على كثرة ما كتب فى وضوع غزة، أزعم أن القصة الحقيقية لم ترو بعد، وأن الجزء الغاطس فى الموضوع أكبر بكثير مما ظهر على السطح. 1 لا أدعى أننى على إحاطة بكامل حقائق القصة، لكن ما توفر لدى من معلومات خلال الأسبوع الماضى أقنعنى بأن الكثير مما تداولته وسائل إعلامنا، بعضه يفتقد إلى الصواب والبعض الآخر يفتقد إلى الدقة والبعض الثالث يفتقد إلى البراءة، وقبل أن أعرض ما عندى فى هذا الصدد، عن خلفية يتعين استدعاؤها، لأنها تسلط الضوء على الحقيقة المغيبة، وذلك أنه من التبسيط الشديد والمخل للأمور القول بأن العدوان الإسرائىلى على غزة جاء نتيجة لإلغاء التهدئة، وإطلاق بعض الصواريخ على القطاع، وهذا الادعاء هو أحد الأكاذيب التى روجتها إسرائىل، ونجحت فى رسمها علينا، حتى أصبحت أحد محاور خطابنا الإعلامى. وللعلم، فإن الذى فضح هذه الأكذوبة وفندها هو الكاتب والباحث الأمريكى اليهودى، هنرى سيجماه، فى مقالة مهمة وكاشفة بعنوان «أكاذيب إسرائيل» نشرتها له مجلة «لندن ريفيو أوف بوكس» (عدد 29 يناير)، وكانت خلاصة مقالته تحت عنوان «أكاذيب إسرائىل» التى نقضت التهدئة وليست حماس، عبّر عن هذا الموقف أيضا البروفيسور جون ميرزهايمر أستاذ هارفارد الذى كتب مقاله بعنوان «حرب أخرى.. خسارة أخرى»، قال فيها: إن سبب الحرب ليست صواريخ حماس، بل متابعة «هدف إسرائيل الكبرى». صحيح أن حرب المشروع الإسرائىلى فى فلسطين عمرها مائة عام، إلا أن النتائج المفاجئة لانتخابات المجلس التشريعى فى عام 2006 كانت بمثابة نقطة تحول فى المسيرة، ذلك أن تصويت الجماهير للمقاومة وحصول حركة حماس على أغلبية المجلس قلب الموازين وصدم الجميع، إذ أفاقت إسرائيل على حقيقة أن مشروعها للتسوية السياسية أصبح فى خطر، تماما كما أن جماعة السلطة فى رام الله أدركوا أن احتكارهم لصدارة المشهد الفلسطينى أصبح بدوره فى خطر، وهو ما أحدث توافقا على ضرورة إلغاء نتيجة الانتخابات، والتخلص من حماس وما تمثله بكل السبل، فتولت إسرائيل اعتقال أغلب ممثليها فى المجلس التشريعى المنتخب، بمن فيهم رئىسه، وكان على أجهزة السلطة فى غزة أن تسقط الحكومة المنتخبة، وبدأت المناكفات بمقاطعة الحكومة، ثم الاشتراك فى حكومة للوحدة الوطنية، التى لم يتوقف أبومازن عن مقاطعتها من جانبه، فى حين تولت الأجهزة الأمنية التابعة له على إثارة الفلتان الأمنى بهدف انشال تجربتها، الأمر الذى اضطرت معه الحكومة إلى الاستيلاء على مقار تلك الأجهزة لإجهاض مخططاتها وإنهاء تمردها، وقد وثق الدور الأمريكى فى عملية الانقلاب على الحكومة وإفشالها الصحفى، ديفيد روز، فى التقرير المثير الذى نشرته له مجلة «فانيتى فير» (عدد أبريل 2008)، وحين فشل الانقلاب الداخلى الذى قادته الأجهزة الأمنية لجأت إسرائىل إلى حصار القطاع، ولم ينجح التجويع فى إثارة الفلسطينيين وانقلابهم على الحكومة، كما كان مرجوا، وإزاء فشل كل هذه المحاولات لجأ الإسرائيليون إلى السلاح لتحقيق الهدف الذى طال انتظاره. ومن ثم كانت العملية العسكرية التى بدأت فى 27 ديسمبر 2008 للقضاء على المقاومة وإزالة آثار انتخابات عام 2006. 2 معلوم أن الوساطة المصرية أسفرت عن تهدئة مدتها ستة أشهر، انتهت فى 17 ديسمبر الماضى، وخلال تلك الفترة أوقفت حركة حماس أى نشاط للمقاومة المسلحة ضد الاحتلال، وفاء بمقتضيات التهدئة فى حين لم تلتزم إسرائىل بشىء, سواء فيما خص فتح المعابر لتوفير احتياجات الناس المعيشية، أو فيما تعلق بوقف الأعمال العسكرية، حيث واصلت عمليات التوغل والتصفية، التى كان آخرها قيامها فى الرابع من نوفمبر بقتل ستة من عناصر حماس بالقطاع. هذا الكلام ليس من عندى، ولكنه ورد فى سياق شهادة للقائد الإسرائىلى السابق فى القطاع، العميد شمويل زكاى، نشرته