سعر سبيكة الذهب في مصر بعد الانخفاض الجديد في جميع الأوزان    رد فعل محمد صبحي بعد تبديله يفجر حيرة جماهير الزمالك    سقطت من الدور الخامس.. النيابة تحقق في مصرع ربة منزل بالعبور الجديدة    نكبة جديدة ونهائية    منظومة الدفاع الجوي الصينية HQ-9.. قوة ردع باكستانية أمام الهند    بوليانسكي: روسيا ترحب بإصلاح متزن لدور الأمم المتحدة    جمعية الخبراء: الضرائب الرقمية تحدد مسار قطاع الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات    الكرة النسائية.. الزمالك يخطف نقاط المقاولون بهدف نظيف    انطلاق قمة "رايز أب 2025" من المتحف المصري الكبير    المخرج محمد عبد العزيز يكشف كواليس علاقته بعائلة محمود عبد العزيز    قصور الثقافة: مكتبات وبيوت الثقافة التي تضم أندية أدب وفرقا فنية مستمرة في أداء دورها    قصص «أقفل المحضر في ساعته وتاريخه» لوئام أبوشادي ترصد الصمود الإنساني في وجه الأزمات    وزير الثقافة يصطحب نظيرته الفرنسية في جولة بالجناح المصري في بينالي فينيسيا للعمارة    فريق طبي بسوهاج الجامعي ينجح في استخراج «دبوس» من معدة طفل    نانسي عجرم تستعد للغناء في جاكرتا هذا الموعد    ستيف ويتكوف: ترامب يؤمن بالسلام عبر القوة ويفضل الحوار على الحرب    تكريم رئيس هيئة قضايا الدولة في احتفالية كبرى ب جامعة القاهرة    عمرو سلامة عن تعاونه مع يسرا: «واحد من أحلام حياتي تحقق»    خطيب الجامع الأزهر: الحديث بغير علم في أمور الدين تجرُؤ واستخفاف يقود للفتنة    حريق في عدد من المنازل بعزبة البهنساوى ببنى سويف بسبب ارتفاع درجات الحرارة    إدارة القوافل العلاجية بالمنوفية تحصد المركز الثاني على مستوى الجمهورية    "بنقول للضحايا إحنا مباحث".. اعترافات عصابة الشرطة المزيفة ب"عين شمس"    الزمالك يحدد جلسة تحقيق جديدة مع زيزو    النيابة تصرح بدفن جثة شاب غرق بترعة أبيس في الإسكندرية    إمام المسجد الحرام: تأشيرة وتصريح الحج من لوازم شرط الاستطاعة    الدوري الألماني.. توماس مولر يشارك أساسيا مع بايرن في لقائه الأخير بملعب أليانز أرينا    تراجع جديد في أعداد قاطني مخيم الهول السوري    ترامب يوجه رسالة إلى الصين: الأسواق المغلقة لم تعد مجدية    فريق طبي بمستشفى سوهاج الجامعي ينجح في استخراج دبوس من معدة طفل    شهادات مزورة ومقر بدون ترخيص.. «الطبيبة المزيفة» في قبضة المباحث    مصرع عنصرين إجراميين في مداهمة بؤرًا خطرة بالإسماعيلية وجنوب سيناء    محافظ الشرقية يطمئن على نسب تنفيذ أعمال مشروعات الخطة الإستثمارية للعام المالي الحالي بديرب نجم    أمين الفتوى: المعيار الحقيقي للرجولة والإيمان هو أداء الأمانة والوفاء بالعهد    سجل الآن.. الوطنية للتدريب تطلق مبادرة "أنا أيضًا مسئول" لبناء وعي القيادة والمسؤولية لدى الشباب    الضرائب: 9 إعفاءات ضريبية لتخفيف الأعباء وتحفيز الاستثمار    ارتفاع توريد القمح المحلى إلى 128 ألف طن وزيادة التقاوى ل481.829 طن بالدقهلية    «المستشفيات التعليمية» تنظم برنامجًا تدريبيًّا حول معايير الجودة للجراحة والتخدير بالتعاون مع «جهار»    عقب أدائه صلاة الجمعة... محافظ بني سويف يتابع إصلاح تسريب بشبكة المياه بميدان المديرية    عاجل.. الزمالك يُصعّد: نطالب بحسم مصير "القمة" قبل 13 مايو لضمان العدالة في المنافسة على اللقب    الشباب والرياضة تنظم الإحتفال بيوم اليتيم بمركز شباب الحبيل بالأقصر    تنفيذ فعاليات حفل المعرض الختامي لأنشطة رياض الأطفال    رئيس جامعة الإسكندرية يستقبل وفد المجلس القومي للمرأة (صور)    مروان موسى: ألبومي الأخير نابع من فقدان والدتي    التموين تعلن آخر موعد لصرف الدعم الإضافي على البطاقة    "موسم لا ينسى".. صحف إنجلترا تتغنى ب محمد صلاح بعد جائزة رابطة الكتاب    هل يجوز الحج عن الوالدين؟ الإفتاء تُجيب    جدل فى بريطانيا بسبب اتفاق ترامب وستارمر و"الدجاج المغسول بالكلور".. تفاصيل    قناة السويس تدعو شركات الشحن لاستئناف الملاحة تدريجيًا بعد هدوء الهجمات    البابا لاون الرابع عشر في قداس احتفالي: "رنموا للرب ترنيمة جديدة لأنه صنع العجائب"    رئيس الوزراء يؤكد حِرصه على المتابعة المستمرة لأداء منظومة الشكاوى الحكومية    10 لاعبين يمثلون مصر في البطولة الأفريقية للشطرنج بالقاهرة    لجنة المشاركة السياسية بالمجلس تنظم ندوة لتوعية الشباب بجامعة بورسعيد    سائح من ألمانيا يشهر إسلامه داخل ساحة الشيخ المصرى الحامدى بالأقصر..فيديو    كاف اعتمدها.. تعرف على المتطلبات الجديدة للمدربين داخل أفريقيا    محافظ القليوبية يستقبل وفد لجنة الإدارة المحلية بمجلس النواب لتفقد مستشفى الناس    تحقيقات موسعة في العثور على جثة متعفنة داخل منزل بالحوامدية    التنمر والتحرش والازدراء لغة العصر الحديث    في ظهور رومانسي على الهواء.. أحمد داش يُقبّل دبلة خطيبته    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



