فى كفر الزيتون بالغربية.. قد يتحول دوار العمدة إلى مؤسسة قائمة بذاتها، قبلة القرويين البسطاء، واسطة.. مصلحة.. شكوى.. تدور العجلة بين الفرح والحزن. جلس أعضاء المجلس العرفى الموقر وكأن الطير على رؤوسهم. دوار العمدة يعج بالزائرين من أهل القرية. هنا سيتم التحكيم فى قضية شاب تحرش بمراهق من أهل البلد، قضية حديثة نوعا ما على أهل كفر الزيتون بمركز زفتى غربية. ورغم أن دوار العمدة قد فصل كثيرا فى قضايا الشرف التى كادت أن تُدخل القرية فى دائرة مفرغة من الثأر، إلا أن هذه النوعية بالذات قد تبدو جديدة على المجلس. الاستعدادات تسير على قدم وساق. أكواب الشاى تدور على صينية كبيرة، بينما وضعت على المائدة المقابلة شيكات على بياض كان أفراد المحتكمين قد وقعوها كخطوة أساسية للتعبير عن رضائهم بحكم المجلس مهما كان، وهى الوسيلة التى يسيطر بها أعضاء المجلس على أطراف الصراع ويضمنون نفاذ حكمهم. أوصدت الأبواب بإحكام حتى لا تتسرب الفضيحة للخارج، على رأس إحدى الحجرات المغلقة جلس العمدة وكبارات البلد مستعدين للتحكيم. عادة ما يكون عدد الأعضاء رقما فرديا حتى لا تتساوى الأصوات ويصل المحكمون إلى رأى الأغلبية. خضرة الحقول الهادئة لا تخفى نيران الغضب المتأجج فى صدور الضحية ولهجة الاحتقان تسيطر على الموقف رغم محاولات العمدة المستميتة. أصوات عالية وشتائم متبادلة، نقطة نظام بعد سماع كل الأطراف.. خرج العمدة وأعضاء المجلس للتداول فى الحجرة المجاورة. بعد ساعات دخلوا من جديد للنطق بالحكم النهائى.. تغريم أسرة المتهم خمسة آلاف جنيه.. التحكيم حسب كلام عمدة القرية منذ 12 سنة- رمضان عبدالمطلب- يسعى إلى مراعاة مصلحة الطرفين: «إذا كان للضحية حق لابد وأن تأخذه، كما لا يجب أن نبالغ فى التعويض حتى يستطيع أهل المتهم دفعه، إضافة إلى أن التعويض الكبير سيفضح الأمر، لأن أهالى القرية سيشعرون بأن القرش جرى فى يد عائلة الضحية وقد يؤثر ذلك على مستقبل الاثنين». المشهد فى الواقع هو أحد المشاهد المتكررة فى دوار العمدة كل يوم، حيث يتحول مقر العمودية إلى محكمة أسرة ومكتب تموين وقسم شرطة ووحدة حكم محلى ودار للندوة وقاعة مناسبات. فحياة الستة آلاف مواطن الذين يسكنون القرية تتمحور حول هذا الدوار فى ظل البعد الجغرافى عن العاصمة وبطء الإجراءات القضائية خاصة فى مسائل الإرث وتقسيم الأراضى، ففى مثل هذه الحالات يكون العرف صاحب الكلمة الحاسمة. وغالبا ما ترتبط أهمية الدوار بقوة شخصية العمدة. يقول سيد، أحد فلاحى كفر الزيتون:« إداريا العمد لم يعد لهم نفس السطوة». ولأن رمضان عبدالمطلب (52 سنة ) كان ضابطا سابقا وورث العمودية عن جده لوالدته فاستقلاله المادى وتركيبته الأسرية ساعداه كثيرا فى بسط هيمنته على القرية. وعن دوره يوضح عمدة كفر الزيتون: «يجب أن يقوم العمدة بثلاثة أدوار أساسية: يضمن الأمن الغذائى ويراعى الأمن العام ويوفر الأمن الاجتماعى..». مع تسلل أشعة الشمس الأولى للدوار يتحول المكان إلى مكتب تموين، إذ يبادر حضرة العمدة بالتأكد من أن أجولة الدقيق الثلاثة المقررة للقرية قد تم خبزها بالفعل لتوفر ما لا يقل عن 1200 رغيف يوميا. ثم يجلب العمدة عينة عشوائية إلى الدوار ويقوم بوزنها والتأكد من أنها مطابقة للشروط. وهو يقول: «الرغيف يجب أن يصل قطره إلى 20 سم ولا يقل وزنه عن 125 جراما». ثم يتابع بعد ذلك التوزيع حرصا على عدم التلاعب بأقوات الناس. الندوة فى الشرفة والتحكيم بالمضيفة «يا حضرة العمدة ابنك حميدة حدفنى بإستفندية..»