سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
حقوق الأمة فى مواجهة المستبد العادل لطفى السيد: فقدنا بالاستبداد ينابيع السرور التى من شأنها أن تنفجر فى النفس الإنسانية وفقدنا به حرية العقل التى أتت للعالم بهذه المعجزات
فى نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين برز فى أدبيات السياسة العربية مصطلح (المستبد العادل)، وهو ذلك الشخص (الحاكم) القادر على تحقيق العدل والنهوض بالشرق. وكان هناك من أيد تلك الفكرة وباركها وفى المقابل هناك من رفضها وانتقدها. يقول د. محمد عفيفى أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر بكلية الآداب جامعة القاهرة فى كتابه (المستبد العادل) الصادر عن المجلس الأعلى للثقافة عام 2008م، والذى حصل به على جائزة الدولة فى التفوق، أنه «مع ذيوع فكرة المستبد العادل فى الفكر المصرى والعربى فى أوائل القرن العشرين، لاسيما مع حالة التخبط والإحباط التى أصابت الشرق، تصدى أبو الليبرالية المصرية لطفى السيد لأنصار المستبد العادل، هؤلاء على حد تعبيره (الذين يظنون أن حكومة المستبد العادل هى خير الحكومات)».
كتب أستاذ الجيل، أحمد لطفى السيد (1872- 1963م)، مقالا مهما فى صحيفة (الجريدة) عنوانه (حقوق الأمة)، 10 يناير 1914م، فند فيه نظرية المستبد العادل، والتى دعا لها البعض آنذاك، كما انتقد ادعاء الحكومة المستبدة بأنها وحدها التى تعرف منافع الأمة، وهو من ثم يفضل نظام الحكومات النيابية.
يقول أحمد لطفى السيد فى مقاله: «إن نظرية الاستبداد بالأمر على مبادئ العدل نظرية خيالية، لأنه لا يعرف التاريخ حكومة من هذا الصنف.. فما مذهب (الاستبداد العادل) فى عقول أنصاره إلا أمنية يتمنونها لمثل أعلى من حكومة موحدة الكلمة قوية البطش بعيدة عن الشهوات الحزبية والفردية سريعة الحركة لا بطيئة كالحكومات النيابية، عادلة لا تنحرف عن جادة العقل أبدا».
ويضيف «تصوروا هذا المثل الأعلى فلم يجدوا له صيغة إلا ما أسموه (حكومة المستبد العادل). وها نحن أولاء قد جربنا الاستبداد ورأينا تجارب الأمم فى الاستبداد وفى الحكومة النيابية، فخرجنا من هذه الأمثلة نمقت الاستبداد ونحب الحرية ونود بكل شىء لو نخرج من حكومة الاستبداد إلى الحكومة النيابية أو حكومة الأمة. هذا هو الواقع من أمرنا ومن أمر كل الأمم. وبعيد أن نرجح ذلك المذهب التصورى الصرف على هذا المذهب، مذهب الحكومات النيابية التى أثبتت التجربة أنه أفضل طرائق الحكم».
«لو أننا قارنا حال الأمم المتمدنة تحت حكومات الاستبداد وتحت الحكومات النيابية، لوجدنا أنها تحت الأولى كانت فى نوع من الجمود أكبر مظاهر الرقى فيها التقدم الصناعى لإرضاء شهوات الملوك والحكام من الزينة والزخارف والعمارات، أما تحت الحكومات النيابية فكان العقل البشرى قد فك من عقله فنشط يأتى بالمعجزات الواحدة تلو الأخرى».
«والواقع أننا لا نعرف سببا جديا لهذه الروح الجديدة التى تجلت على مدنيتنا الحديثة فجعلت الإنسان ملكا حقيقيا يسخر كل قوى الطبيعة لمنفعته حتى حقق خيال الكتاب السابقين. فإن كتاب العصور الأولى كانوا يظنون طيران المرء فى الهواء حلما جميلا وخيالا بعيدا عن الحقيقة، ولكنه اليوم وما سبقه من المعجزات الحديثة حقائق راهنة».