فى حكم عبدالناصر كنا جميعا كأحجار الشطرنج بين أصابع الديكتاتور
أمن الدولة لاحقنى لأننى لم أدل بصوتى فى الاستفتاء على رئاسة الجمهورية
نشر في الشروق الجديد يوم 25 - 11 - 2012

«حتى الآن لا يزال هذا الرجل لغزا من ألغاز الشرق الأوسط، مثله كمثل القطعة الأخيرة فى أحجية تركيب الصورة من أجزائها المقطعة، التى لم يضعها أحد فى مكانها بعد، صعب المنال كسحابة دخان تلوح فى الأفق، وهو يحب أن يبقى كذلك؛ فهذا أكثر أمانا» بتلك العبارة وصف دوجلاس تومبسون الكاتب الغربى الشهير، يوسف ندا، وزير خارجية جماعة الإخوان المسلمين السابق، وإمبراطور التجارة، الذى قضى أكثر من نصف حياته فى منفاه الاختيارى.

الرجل، الذى عمل لعقود كوزير خارجية لجماعة الإخوان المسلمين، ويعد لغزا يصر على أن معظم ما كتب أو أذيع عن جماعة الإخوان المسلمين «ليس صحيحا» وهو ما اكتشفه بعد أحداث 11 سبتمبر 2001، عندما وجد نفسه فى دائرة الضوء محصورا، بحسب تومبسون.

ويرى تومبسون أن «هذا الرجل الذى كان يملك إمبراطورية من الأعمال التجارية قيمتها بلايين الدولارات الأمريكية، ووُصِم بأنه ممول إرهابى عالمى، المستشار دائما، مرة عن الثورة فى مصر، وأخرى عن نهاية القذافى ويؤخذ رأيه باستمرار فى البحث عن حل للمجازر فى سوريا، والمشكلات فى مناطق أخرى، كالسعودية واليمن وإيران والعراق، هو بمثابة درس مدهش فى الدبلوماسية والسياسات العالمية». وفى هذا الجزء من سيرته يتناول ندا، قرار هجرته من البلاد وبداية تكوين إمبراطوريته المالية، انتهاء بعودته إلى مصر للمرة الأولى خلال السبعينيات.

