أحمد سعد ومحمد نبيل حلمى ووليد ناجى «جاء إلى المنصب بطريقة خاطئة وخرج منه بطريقة صحيحة».. هكذا لخص أحد أعضاء النيابة العامة مشهد إنهاء النائب العام المستشار طلعت إبراهيم عبد الله، للأزمة المثارة منذ توليه منصبه وحتى تقدمه باستقالته، إلى مجلس القضاء الأعلى في ساعة متأخرة من مساء أمس.
وعلى الرغم من كون الاستقالة واقعة غير مسبوقة في تاريخ القضاء المصري كله، إلا أن الأحداث والمفاوضات والمشادات التي جرت خلال 14 ساعة عصيبة داخل أروقة دار القضاء العالي، تبدو في ذاتها كاشفة لحقيقة ما جرى.
منذ اللحظة الأولى لاحتشاد أعضاء النيابة العامة من مختلف محافظات مصر أمام وداخل نادي قضاة مصر الذي يبعد عشرات الأمتار عن دار القضاء العالي في الثامنة صباحاً، ومع حضور سيارات وضباط وقوات الأمن المركزي في المشهد، بدا واضحاً أن الأمر ربما يصل إلي حد الاشتباكات أو المشادات.
وأمام مكتب النائب العام، بدأت قوات الأمن في إخلاء محيط المكتب من المتواجدين وتم منع وسائل الإعلام من الدخول إلى الطرقات المؤدية إليه، وشكل أفراد الأمن الذين يرتدون زياً مدنياً حائطا بشرياً أمام كل من يتوجه إلى مكتب النائب العام، فيما كان ردهم الوحيد على الجميع: «معلش ياباشا عندنا أوامر بكده».
من جانبه أعلن النائب العام أنه «لا يهتم بتهديدات أعضاء النيابة بالاعتصام أمام مكتبه»، وحضر متحديا أى دعوات ضده واستمر فى مباشرة عمله، فيما تزايد توافد أعضاء النيابة العامة المحتجين على استمرار النائب العام فى منصبه والمطالبين بتقديم استقالته على دار القضاء العالى، لعقد لقاء مع المجلس الأعلى للقضاء لعرض مطالبهم، والتلويح بالبدء في اعتصام مفتوح، أمام مكتب النائب العام، فى حال رفض تلك الطلبات.
أمام قاعة المستشار عبد العزيز فهمي، أكبر قاعات دار القضاء الاعلى، وقف اعضاء النيابة في انتظار عقد الاجتماع مع مجلس القضاء، ودار حديث هامس ومعبر بين عضوي نيابة من المعترضين على بقاء النائب العام في منصبه، ليقول الأول: «يا أحمد بيه لازم النهاردة ناخد قرار حاسم، ولازم نكون متفقين على طلب معين وهو تقديم النائب العام استقالته»، فجاء رد زميله محذراً: «أهم حاجة أن كل واحد ياخد باله من كلامه لأن الكلمة هتتحسب علينا».
وبصحبة حراسة مكتب كل منهما، ظهر المستشار محمد ممتاز متولى، رئيس المجلس الأعلى، والمستشار عادل السعيد، النائب العام المساعد، والمتحدث الرسمى باسم النيابة العامة، ليلتف حولهم أعضاء النيابة المتواجدين فى بهو محكمة النقض وليدخلوا إلى القاعة الكبرى فى اجتماع مغلق.
وأثناء دخول أعضاء النيابة إلى القاعة الكبرى، تولت قوات الأمنية المكلفة بتأمين دار القضاء العالي التحقق من شخصية القضاة المتوجهين إلى القاعة، وطالبوهم بإبراز تحقيق الشخصية الخاص بكل منهم، وعقب انتهاء أعضاء النيابة المتواجدين من الدخول إلى القاعة أغلقت القوات الأمنية الباب أمام وسائل الإعلام، حيث رفضت السماح لهم بالدخول.
خلال الاجتماع الذي استمر لأكثر من 45 دقيقة، وبمعدل كل 5 دقائق تعالت أصوات تصفيق وتهليل من داخل القاعة، فيما دارت المناقشات بين المتواجدين خارج القاعة المغلقة حول الاستفتاء على الدستور الجديد وموقف المحاكم من تعليق العمل، ومطلب أعضاء النيابة بإقالة النائب العام، ما بين مؤيد ومعارض وشد وجذب بين الطرفين.
عقب انتهاء الاجتماع خرج أعضاء النيابة، وأكدت مصادر متطابقة أنه تم اختيار 5 من ممثلي النيابة، وعرضوا على مجلس الأعلى للقضاء المطلب الوحيد لهم، وهو تقديم المستشار طلعت عبد الله استقالته من منصب النائب العام، وترشيح 3 من القضاة ليختار رئيس الجمهورية من بينهم نائباً عاما جديداً.