، ارتفع المذياع فى القرية بينما تغير ديكور الدوار ليتحول فى لحظة إلى وحدة محلية، وأحيانا أخرى مكتب إسكان وإدارة مرور... خط ساخن متصل مع المركز.. جمع من البشر يدخلون ويخرجون من الدوار ولكل مقصد مختلف: محمود ابن الحاج محمد يريد استخراج رخصة قيادة، وإسماعيل يبحث إعادة بناء منزله واستبدال الطوب النى.. الحركة مستمرة فى الدوار ما بين قضاء المصالح والضيافة. «العمدة يكون عادة موجود فى القرى التى لا يوجد بها نقطة شرطة. وهناك شروط معينة يجب أن تتوافر فى العمدة لضمان نزاهته، خاصة أنه منصب تطوعى. فالقانون يشترط أن يكون دخل العمدة لا يقل عن 300 جنيه وأن يمتلك على الأقل خمسة أفدنة. الحكومة لا تمنح العمدة سوى بدل ضيافة بسيط لا يتعدى 150 جنيها حتى تمكنه من استقبال ممثليها، وعادة ما ينفق العمدة ضعف هذا المبلغ للقيام بالمهمة لأن الزيارة لا تنقطع عنه طيلة الوقت». المكانة الاجتماعية والشهرة تشكل بالفعل عائدا مهما بالنسبة لرمضان عبدالمطلب رغم الضغوط التى تمارسها عليه أسرته، إذ يرى أحد أبنائه الخمسة أن «الموضوع مش جايب همه..لماذا نضحى بخصوصية الدار ونحولها لدوار ونقلب دماغنا بمشاكل الناس ليلا ونهارا؟ وفى النهاية يكون إرضاء الآخرين شبه محال، فمن يأخذ تعويضا يريد دائما المزيد ومن يدفع يكون متأزما»، هذا إضافة إلى عبء الضيافة الذى يقع على عاتق الحاجة زوجته وابنته الوحيدة. تتغير ملامح وديكورات الدوار من غرفة لأخرى فلكل منها منفعة، فالشرفة للندوة والطلبات والتشاور فى شئون الزراعة، والمضيفة للتحكيم والمشكلات الحساسة والأسرار. مشكلة الفلاح الذى تزوج من فتاة جامعية وأراد أن يرغمها على النزول معه للحقل حتى وصل الموضوع إلى طريق مسدود، كانت إحدى الحكايات التى شهدتها المضيفة..تلتها قصة الابن الذى يرفض الأكل مع زوجته بدعوى «أن طبيخ أمه أفضل». وقد يتحول الدوار أيضا إلى سفارة تهتم بشئون رعاياها خارج كفر الزيتون أو لمحكمة «إقليمية» تهتم بفض النزاعات مع القرى المجاورة مثل تلك المعركة الدامية التى نشبت بين شقيقين حول الإرث. يروى العمدة: «اتهم أحدهما زوجة الآخر بأن سيرها بطال واستأجر بلطجية، مما أدى إلى سقوط أحد الأبناء صريعا». ويضيف العمدة رمضان: «حالات اللوطية هى إحدى المشكلات الحساسة والجديدة على قريتنا، فلم نكن معتادين على مناقشة اللوطية والتحرش الجنسى قبل سنوات». قد يهمس البعض: «هو العمدة حاطط مناخيره فى كل حاجة! « لكن هذا الأخير لا يأبه بمثل هذه الآراء، فهو مقتنع أن يتدخل، ويعلق: «إذا أراد أحدهم التحرى عن دخل فلان من أجل تحديد النفقة مثلا يجب أن أفيده». خيم الليل على القرية، موعد تجمع الخفراء السبعة فى الدوار، ولكن قبل أن يخرج كل منهم إلى درجه أى مهمته، فقد توجهوا أولا إلى «السلاحليك» (مقر السلاح الملحق بدوار العمدة) ليتسلموا بندقياتهم وينطلق كل منهم إلى القطاع المكلف بالحفاظ على أمنه. تخف الحركة فى الدوار الذى قد يتحول ليلا إلى زنزانة فى حال حدوث سرقة أو جريمة.