قرار الهجرة

خلال مرحلة دراسته الجامعية، باستثناء فترة سجنه التى قطعَتْها عنوة، كان يوسف يشتغل فى تجارة منتجات الألبان مع إدارته مكتبا للتصدير، وعندما تخرج فى كلية الزراعة فى جامعة الإسكندرية عام 1959 كان ناجحا جدّا فى عمله، ولكنه كان قلقا، ويقول إنه شَعَر بأنه كان يعيش فى دولة بوليسية.

ويشرح ذلك بقوله: «كان النظام قد وظَّف آلافا من الجواسيس لدى جهاز أمن الدولة على غرار جهاز الأمن فى ألمانيا الشرقية، كل واحد مذنب حتى تَثْبُت براءتُه، وليس بريئا حتى تَثْبُت إدانته، كان الجميع مشكوكا فيهم.. لقد كان مُناخا مرعبا وخانقا كانت الرقابة والسلطة تتحكمان فى الجميع: «لم أحتمل طريقتهما فى تسيير شئون حياتنا، كُنَّا جميعا كأحجار الشطرنج بين أصابع الديكتاتور».

«مرة لاحقونى؛ لأننى لم أُدْلِ بصوتى فى الاستفتاء على رئاسة الجمهورية، كان عبدالناصر المرشح الوحيد، فكان ينبغى عليك الاختيار بين «نعم» و«لا»، أن تقول لا فهذه مشكلة، لم أشأ أن أقول نعم، ماذا عسانى أن أفعل؟ لم أذهب للإدلاء بصوتى، بعد أسبوعين استدعونى، قالوا: لماذا لم تذهب إلى الاستفتاء؟، قلت إننى كنت مشغولا جدّا، فلم يكن لدى وقت كى أذهب، قالوا: إما أنك تقبل بالنظام، وإما تكون ضده، عدم التصويت يعنى أنك لا تريد أن تبوح بما تعتقد، ما عسى المرء أن يفعل؟! لم تكن لى وسيلة للعيش فى ذلك المُناخ المفعم بالريبة والكراهية،. قررت الهجرة. لم أكن متزوجا، وكنت أعرف كيف أدير شئونى الخاصة، وكانت لى علاقات فى كل مكان».

غادر يوسف مصر فى عام 1960 بإذن كامل من الحكومة وتصريح بالعمل وتأشيرة خروج، ليبدأ التحول الكبير فى حياته، أصبح يوسف رجلا دوليّا من رجال الصناعة، يتمتع بقدرات عالية، أنشأ لنفسه مكاتب فى كلٍّ من فيينا، وطرابلس، والرياض، وجلاسجو وليختينشتين، وراح يتنقل بين أوروبا والشرق الأوسط حيث ينظم أعماله الحرة. لقد أنشأ بطاقَتِهِ المتوهجةِ أعمالا تجارية كثيرة، مثلما أقام علاقات مع شخصيات مشهورة، كان يُحرك السلع ويدوِّرها بسرعة وانتظام: الذرة، والزيت، والشعير، والحديد، والقمح، والأسمنت، والدقيق، والنحاس، والألمنيوم، والأسمدة. كانت تجارته فى الأسمنت ومواد البناء الأخرى أكثر أرباحا من سائر المشروعات الأخرى.

مناجم الذهب

كان نجاح مشروعاته كبيرا إلى الحد الذى جعله يتباحث مع زعماء الدول وأكابر رجال الأعمال، كان يتمتع دوما بغريزة الوصول إلى صُناع القرار الحقيقيين فى مجالَى الصناعة والسياسة وقد أخبرهم جميعا بانتمائه إلى جماعة الإخوان المسلمين واعتزازه بذلك، وكان منهم الرئيس التونسى الحبيب بورقيبة والملك الحاذق إدريس السنوسى ملك ليبيا المستقلة، الذى ظل حليفا لبريطانيا وأمريكا رغم أزمة قناة السويس فى عام 1956، فالدولتان ساهمتا فى تأسيس مملكته بعد الحرب العالمية الثانية، وعلاوة على ذلك، قدم الرئيس التونسى الحبيب بورقيبة ليوسف حرية السفر والتنقل الثمينة: إذ منحه الجنسية التونسية، فجاءه معها جواز السفر الذى فتح أمامه العالم ليتنقل فى أرجائه، وفى ليبيا كان لديه دعم رفيع المستوى من جانب الملك وكبير تشريفاته فتحى الخوجة.