وأكدت المصادر أن المستشار ممتاز متولى أبلغ الحاضرين بأنه ليس من سلطاته ترشيح القضاة لكنه «سيعرض الأمر على النائب العام ورئاسة الجمهورية لاتخاذ اللازم»، الأمر الذي رد عليه أحد أعضاء النيابة متهكماً خارج القاعة: «إذا كان رئيس الجمهورية هو سبب الأزمة نيجى دلوقتى نعرض عليه الأمر تانى».
واكتشف المعتصمون أنه لابد لهم من مواجهة النائب العام نفسه، وتجمع أعضاء النيابة ليخرجوا باتفاق على إيفاد 5 من بينهم للصعود إلى مكتب النائب العام بالطابق الثاني، للتشاور ومعرفة مدى قبوله لطلبهم بتقديم استقالته أو النزول إلى أعضاء النيابة والتشاور معهم.
تأخر ممثلو أعضاء النيابة فى مكتب النائب العام، ومع اقتراب الساعة الثانية والنصف ظهراً، صعد قرابة العشرين عضواً آخرين من النيابة لاستطلاع الموقف، إلا أن الحائط البشرى المكون من أفراد الأمن المركزى نفذ الأوامر الموجهة إليه ولم يسمح بمرور أعضاء النيابة، الأمر الذى أثار حفيظة أعضاء النيابة وتدخل على الفور أحد القادة الأمنيين ليشرح الأمر لأعضاء النيابة الذين تفهموا القرار واحترموه.
ومع مرور عشرة دقائق من تلك المشادات بين قوات الأمن وأعضاء النيابة تصاعدت هتافات «سلمية.. سلمية»، فقرر بقية أعضاء النيابة المتواجدين التوجه إلى أمام مكتب النائب العام للدخول فى وقفة صامتة، كما وصفها الداعى لها، الذي شدد على جميع المتوجهين إلى المكتب ألا ينطقوا بأى لفظ، وعدم التصريح لأى جهة بأى تصريح، ومع اقتراب وصولهم إلى مكتب النائب العام، طالب أعضاء النيابة رفع تحقيق شخصيتهم حتى يتم التأكد من أن المتواجدين جميعهم أعضاء نيابة.
عاد وفد الخمسة لزملائهم، الذين تزايدت أعدادهم بعد وصول القادمين من المحافظات، ومع تزايد أعضاء النيابة وتكدس المتواجدين، سمحت قوات الأمن لأعضاء النيابة بالتجول فى الطرقة التى تقع أمام مكتب النائب العام دون أن تسمح للصحفيين بذلك.
وبعدها انسحبت قوات الشرطة من أمام المكتب الذى يشهد جلسة التفاوض مع النائب العام، وتركت المجال لأعضاء النيابة، فتكدسوا أمام باب المكتب مرددين هتافات ضد طلعت إبراهيم.
وبينما كان أعضاء النيابة ينتظرون نتائج المفاوضات، وفي نحو الخامسة مساءاً، جاءت أصوات هتافات ضد النائب العام طلعت إبراهيم من خارج دار القضاء الأعلى، فخرج أعضاء النيابة إلى شرفات المبنى، ليجدوا المسيرة القادمة من مقر حزب الوفد باتجاه نقابة الصحفيين، والتي نظمها مجلس النقابة للتضامن مع صحفيي جريدة «الوفد» ضد الاعتداء على مقرهم من أنصار المرشح الرئاسي المستبعد حازم صلاح أبو إسماعيل.
وبدا واضحاً أن أعضاء النيابة شعروا بدعم معنوى لموقفهم، حتى وصل الأمر بأحدهم إلى تكرار هتافاتهم، وسرعان ما تدخل زملائه لمنعه حتى لا يتم حساب موقفهم على طرف أو فصيل سياسي.
انقسم أعضاء النيابة على موقعين: الأول على يمين ردهة مكتب النائب العام والآخر على يساره، وبدا الأمر يأخذ شكل الحصار، وتخلى المعترضون عن تحفظهم، وبدأت الهتافات تتصاعد «ارحل ..ارحل»، و«مش عايزينك.. مش عايزينك».
جاء صوت أذان المغرب ليمثل فرصة لالتقاط الأنفاس، وداخل المسجد الصغير الذي يقع في الطابق نفسه، جلس أعضاء النيابة بين مؤدٍ للصلاة وآخر يستخدم مصادر الكهرباء في شحن هاتفه المحمول، وانخرط رجال الشرطة وأعضاء النيابة في صلوات الجماعة المتتالية.