«وما السبب فى ذلك إلا الخلاص من الاستبداد والاستعاضة عنه بحكومات الحرية. فقدنا بالاستبداد ينابيع السرور التى من شأنها أن تنفجر فى النفس الإنسانية، وفقدنا به حرية العقل التى أتت للعالم بهذه المعجزات، ثم نجىء بعد ذلك فى القرن العشرين ونسمح لنفوسنا أن يرد على خاطرنا الرجوع إلى الاستبداد على أى وجه كان!!».
«نسوق هذا القول لبيان أن الحكومة الاستبدادية لا تستطيع بحال من الأحوال أن تشعر بمشاعر الأمة لتقدر منافعها، ولذلك فإنها مهما كانت بعيدة عن الهوى لا يكون أمرها فى التصرف إلا أنها تخلص من خطأ لتقع فى خطأ مثله».
ويؤكد لطفى السيد فى ختام مقاله أنه «لا يوجد للأمة فى الدنيا مصلحة تعادل مصلحتها من الحرية والمحافظة على حقوق الفرد وحقوق المجموع». «لذلك نرفع للحكومات النصيحة ونكرر الالتماس بأن الأمة هى وحدها التى تعرف منافعها دون غيرها. وأنها مع ذلك لا ترى لنفسها منفعة ألزم لحياتها من الاحتفاظ بالحرية وسلامة حقوق الإنسان».
جدير بالذكر أن (الجريدة) كانت صحيفة يومية صدر العدد الأول منها بمدينة القاهرة يوم 9 مارس 1907م. شعارها يقول: «من حقق النظر وراض عن نفسه على السكون إلى الحقائق وإن آلمتها فى أول صدمة كان اغتباطه بذم الناس إياه أشد وأكثر من اغتباطه بمدحهم إياه».. وهو قول مأثور لابن حزم. ومن تحت عباءة (الجريدة) تأسس حزب الأمة فى نفس عام ظهورها، والذى أسسه جماعة ليبرالية تؤمن بحرية الفكر وتعمل على ترقية المجتمع المصرى فى جميع جوانبه المجتمعية: سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وثقافيا. وكان همهم إعادة بناء الإنسان المصرى رجلا كان أم امرأة ومناقشة واقعه وظروفه المجتمعية بكل أبعادها السياسية والاقتصادية والاجتماعية فى محاولة لتلافى سلبيات ذلك الواقع وبالتالى الارتقاء بالمصريين وبالمجتمع المصرى ككل إذ كان الهدف الأسمى عندهم هو نشر مبادئ التنوير والإصلاح حتى تتحقق النهضة الحقيقية وأسباب التقدم والرقى بين المصريين.
واليوم وعقب الإعلان الدستورى الذى أصدره رئيس الجمهورية، د. محمد مرسى، 21 نوفمبر 2012م، وما أعقبه من مظاهرات وصراعات عدة شملت مناطق كثيرة من أنحاء الجمهورية، حيث أغضب إعلانه الكثير من القوى الوطنية فى مقابل مؤيدين له. وتراجع الرئيس عن إعلانه الدستورى وإصداره إعلانا دستوريا جديدا، 8 ديسمبر، وكان قد دعا الناخبين المصريين للاستفتاء على الدستور، أول ديسمبر، رغم رفض كثيرين من القوى المدنية والسياسية.
فى وسط تلك الظروف المجتمعية والأحداث السياسية المتلاحقة فإنه يعاودنا مصطلح (المستبد العادل) ما بين مؤيد له ومعارض. لتؤكد تلك الظروف والأحداث أن نظرية (المستبد العادل) لم تغب عن واقع المصريين مثلما لم تغب عن حاضرهم، وربما لن تغيب عن مستقبلهم القريب. ولكن يبقى النضال الوطنى من أجل حرية الوطن ومواطنيه، من أجل مصر.. دولة القانون والمواطنة، دولة حديثة تواكب العصر ولا تتخلف عنه.