كانت مشروعات الإنشاءات بمثابة منجم للذهب فى ليبيا والخليج ونيجيريا، وكذلك شرق وغرب وشمال إفريقيا. لقد غدت شركات يوسف المُورِّد الرئيسى لمادة الأسمنت، وبالتعاون مع أكبر شركة إيطالية للأسمنت (شمنتير) صَنَع أول تيرمينال عائم للأسمنت فى العالم فى أكبر حوض إيطالى لبناء السفن فى ذلك الوقت، وأصبح يوسف معروفا فى أوربا والشرق الأوسط باسم «ملك أسمنت البحر الأبيض».

فى أول سبتمبر عام 1969 استولى العقيد القذافى على الحكم فى ليبيا، بينما كانت مملكة يوسف تزدهر؛ إذ كان لديه أسطول يتألف من ست وثلاثين باخرة تجلب السلع إلى ليبيا: النفط والحديد والشعير والقمح وبعض الأسمنت، الذى ساهم ببناء قسط كبير من الشرق الأوسط الحديث. كما كان يملك فى ذلك الوقت كمية من مادة الحديد تقدر قيمتها بخمسة وأربعين مليون دولار.

كانت الساعة السابعة صباحا عندما تلقَّى يوسف نبأ الانقلاب بالهاتف، وعندما أدار المذياع فى منزله فى طرابلس، جاءت الأخبار مدعمة بأصوات إطلاق النار فى المدينة، عرف على الفور أن عبدالناصر سوف يدعم انقلاب القذافى، إذن لم تَعُد ليبيا مكانا آمنا له.

مع الانقلاب فُرِض منع التجول، السير فى الطريق يعنى أن تصبح هدفا لرصاصة ما لم تكن شخصا مُهمّا،فى هذه الأثناء طَرَق بابى جارى «فكتوريو بجانى»؛ صاحب توكيل شركة «فولكس فاجن» فى طرابلس، ولأنه كان يهوديّا فقد كان خائفا مما يمكن أن يحدث له، فقال: إننى وحدى، وقد غادرتْ عائلتى منذ يومين إلى روما ليحتفلوا بيوم الغفران، وكنت أنوى اللحاق بهم غدا، لكننى الآن وحيد وخائف جدّا، هل يمكننى البقاء معك؟ فقلت له: هذا منزلى أمامك، هنا الموسيقى والمكتبة، وهنا المطبخ، وها هى الثلاجة وموقد الطبخ، وها هى غرف النوم، وكلها يمكنك استخدامها، لقد أوصانا رسولنا صلى الله عليه وسلم على سابع جار. فافعل ما شئت، فقط لن أستطيع الجلوس معك طويلا لأن أمامى أشياء كثيرة لا بد من عملها. كان على أن أُفكر مليّا كيف أحافظ على حياتى، استدعى «بجانى» سكرتيرته إلى منزلى، فرتبت له أمر هروبه إلى كندا عبر مالطة فى صندوق جيتار، وهربت أنا أيضا، ولكن فى اللحظات الأخيرة؛ لقد ركبت فى سفينة شحن تحمل الأسمنت مُنطلقا نحو الحرية».

«ذهبت إلى الميناء ومعى وثيقة حج وجوازان للسفر ودفتر شيكاتى على بنك «كريديت آنشتالت فيينا» وبعض المال أخفيته فى حذائى، كما أخذت معى مسدسا بلاستيكيّا، ولا شىء غير ذلك؛ لا ثياب ولا حتى موسى للحلاقة، وثيقة الحج مكَّنتنى للوصول إلى الميناء وتجاوز حرس الميناء، عندما وصَلَت السفينة أخبرت القبطان أنه يجب علينا الانطلاق، كان شديدَ الاضطراب إذ أراد نقودا لأجل مالك السفينة، كان يريد منى السفر معه لأدعمه، ولكنه خائف على سلامته فى الوقت نفسه، طلبت منه الحصول على إذن من سلطات الميناء للإبحار».