وفي نحو السادسة مساءاً، عرض أمير الأيوبي، عضو نيابة شمال سوهاج الكلية على المعتصمين ما تم إبلاغه به من قبل المفاوضين للنائب العام، بوجود عرض من الرجل بتقديم استقالته المشروطة بخروج نتيجة الاستفتاء بنعم، والتقدم بالاستقالة إلى مجلس القضاء الأعلى في 23 من الشهر الجاري، وفور انتهاء الأيوبي من كلامه جاء رد زملائه: «باطل باطل و«يمشي يمشي»، و«النائب العام يمشي باحترام».
عاد الأيوبي للتأكيد على المعتصمين ما إذا كانوا مصرين على موقفهم، فرددوا «معتصمين.. معتصمين».
بعد ساعة ونصف.. تسرب للمعتصمين أن أحد أفراد الوفد قال للنائب العام إن «أعضاء النيابة العامة لا يرغبون في العمل معك»، فرد طلعت إبراهيم: «وأنا مش عايز اشتغل معاهم.. وانتوا مش بتمثلوا كل الناس».
عرض المفاوضون جمع توقيعات بالأسماء من المعتصمين؛ للتأكيد للرجل أنها رغبة واسعة، إلا أن ذلك الاقتراح قوبل بالرفض أيضاً، وسط تحذير من قبل المعتصمين أنها محاولة لجمع الأسماء لاتخاذ إجراءات عقابية عقب انتهاء الأزمة.
اقتربت عقارب الساعة من الثامنة والنصف، والأعصاب مشدودة على آخرها، وتم فك الطوق الأمنى الذي كان يمنع بقية المعتصمين من الوصول ل«غرفة المفاوضات».
وبدا أن الصبر نفد، ولائحة في الأفق نذر مواجهة مباشرة بين أبناء السلطة الواحدة، أطلق أعضاء النيابة هتاف «آخره الساعة 9».
وعلى الرغم من أن الأعصاب مشدودة، لم يخل الأمر من عبارات ساخرة، فعندما وزع أحدهم عبوات عصير علي زملائه قال له أحدهم «نيستون يا عملاء.. منكم لله»، ما جعل الوجوه الغاضبة تبتستم.
في التاسعة إلا الربع، طلب النائب العام الخروج من مكتبه ليدخل دورة المياه، وأكد له الأعضاء أنه لا مشكلة في ذلك، غير أن بعضهم حذر من أن يخرج من باب خلفي قبل كتابة الاستقالة، وما إن أطل إبراهيم برأسه إلا وفوجئ بأعداد المعترضين، وتكدسهم أمام مكتبه، فعاد أدراجه.
وشكل المعتصمون درعا بشرية للرجل حتى يخرج لدورة المياة، لكن أحد المفاوضين أكد أن النائب لم يكن يرغب في الذهاب إلي دورة المياه، لكنه كان في حقيقة الأمر يريد معرفة حجم المعتصمين المعترضين على بقائه في منصبه، بعدما قال له أحد مؤيديه أنهم لا يتعدون 100 شخص.
في التاسعة والربع، خرج المستشار عادل السعيد، مدير المكتب الفني للنائب العام، على المعتصمين ليطلب منهم الهدوء، وفور أن ساد الصمت، قرأ نص الاستقالة الذي جاء فيه «السيد الأستاذ المستشار رئيس محكمة النقض رئيس مجلس القضاء الأعلى.. أرجو نظر عرض طلبي إلى مجلس القضاء الأعلى بجلسة الأحد الموافق 23/12/2012 بقبول استقالتي من منصب النائب العام وعودتي للعمل بالقضاء.. المستشار طلعت عبد الله»، لم يكد السعيد يفرغ من الجملة الأخيرة حتى ردد المعتصمون «الله أكبر»، وتعالي التصفيق، وبدأ الجميع في تبادل المباركات والأحضان والقبلات.
انتبه أحدهم إلى أن وسائل الإعلام تقف خارج الكردون، فدعوا الصحفيين وكاميرات الفضائيات إلى الدخول لتسجيل نص الاستقالة بصوت وصورة المستشار عادل السعيد، وبعد اعتراض حرس مكتب النائب العام ومواجهته بتهديد أعضاء النيابة: «إذا الكاميرات والصحفيين ما دخلوش مش هنمشي»، استقر الأمر على أن يرفع المفاوضون صورة نص الاستقالة المكتوبة بخط يد المستشار طلعت عبد الله أمام الكاميرات، وسط تصفيق من المعتصمين.
وفور انتهاء الأزمة خرج النائب العام مستقيلاً، وسط حراسة مشددة من أعضاء النيابة العامة أنفسهم مرردين هتافات: «شكرًا.. شكراً»، ومع تزايد التدافع، قام الحرس الشخصي للمستشار طلعت إبراهيم بإخراجه عن طريق سلم خلفي مهجور يؤدي إلى خارج مبنى دار القضاء الأعلى.