كانت من الأشياء اللافتة لى منذ بدأت الاهتمام بالسياسة وأنا طالب فى الثمانينيات وجود حرف «الدال» أمام أسماء معظم الوزراء فضلا عن رئيسهم بالتأكيد. ولأننى كنت طالبا جامعيا فى ذلك الوقت فقد كنت أنظر بإكبار لأساتذتنا فى الجامعة وأرى أنهم «الأعلم» كل فى مجال تخصصه. ثم مرت السنوات عملت خلالها فى شركات عالمية داخل مصر وخارجها وبدأت أنظر إلى الإصرار على اختيار الوزراء ومعظم القيادات التنفيذية من داخل الأكاديميا بمزيد من الريبة، حتى وصَلت بعد ثورة يناير إلى قناعة تامة بأن الإصرار على إستوزار أساتذة الجامعات هو انتحار إدارى وسياسى وتدمير لبنية الدولة بكل ما تحمله الكلمة من معان، وإليكم أسبابى. •••
لنبدأ بكيف بدأ الاعتماد على توزير الأكاديميا؟ أظن أنه بعد نجاح ثورة يوليو وتمكن الرئيس جمال عبدالناصر من السيطرة على الحكم، بدأ فى تنفيذ مشروعه الطموح للنهضة بمصر. وكان عبدالناصر يدرك أنه شخصيا لا يمتلك المعرفة الكافية للحكم على كثير من الأمور الصناعية والزراعية.. إلخ، التى تحتاج إلى «متخصص» لتقييمها أو للحكم على مدى جدواها. فقد كان أن وجد عبدالناصر فى مخزون المتعلمين فى مصر ضالته، فأخذ يستعين بأساتذة الجامعات فى دراسة المشروعات وتقديم المشورة المتخصصة له، يأخذ بناء عليها قراره السياسى. فكان أن توسع فى إرسال البعثات للخارج للحصول على الدرجات العلمية فى مختلف التخصصات والعودة لتدعيم طاقم التدريس فى الجامعات الوطنية. وهذا كله عمل محمود جدا لا يراودنى أدنى شك فى ذلك. لكن امتداد الاعتماد على الأكاديميا فى المناصب الوزارية والتنفيذية كان تجليا لتوجه آخر فى سياسة أو فكر عبدالناصر، ألا وهو احتكار الرئاسة للقرارات السياسية وتحويل الوزارة إلى طاقم سكرتارية ينفذ توجيهات الرئيس.
ربما يكون من حسن حظ مصر أن عبدالناصر كان يمتلك «مشروع» لمصر سواء اختلفنا أو اتفقنا على هذا المشروع، فلم يكن استوزار الأكاديميا عشوائيا أو بدون محاسبة على النتائج فى أغلب الأحيان. لكن مع استمرار نفس طريقة الحكم مع غياب كامل لأى مشروع أو رؤية مستقبلية، أصبح استوزار الأكاديميا «عادة» ثم تحولت إلى مهرب سياسى ثم إلى فرض عين لا يمكن التخلف عنه. فالرئيس يختار «أستاذ» اقتصاد لوزارة الاقتصاد بما يعنى أنه أمام الناس «عمل إللى عليه» وعندما يفشل الوزير يتم تغييره بدون محاسبة بالتأكيد لأنه لم يكن ينفذ ساسته هو بل ينفذ «تعليمات» الرئاسة. الغريب أن هذا أصبح معروفا للجميع منذ سنوات طويلة وقد سمعتها بأذنى من أحد الوزراء فى لقاء فى التليفزيون الحكومى منذ أكثر من عشر سنوات.
•••
وطوال العقود الممتدة من الخمسينات حتى اليوم، أصبح حرف «الدال» ذو بريق خاص، فهو يفتح أبوابا كثيرة ويعطى حائزه «الحق» فى الحديث أحيانا فى تخصصه وأحيانا فى أى شىء بثقة دعمتها قابلية المتلقى لتصديق أى شىء يقوله هذا الشخص. لا أريد أن أغفل دور الميديا فى تدعيم هذا التوجه على مدار عقود، فليس أمام الصحفى أو معد البرنامج أفضل من الاستعانة بحرف «الدال» لإضفاء المشروعية على شخص الضيف ومن ثَم كل ما يقول. أحب التأكيد على أننا ما زلنا نتمتع فى مصر بقدر من العلماء المتخصصين الذين يجب الاستماع لرأيهم فى تخصصاتهم بل يجب الاستعانة بهم فى دراسة وتقييم الكثير من المشروعات والسياسات، لكن هذا لا يعنى بالضرورة أنهم الأقدر على قيادة تنفيذ هذه المشروعات أو تطبيق تلك السياسات. فالأكاديميا فى العالم المتقدم من آسيا إلى أوروبا وأمريكا مكان للدراسة والبحث والإجابة عن الأسئلة وإيجاد الحلول، وليس مكانا لتفريخ قيادات تنفيذية. فمن منا قد سمع عن وزير فى إنجلترا جاء من الجامعة فجأة إلى الوزارة أو من منا سمع عن مدير بنك عالمى أو شركة عالمية من أساتذة الجامعات؟ ربما هناك البعض، لكنهم الاستثناء وليس القاعدة.
هذا من جانب، ومن جانب آخر، فقد انهار مستوى التعليم فى مصر بما فيه الجامعى مما أخرج كل جامعات مصر من التصنيف العالمى ولم يسلم الحصول على حرف «الدال» من هذا الانهيار، فأصبح الحاصل على الدرجة ليس بالضرورة ممن يمكن الاعتماد على علمهم فى أى شىء. هذا ليس كلامى ولكنه رأى أساتذتنا الذين حصلوا على الدكتوراه فى الستينيات أو بعدها بقليل بجهد حقيقى وإضافات حقيقية للعلم. أضف إلى ذلك التغيرات الجذرية التى يشهدها العالم فى أساليب الإدارة وطرق تنفيذ المشروعات والتى ظلت الأكاديميا فى مصر أبعد ما تكون عنها. فلم يعد يكفى أن يكون لدى الشخص حساب على تويتر أو فيس بوك حتى يستطيع الإدعاد أنه مُلم بأدوات وآليات العصر المتشابكة.
•••
وبعد قيام ثورة يناير، تطلع الكثيرون وأنا منهم إلى «تغيير» فى نهج وعقلية اختيار التنفيذيين فى مصر من وزراء ومحافظين. لكن شىء من هذا لم يحدث خلال الفترة الانتقالية وواسينا أنفسنا بأن المجلس العسكرى يحمل نفس عقلية النظام السابق، وأنه لم يدرك أن هناك ثورة وأن الثورة تعنى التغيير فى الفكر والمنهج وليس الوجوه. لكن الشىء الصادم كان امتداد نفس الأسلوب وسيطرة نفس العقلية مع وجود رئيس منتخب ديمقراطيا لأول مرة فى تاريخ مصر. فقد اعتمد الرئيس مرسى على نفس وعاء الأكاديميا الذى نزح منه سلفه المخلوع دون أن يلحظ أو ربما مضطرا، فهو لم يخبرنا بأسباب اختياراته حتى الآن حتى نعرف هل كان مضطرا أم مقتنعا.
لا يبدو لى أننا خارجون من فخ الأكاديميا فى وقت قريب لأن كل ما حولى ينبئنى بأن مصر لا تزال تُحكم بنفس العقلية وأن وجود رئيس مدنى منتخب من الأكاديميا بالمصادفة لم يُغير طريقة حكم مصر.