدية، وهى المحاولة التى طورها فيما بعد السلطان الأشرف برسباى. وقد عرض المقريزى فى دراسته لتطور النظام النقدى فى مصر آراءه التى سبق أن قدمها فى رسالته المهمة «إغاثة الأمة بكشف الغمة» التى ألفها سنة 808ه، ودرس فيها تاريخ الأزمات الاقتصادية والأوبئة والمجاعات، وعلاقة الأزمة بالفساد السياسى والإدارى. وأكد المقريزى فى «شذور العقود بذكر النقود» ما انتهى إليه من قبل فى إغاثة الأمة من خطأ وخطر الاعتماد على العملات النحاسية أو الفلوس بمصطلح ذلك العصر فى النظام النقدى، وانتهى إلى ضرورة العودة إلى اعتماد النقود المضروبة من الذهب أو الفضة كنقود لها قوة الإبراء. ووجه خطابه إلى السلطان المؤيد شيخ مقترحا عليه مشروعا لإصلاح النظام النقدى يقوم على اعتبار الدراهم المؤيدية التى ضربها السلطان العملة الشرعية الوحيدة التى تقاس عليها المعاملات. فيقول: «اللهم ألهم مولانا السلطان بحسن السفارة الكريمة، أن يأنف من أن يكون نقده مضافا إلى غيره، وأن يجعل نقده تضاف إليه النقود، كما جعل الله اسمه الشريف يضاف إليه اسم كل من رعيته، بل كل ملك من مجاورى ملكه، والأمر فى ذلك سهل إن شاء الله، وذلك أن يبرز المرسوم الشريف لموالينا قضاة القضاة، أعز الله بهم الدين أن يلزموا شهود الحوانيت، بأن لا يكتب سجل أرض ولا إجارة دار ولا صداق إمرأة ولا مسطور بدين. إلا ويكون المبلغ من الدراهم المؤيدية. ويبرز أيضا للناظر فى الحسبة الشريفة، أن يلزم الدلالين بسائر الأسواق، ألا ينادوا على شىء من المبيعات سواء قل أو جل إلا بالدراهم المؤيدية. ويبرز أيضا إلى الدواوين السلطانية ودواوين الأمراء والأوقاف ألا يكتبوا فى دفاتر حسابتهم متحصلا ولا مصروفا إلا من الدراهم المؤيدية، فتصير الدراهم المؤيدية ينسب إليها ويضاف لها ما عداها من النقود كما جعل الله مولانا السلطان عز نصره يضاف إليه ويتشرف به كل من انتسب أو انتمى إليه..». وقد نشر هذا النص المهم الذى ألفه تقى الدين المقريزى عدة مرات منذ عام 1797م، لكن الطبعة التى صدرت بتحقيق الدكتور محمد عبدالستار عثمان سنة 1990، هى الأهم والأكمل من بين كل طبعات الكتاب، ذلك لأنه رجع فيها إلى نسخة مخطوطة لم يعتمد عليها من سبقوه فى التحقيق وهى نسخة نسخت وتم تصحيحها على يد المؤلف نفسه، تقى الدين المقريزى ويرجع تاريخها إلى شهر رمضان سنة إحدى وأربعين وثمانى مائة. أى قبل وفاته بأربع سنوات، ولا تقتصر أهمية طبعة الدكتور محمد عبدالستار عثمان على اعتماده على نسخة معتمدة من المؤلف بذل جهدا واضحا فى مضاهاة النسخ المخطوطة التى توافرت تحت يده ومراجعة تحقيقه على تحقيقات من سبقوه. فضلا عن أنه قدم للتحقيق بدراسة وافية للنص ولما حول النص، وأضاف للتحقيق ملحقا شارحا للمصطلحات الواردة فى النص، فوضع بين أيدينا عملا علميا فريدا ومتميزا.