«قالوا لى: انتظر إن الحراس سيأتون بُغْية التفتيش. وهذا ما فعلوه، جاءوا فى زورق حربى سريع، كانوا نحو اثنى عشر رجلا فى بِزَّات عسكرية، ويحملون البنادق الرشاشة، عندما اعتلوا السفينة، فقد القبطان أعصابه وقال: سيد يوسف يجب أن تخرج.. سيد يوسف ينبغى أن تغادر السفينة. فأجبته: هل أنت مجنون؟ لقد طلبت منى البقاء. فأجابنى متوسلا: يا سيد يوسف لدى أولاد. فقلت: نعم لديك أولاد هل تريدهم أن يعيشوا بدونك أم معك؟ إذا لم يكن من بد إلا أن أُقتل، فإنك ستُقتل قبلى».

«لم يكن أمامى سوى إخافته بالمسدس البلاستيكى الذى بدا وكأنه حقيقى، إنها الحياة أو الموت، كان هناك ثلاجة كبيرة فى قَمَرة السفينة، فقال لى إن باستطاعتى الاختفاء خلفها، كان مكتبه فى الجانب المقابل من الغرفة، فقلت له: اجلس على ذلك المكتب بحيث أستطيع أن أراك، وإذا تحركت، فسأطلق النار عليك. كان التوتر شديدا والجو حارّا، مكثت وراء الثلاجة سبع ساعات حتى غادرنا المياه الإقليمية صوب اليونان.

«بعد أن عبرنا المياه الإقليمية الليبية، صعدت فوق برج السفينة لأستخدم جهاز اللاسلكى وأتحدث إلى المصرف فى فيينا، أعطيت عامل اللاسلكى مبلغا جيدا من النقود فقال: يا سيد يوسف انتبه لنفسك، فقد طلب منى القبطان أن أرسل ثلاث رسائل: واحدة لمدير ميناء بيريه، والثانية لجهات الأمن، أما الثالثة فلرئيس الدولة.. وأحسب أنك فى خطر».

«ثم وصل رجال الشرطة، وطلبوا جواز سفرى وسألونى من أين أتيت، أجبت غاضبا: من تونس، لدى جواز سفر، إننى لا أحتاج لتأشيرة دخول، إننى أدخل بلادكم من ميناء يُسمح للجميع بالدخول منه». «لاحظ ضابط آخر الغضب الشديد يعلو وجهى، فتقدم قائلا: يا سيد يوسف لا تغضب فإننى أعرف قضيتك، أين جواز سفرك؟ نظر إلى جواز السفر، ثم قال: عندنا مشكلة يا سيد يوسف، إن قضيتك ليست بأيدينا، إنها عند رئيس الدولة. لقد وصلتنا رسائل وكذلك لرئيس الدولة. اليوم هو يوم الجمعة مساء، لا أحد يستطيع الاتصال بالرئيس، غدا وبعد غد كذلك لا يستطيع أحد الاتصال به، هل يمكن أن نطلب منك البقاء على متن السفينة حتى صباح يوم الاثنين؟».

«لم يكن لى خيار آخر.. فإما البقاء فى السفينة وإما النزول عنها إلى البر حيث أذهب إلى السجن لأقضى عطلة نهاية الأسبوع، طلبت من مالك السفينة أن يهيئ لى محاميا، ويتصل بغالب همت، الذى أثق به، كى يلحق بى من ميونيخ بأقصى سرعة ممكنة، فى صباح يوم الاثنين وصل رجال الأمن، وسألهم المحامى عن وجهتنا فأجاب قائدهم: ليس مسموحا لى أن أخبرك».

«طلبوا من المحامى البقاء، ثم أخذونى إلى مقر رئيس الدولة «جورجيوس بابادبولوس»، الذى سيطر على الحكومة بانقلاب قام به منذ سنتين، لم أكن قابلته من قبل».

«بادرته بالسؤال: يا سيادة الرئيس، هل من خطأ ارتكبته؟.