صحيفة «ها آرتس» فى عدد 22 ديسمبر الماضى, وقد ذكر الرجل فى شهادته أن إسرائيل أساءت استخدام فترة التهدئة باستمرارها فى حصار فلسطينيى القطاع، وكان يمكن أن تستمر التهدئة إذا لم تصر على الحصار، لكنها هى التى تمسكت بسياستها التى بمقتضاها أوقفت المقاومة عملياتها، فى حين استمرت فى محاصرة القطاع وتصفية المقاومين. حين حل موعد انتهاء التهدئة فى 17 ديسمبر، لم يجر أى اتصال مع قادة حماس بخصوص ترتيبات المستقبل، وليس صحيحا أنهم وقتذاك نصحوا وحذروا من العواقب، كما ذكرت بعض التصريحات السياسية، وكان على فصائل المقاومة أن تحدد موقفا من المسألة، فعقد ممثلوها اجتماعات فى غزةودمشق أعلنوا بعدها أن الفترة المتفق عليها انتهت، وإزاء استمرار إسرائىل فى الحصار وتصفية الناشطين، فإنهم أصبحوا فى حل من التزاماتهم إزاءها. للدقة، فإن القاهرة أجرت قبل أسبوع من الحرب اتصالين هاتفيين مع الدكتور محمود الزهار، القيادى فى حماس، بخصوص تجديد الهدئة، فكان رده أن حماس وفصائل المقاومة الأخرى فى القطاع، لا يستطيعون القبول بالتجديد فى ظل استمرار الحصار، ورغم تواتر الأنباء عن اتجاه إسرائىل إلى الهجوم على القطاع، فإن الدكتور الزهار تلقى اتصالا هاتفيا من القاهرة يوم الخميس 25/12 أبلغ فيه بأن إسرائيل لا تنوى القيام بعملياتها العسكرية. إلا أن إسرائيل شنت هجومها المفاجئ والشرس فى 27 يناير أى بعد يومين اثنين فقط من الرسالة التى أبلغت إليهم. كان التقدير الإسرائيلى المبدئى أن العملية سوف تستغرق ثلاثة أيام، وأن القصف المكثف، والمجنون سوف يدفع المقاومة إلى التسليم ولوحظت آنذاك ثلاثة أمور، الأول: أن الاجتماع الطارئ لوزراء الخارجية العرب تحدد بعد خمسة أيام من بدء الحرب. الثانى: أن بعض رجال الأمن الوقائى الهاربين اتجهوا إلى رفح المصرية متوقعين أن قيادات حماس سوف تهرب من القطاع، وأن الساحة ستكون مهيأة لاستقبالهم. الثالث: أنه لم يجر أى اتصال مع قيادات المقاومة فى الخارج، باستثناء اتصال هاتفى وحيد أجراه السيد عمر موسى، أمين الجامعة العربية، بنائب رئيس حركة الجهاد الإسلامى زياد نخالة، المقيم فى دمشق. فى اليوم السادس «الخميس الأول من يناير»، تلقت قيادة المكتب السياسى فى حماس اتصالا هاتفيا من أحد مسئولى المخابرات العامة فى القاهرة، دعا خلاله وفدا من الحركة لبحث الموقف فى العاصمة المصرية، علما بأن خطوط الاتصال ظلت مقطوعة بين الطرفين منذ رفضت الحركة حضور مؤتمر المصالحة فى نوفمبر الماضى، وحتى لا يفهم أن حماس متلهفة على وقف إطلاق النار، فإنها أخرت إرسال الوفد إلى الأحد 4 بناير. فى الوقت ذاته، بعد أسبوع من بدء الحرب، أجرى الفرنسيون والدنماركيون اتصالات مع قيادة المكتب السياسى فى دمشق لتحسس احتمالات وقف إطلاق النار. هذه الاتصالات كانت تعنى أمرين، أولهما: أن صمود المقاومة فى غزة فاجأ الجميع، ولم يكن فى الحسبان. وثانيهما: أن إسرائيل تريد أن تنهى الحرب بفرض شروط التسليم على حماس. الملاحظ فى هذا الصدد، أن الغارات الإسرائيلية كانت تشتد وتزداد عنفا أثناء وجود ممثلى حماس فى القاهرة، ولم تكن تلك الغارات سوى رسالة ضغط على المفاوضين لدفعهم للقبول بالتسليم، وهناك معلومات تشير إلى أن رئيس الوزراء الإسرائيلى إيهود أولمرت أجل خطاب إعلان قرار وقف إطلاق النار مرتين، انتظارا منه لما يمكن أن تسفر عنه اجتماعات القاهرة التى رفضت فيها حماس ما نقل إليها من إملاءات إسرائيلية. 