- كلا.. كلا، لا توجد مشكلة، إذا أردت اللجوء، فسنمنحك ذلك، لقد أخبرتهم كى يضعوا على جواز سفرك ختم إقامة لمدة عام واحد، وإذا أردت أكثر من ذلك فليس هناك مشكلة، إنك الوحيد الذى خرجت من ليبيا، إن جميع الأخبار التى نسمعها عن ليبيا تصلنا عبر الإذاعة البريطانية، أريد أن أعرف الحقيقة، إن ليبيا مهمة جدّا بالنسبة لنا، ملك ليبيا هنا فى اليونان، إذا لم نعامله جيدا، ثم عاد، فإننا سنخسر ليبيا، وإذا عاملناه جيدا، ولم يعد، وبقى القذافى فى السلطة، فإننا سنخسر ليبيا كذلك.. أريد أن أعرف».

فقلت له: إن الملك يحظى بشعبية، وإن الناس يحبونه، فسألنى إذا كنت أعتقد أن الملك سيعود إلى ليبيا، فأجبته إنه لن يعود، فتعجب من ذلك التناقض، فقلت: حقّا إن شعبه يحبه، ولكن رجال الملك إدريس، الذين من حوله إذا استثنينا كبير تشريفاته المعتقل الآن.. فكلهم فاسدون وجبناء».

«نظر إلى ثم قال: هذا يعنى أن الملك لن يعود».

«وافقته فى الرأى، ثم أصدر أوامره بالترتيبات اللازمة لمعونتى إذا ما احتجت مساعدة، سألته إذا كان باستطاعتى زيارة الملك».

«يا سيد يوسف، إننى لم أسمع شيئا، أعاد ذلك مرتين، فشكرته كثيرا ثم انصرفت، ثم استأجرت أنا وغالب همت سيارة، وذهبنا لزيارة الملك إدريس، كان الوضع محزنا جدّا؛ رأينا الرجل مُسِنّا وهزيلا جدّا، قبَّلت يده، وقلت له: أنا فى خدمتك، أخبرنى إذا كان بوسعى أن أفعل شيئا، فقال: أعتقد أننى سأقضى بقية حياتى فى مصر، لم يُرِد البقاء فى اليونان؛ لأنهم إذا عاملوه كلاجئ فلن يقبل ذلك، وإذا ما عومل كملك، فالقذافى والمعارضة سيغضبون؛ لقد كان الوضع حسَّاسا، كان رجلا صالحا لكنه محاط بأناس سيئين، باستثناء كبير تشريفاته الذى اعتقله الانقلابيون الجدد فى طرابلس».

خلال ثلاث سنوات أعقبت هروب ندا من ليبيا أصبح يتاجر فى سبعة ملايين طن من الأسمنت سنويّا، ويشحن كمية موازية من الحديد. خسر يوسف عشرات الملايين من الدولارات نتيجة لانقلاب القذافى، ولكنه عاد ليصبح أكثر قوة وأرفع مكانة فى مجال التجارة والصناعة الدولية. فى عام 1974 أسس شركة ندا الدولية فى الرياض بالسعودية؛ حيث أصبحت له بعد بضع سنوات علاقات مع الملك فهد ومستشاريه. حتى أثناء ولاية عهده للملك خالد حيث كان يُدير المُلك كملك غير مُتوّج.

قبل تشغيل صوامعه العائمة، كانت الحاجة لمادة الأسمنت مُلِحّة جدّا بسبب طفرة البناء؛ فكانت تفرغ بواخر الأسمنت بواسطة الحوامات فى ميناء جدة، تضاعفت صفقاته التجارية وثروته وتنوعت، وكذلك أدواره فى جماعة الإخوان المسلمين المحظورة من قِبل عبدالناصر رغم ممارسته للسياسة فى الخفاء.

بموت عبدالناصر عام 1970 نتيجة أزمة قلبية أصبح نائبه أنور السادات؛ الذى كان تابعا خاضعا لعبدالناصر، رئيسا على مصر. اعتقدَتْ مجموعة العسكريين الأقوياء المحيطين بعبدالناصر أنهم يستطيعون إخضاع أنور السادات لإرادتهم، ويقول يوسف عن السادات: «إنه كان مخلصا لعبدالناصر، ولكنه ضعيف لا يهتم إلا بمصالحه ومُتَعه الشخصية، استولى الضباط الآخرون على الأمر، وثبّتوا السادات معتقدين أنهم يستطيعون احتواءه، لكنه كان أكثر ذكاء منهم، فوضعهم جميعا فى السجن، وأصبح عليه أن يحمى ظهره».