3 هناك أسطورتان راجتا أثناء الحرب وبعدها هما: أن المعركة تستهدف التصدى للنفوذ الإيرانى فى المنطقة، وتلك شائعة إسرائيلية أرادات بها إسرائيل أن تحقق ثلاثة أهداف، الأول: تشويه صورة المقاومة الفلسطينية وتصويرها بحسبانها أداة فى يد إيران. والثانى: استنفار العالم العربى الذى تتوجه بعض أنظمته من إيران، ومن ثم الإيحاء بأن العدو الحقيقى للعرب هو إيران وليست إسرائيل، وهو ما قالته صراحة وزيرة الخارجية تسيبى ليفنى. الثالث: تصفية الحسابات الإسرائيلية إزاء إيران التى تعتبرها الدولة العبرية أكبر تحد لها، خصوصا فى ظل استمرارها فى مشروعها النووى. المفارقة أن التلويح بأكذوبة التدخل الأجنبى الإيرانى تتم فى الوقت الذى تمسك فيه الولاياتالمتحدةالأمريكية بكامل الملف الفلسطينى وهو ما اعترف به رسميا فى مؤتمر أنابوليس، ثم إن هذه المقولة لا تفرق بين الحليف والعميل، والذين يرددونها لا يعرفون أو يتجاهلون أن حماس رفضت الاشتراك فى مؤتمر الفصائل الذى دعت إليه طهران أثناء انعقاد المؤتمر أنابوليس، مما عكر صفو العلاقات بين الطرفين لبعض الوقت، كما أنها رفضت الملاحظات الإيرانية على اتفاق التهدئة الذى تم فى شهر يونيو الماضى، وهى الملاحظات التى حملها مبعوث إيرانى وصل إلى دمشق على طائرة خاصة آنذاك، وقيل له صراحة إن حماس حريصة على استمرار تحالفها مع إيران، لكنها أشد حرصا على استقلال قرارها، وهناك حالات أخرى مماثلة لا يتسع المجال لذكرها الآن، لكن الغريب أن الذين يتخوفون من مساندة إيران للمقاومة لا يبدون أى تحفظ على تحالف الأمريكيين والإسرائيليين مع الطرف المقابل. الأكذوبة الثانية: تتمثل فى الاعتقاد السائد فى بعض الأوساط السياسية العربية بأن التحالف الحاكم فى إسرائيل الآن «ليفنى باراك أو كاديما والعمل» هو أفضل للعرب من الليكود الذى يقوده بنيامين نتيناهو، ولهذا فإن هناك حرصا شديدا وتحركات مشهودة من جانب تلك الأوساط السياسية العربية لإنجاح التحالف القائم، وترجيح كفته فى مواجهة الثانى وهو ما تمثل فى الضغوط العربية المتسارعة سواء لإعلان التهدئة أو البيان الذى أصدره فى أبوظبى ممثلو الدول «الاعتدال» العربى وتبنوا فيه النقاط التى تعذر تمريرها فى مؤتمر قمة الكويت، خصوصا ما تعلق منها بالتمسك بالمبادرة العربية، وبصرف النظر عن جدوى تأثير هذه المحاولات على الناخب الإسرائيلى، فإن الذين يتعلقون بوهم المراهنة على تحالف يسار الوسط الحاكم هناك، ينسون أن كل الحروب التى شنتها إسرائيل ضد العرب قادها ذلك التحالف الخبيث، باستثناء ما جرى فى عام 1982 حينما قاد شارون الليكودى آنذاك حملة اجتياح بيروت. ربما لاحظت أننى لم أتحدث عن دور «القمم» التى عقدت أثناء الحرب وبمناسبتها فى قطر والكويت وشرم الشيخ والرياض، وحجتى فى ذلك أنها لم تغير شيئا فى السياسات، رغم أنها أسهمت فى ترطيب الأجواء وأذابت الجليد بين الرؤساء المختلفين، بمعنى أنها كرست الانقسام العربى، وبالتالى فإنها عمقت من الانقسام الفلسطينى وسمحت باستمراره، ولم يحن الوقت بعد للخوض فى تفاصيل ما جرى فى اجتماعات تلك القمم وكواليسها. ما يهمنا فى المسلسل الذى نحن بصدده أن الأهداف التى لم تحققها إسرائيل بالحرب، تحاول الآن بلوغها عن طريق الضغط والإملاءات السياسية، حيث يظل إخضاع حماس وإلغاء نتائج انتخابات عام 2006 هدفا لا تريد إسرائيل ومن لف لفها التراجع عنه، بالتالى فالمعروض الآن تحديدا هو العودة إلى الوضع الذى سار قبل 27 ديسمبر، الذى يستدعى التهدئة التى تكبل المقاومة وتطلق يد إسرائيل مع الإبقاء على صورة محسنة للحصار، وتعليق كل شىء بعد ذلك، خصوصا الإعمار ورفع الأنقاض وإخراج ما تحتها من جثث، حتى توافق حماس على الخضوع وتقبل بكل ما رفضته فى السابق رغم كل ما سال من دماء وأبيد من بشر ودمر من عمران. ولأن هذا الكلام كتب قبل أن تتلقى القاهرة رد حماس على ما هو معروض عليها، وأيضا قبل أن تجرى الانتخابات الإسرائيلية، فإن الحديث عن سيناريو المستقبل يصبح مبكرا، ويغدو الترقب والانتظار فضيلة مستحبة.