«رغم اضطهاد السادات لجماعة الإخوان المسلمين بأوامر من عبدالناصر، إلا أنه أمر بإطلاق سراح الإخوان من السجون، وقال إن المُبْعَدين يستطيعون العودة ثانية دون أن يمسهم أذى، فعاد كثير من الإخوان، بعد أن كان أغلبهم يعيشون فى دول عربية وإسلامية، ورغم ما كان لدى من مكاتب فى كثير من هذه الدول، بما فى ذلك القاهرة، فلم أكن أعيش فى أى بلد عربى، وقد رفضت العودة».

فى عواصم الشرق الأوسط

عندما تنقل يوسف ندا فى عواصم الشرق الأوسط فى أوائل السبعينيات من القرن العشرين، قال إنه قد اكتشف مجتمعا نزيها للغاية.

«بينما كنت ذاهبا إلى شركتى فى الرياض، طلب منى بعض مكاتبى هناك أن أُحضر معى نصف مليون دولار لسداد نفقاته، كان حملُ النقود أمرا مألوفا وغير ممنوع. وضعت النقود فى حقيبة وذهبت إلى المكتب، وبعد حوالى أربع ساعات سألونى عن النقود، فلم أجدها. ظننت أننى تركتها عند مكتب استقبال الفندق، فاتصلت بهم فقالوا لى إن سائق سيارة أجرة قد أحضر حقيبة مليئة بالنقود قائلا إنها حقيبتى وإننى قد تركتها فى سيارته. ورغم معرفة سائق السيارة أن المبلغ كان كبيرا جدّا، إلا أنه أحضر الحقيبة وسلمها لموظفى مكتب الاستقبال فى الفندق. ذهبت إلى الاستقبال وفتحت الحقيبة ووجدت أن المبلغ لم ينقص دولارا واحدا، وجدت سائق سيارة الأجرة وأردت مكافأته، ولكنه رفض أن يأخذ أى شىء، حاولت جاهدا، ولكن الرجل لم يأخذ شيئا» «فى نهاية الثمانينيات من القرن الماضى كان لدى فى الرياض بالسعودية مصنع لخلط خرسانة الأسمنت، وكانت به خزينة لحفظ الأموال مبنية بالخرسانة فى الحائط، وذات يوم حضر العاملون ففوجئوا باختفاء الخزينة بأكملها من مكانها الحصين، فالتغيير كان قد بدأ يعترى المجتمع».

العودة لمصر

فى منتصف السبعينيات قام حسب الله الكفراوى وزير الإسكان والتعمير المصرى ووفد من وزارته بزيارة يوسف ندا فى سويسرا محاولا إقناعه بمساعدة بلده. كان الأسمنت يُباع فى السوق السوداء بعشرة أضعاف سعره الحقيقى، فأرادت الحكومة أن تجد حلّا. كان رئيس الوزارة آنذاك ممدوح سالم الذى أشرف على اعتقال يوسف الشاب فى الإسكندرية؛ وذلك أثناء عمله كضابط فى الأمن. أكد له حسب الله الكفراوى أنه ليست هناك أى مشكلة تعوقه عن العودة إلى وطنه، لقد عاد إلى الوطن جميعُ أعضاء الإخوان المسلمين من جميع أنحاء العالم.

وكانت علاقات الأمير محمد الفيصل بالسادات طيبة، فحصل على ترخيص لإنشاء مصرف فيصل الإسلامى، ويضيف يوسف ندا قائلا: «بالإضافة إلى مؤثرات أخرى، فكمال أدهم رئيس الاستخبارات السعودية كان صهر الملك، وكان على علاقة متينة بالإدارة الأمريكية والاستخبارات الأمريكية. وزارة الأوقاف المصرية اقترحت أن يَصْدُر الترخيص للمصرف الإسلامى بحيث يكون نصفُ رأس ماله مصريّا، والنصف الآخر من الدول الإسلامية الأخرى».

«قال لى الأمير محمد الفيصل: لا أريد أن يُملى على الآخرون شيئا يخالف أحكام الإسلام، إننى أحتاج أن يكون معى من بين مالكى أسهم النصف المصرى شخص أستطيع الوثوق فيه، ملتزم بمبادئ الإسلام من أهل هذا البلد، إننى أحتاجك هناك. يجب أن تشارك فى المصرف وتشترى بعض الأسهم.

«رفضت، ولكنه ألحَّ. قال إن اجتماع توزيع الأسهم ينبغى أن يكون فى مصر، ودون أن أخبر أحدا ذهبت إلى القاهرة فى نهاية عام 1977. كان على غالب همت وموظفى مكتبى أن يراقبوا تحركاتى، أخذت جواز سفرى التونسى وليس المصرى، ووصلت فى الساعة الثامنة مساء، فأبقونى فى المطار حتى الساعة الثانية صباحا، ومن وقت إلى آخر كان أحد الضباط يدخل على، ثم يختفى بعدها. أخذوا جواز سفرى إلى المباحث العامة ثم المخابرات الحربية، وفى نهاية المطاف جاءنى ضابط مطار ذو رتبة عالية، وقال: يا سيد يوسف، يجب عليك أن تحل المسألة مع السلطات العليا. إننا خدم، ونحن ننفذ الأوامر».

«سمحوا لى بدخول البلاد، فذهبت إلى الفندق فى الساعات الأولى من الصباح. هاتفت حسب الله الكفراوى، وقلت له إننى سأرحل اليوم، أخبرته بما حدث، فطلب منى أن أنتظره، حضر إلى خلال نصف ساعة. بارك الله فيه.. لقد كان لطيفا ومهذبا جدّا معى».

«بعد خمس عشرة دقيقة، اتصل بى وزير الداخلية النبوى إسماعيل؛ الذى كان أيضا نائب رئيس الوزراء: يوسف، لقد سمعت بالقصة، هذا مستحيل، إن البلاد ليست كما كانت من قبل، إنها منفتحة، ونحن نحتاج لأبنائنا، إننا نحتاج للمصريين كى يأتوا من كل مكان، لقد كان ذلك خطأ، ربما خطأ من المخابرات الحربية، لكن يجب أن نلتقى، قلت: إننى أصدقك، ولكن ما يحدث من جانبك أو من أى طرف آخر هو الحقيقة بالنسبة لى، وأنا أردت رؤية الحقيقة».

«فى اليوم ذاته، دعانى حسب الله الكفراوى إلى الغداء مع النبوى إسماعيل وأربعة من أكبر رجالات الأعمال فى مصر حينذاك: عثمان أحمد عثمان وأخوه حسين عثمان والحاج حلمى عبدالمجيد وعبدالعظيم لقمة، وكلهم أرادوا منى البقاء، فكرت مليّا، وقلت: شكرا جزيلا. ثم مكثت أسبوعا واحدا».

المرة الأخرى التى ذهب فيها يوسف إلى مصر، صاحَبَتْه فيها زوجته، وعن تلك الزيارة، يقول يوسف: «لقد وضعوا تحت تصرفى سيارة بسائقها ومثل ذلك لزوجتى، وبينما كنت فى أحد الاجتماعات، عادت زوجتى إلى الفندق، وطلبت مفتاح الغرفة، فلم يكن موجودا على اللوحة، فاعتقدَتْ أننى فى الغرفة، ولكن عندما ذهبتْ إلى هناك صادفَتْ ثلاثة رجال يخرجون من الغرفة. وقيل لى بعدها إن أولئك الرجال ربما كانوا من المخابرات الحربية، أو من جهاز أمنى آخر. قلت: ليس مهمّا من أى جهاز أتوا، فالنتيجة واحدة. إنهم إذا فعلوا ذلك مرة، فبوسعهم أن يفعلوه ثانية وثالثة».

حضر يوسف ندا أول اجتماع لمجلس إدارة مصرف فيصل الإسلامى فى مصر مع الأمير محمد الفيصل، لكنه استقال من مجلس الإدارة مبقيا على أسهمه، أما بالنسبة لمصر، «فقد غادرتها ولم أعد إليها؛ إذ لا أستطيع أن أنسى ما حدث لى، إننى لا أستطيع محو ذلك كما تزيل الممحاة كتابة القلم الرصاص فبعد ما عانيته فى السجن الحربى ما كنت لأغامر كى ينتهى الأمر بى فى المعتقل».


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.