ستبقى الثورة المصرية محتفظة برصيد وافر فى ذاكرة العالم كأهم ثورة سلمية على الإطلاق استطاعت أن تسقط نظاما جثا على صدر البلاد ما يقرب من ثلاثين ربيعا، واستطاعت أن تدفع برياح التغيير ليس فقط داخل القطر المصرى إنما فى محيط جيرانها من دول الشرق الاوسط فيما يعرف بالربيع العربى. وتتصدر الكتب التى تتناول الثورات العربية قائمة اهتمامات القراء خاصة فى الغرب، ولتلبية هذه الحاجة الملحة لفهم أسباب ودوافع قيام الثورة المصرية، كان كتاب «ميدان التحرير» أو «Liberation Square»، الصادر عن الجامعة الأمريكيةبالقاهرة، الذى يقع فى 366 صفحة من القطع المتوسط ويتضمن 18 فصلا، والذى رصد فيه كاتبه، أشرف خليل، كشاهد عيان العاصفة التى أودت بعرش مبارك من خلال متابعته اليومية للتطورات من الخطوط الأمامية ومن أروقة السلطة لأزقة الشوارع الخلفية.
أشرف خليل هو صحفى استقر فى القاهرة لما يزيد الآن على خسمة عشر عاما، قام خلالها بتغطية الشرق الأوسط لصحيفة التايمز، الايكونوميست، والفورين بوليسى، وسان فرانسيسكو كرونيكل، وكريستيان ساينس مونيتور، وطبعة الشرق الاوسط من رولينج ستون. كما عمل مراسلا لصحيفة لوس أنجلوس تايمز فى بغداد والقدس.
الديكتاتور رئيسًا.. صدفة!
تناول خليل فى الفصل الأول الظروف التى مكنت مبارك من الوصول لسدة الحكم. فعلى حسب وصفه، فإن مبارك لم يكن سوى الرجل الذى يظهر فى الصورة خلف الرئيس الراحل أنور السادات، والذى لم يكن ببال أحد أبدا أن يصبح رئيسا. فقد كان مبارك لسنوات يتوارى فى الظل وراء كاريزمية السادات وكان من الوجوه المعروفة التى تقف وراء السادات عندما كان يلقى كلمة أو فى لقائه مع كبار الشخصيات الأجنبية. وسرد خليل قصة شائعة مفادها بأن فى أول لقاء له مع السادات فى حضور مبارك، اعتقد هنرى كيسنجر بأن مبارك هو أحد المساعدين الصغار للسادات وليس نائبا للرئيس.
وصعد نجم مبارك كبطل لحرب 1973—إلا أنه فى السنوات الأخيرة ظهر بعض الادعاءات التى ترى بأن دوره المعلن فى الحرب يحمل الكثير من المبالغة. وباغتيال السادات بأيدى خلية إسلامية داخل جيشه فى 6 أكتوبر عام 1981، كان المنصب شاغرا أمام مبارك ليحتله ويحتكره قرابة ثلاثين عاما.
تمركزت معظم سياسة مبارك الخارجية حول تدعيم علاقات السادات التى بناها مع واشنطن، والتى كانت باكورة علاقة طويلة استمرت لعقود، تدفقت خلالها المساعدات على القاهرة، وتلقت أجيال من ضباط الشرطة والجيش تدريبا متقدما فى الولاياتالمتحدة. كان استمرار هذا السخاء مرهونا بإبقاء مبارك على شروط كامب ديفيد، والسيطرة على استياء الشعب إزاء محنة الفلسطينيين.
ميلاد الدولة البوليسية
يوضح خليل أن مبارك لم يكن قطا وحشيا لا يرحم أو ساديا بالمقارنة بمعاصريه مثل صدام حسين أو حافظ الأسد، فلا يوجد مثلا على غرار العراق مقابر جماعية فى مصر. جريمة مبارك تكمن فى معاملة الشعب المصرى باستحقار، وعدم احترامه له، لدرجة أن العديد من المصريين قد فقدوا احترامهم لأنفسهم. وكان هذا القمع المعنوى قد ساد فى ظل نظام أمنى بوليسى يضع حماية الرئيس وأسرته على رأس أولوياته.
كانت من نتائج مذبحة الأقصر، التى وقعت فى 17 نوفمبر 1997 بأيدى مسلحين إسلاميين، بدء عهد وزير الداخلية حبيب العادلى الذى كان يرأس مباحث أمن الدولة، والذى حاز توجهه القمعى الوحشى ضد جماعات اسلامية متشدده تأييدا شعبيا. إلا أنه مع الوقت أصبحت الشرطة فى مصر القوة الوحيدة الرادعة دون منازع هى وجهاز أمن الدولة المتنامى فى السلطة والذى توسع نفوذه ليشمل كل جانب تقريبا من جوانب الحياة.
ويتساءل خليل لأى مدى كان مبارك على علم بسلوك وزارة الداخلية. ففى آواخر عام 2010 وقبل الثورة ببضعة شهور، أصدرت منظمة ويكيليكس مجموعة من البرقيات الدبلوماسية التى تمت بين وزارة الخارجية الأمريكية وبعض سفاراتها فى الخارج، والتى كشفت السفيرة السابقة للقاهرة مارجريت سكوبى فى إحداها عن انطباعها بأن مبارك يثق بالعادلى للحفاظ على النظام والسيطرة ولا يسأل أسئلة كثيرة طالما أنه يحقق نتائج. وقد سبق هذا التقرير تقرير آخر فى مايو 2009، أفادت فيه سكوبى بأن مبارك يعتمد تماما على كل من العادلى ورئيس المخابرات عمر سليمان فيما يتعلق بالأمن الداخلى.
البرادعى.. المخلص المتغطرس!
أفرد خليل مساحة لا بأس بها تناول فيها تأثير البرادعى ودوره فى الدفع برياح التغيير، والذى استقبل بترحاب شديد عند قدومه إلى أرض الوطن فى فبراير عام 2010، وكيف كان نظرة الناس له على أنه المخلص والبطل الذى جاءهم على حصان أبيض لينقذ البلاد من سيناريو خلافة جمال مبارك. وفى حين كانت وسائل الاعلام المستقلة وقتها مهووسة به، كانت الصحف المملوكة للدولة تحاول النيل منه بالتركيز على فكرة اغترابه خارج مصر منذ عقود، وبالتالى احتمالية أن يكون لديه جواز سفر أجنبى وولاءات مشبوهة.
أعلن البرادعى عن حملة لجمع ملايين التوقيعات لدعم قائمة من المطالب التى تضمنت إلغاء قانون الطوارئ والقضاء على العقبات القانونية التى تحول دون ترشيح مستقلين للرئاسة. وخدم حسن نافعة، أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة، كأحد كبار نواب البرادعى ومستشاريه والذى أصبح المنسق العام للرابطة الوطنية من أجل التغيير. لكن ما لبث وأن انفصل نافعة عن الحملة فى آواخر عام 2010 واثقا بأن البرادعى ليس بالرجل المناسب لقيادة حركة المعارضة. فقد أعرب نافعة بمرارة عن اعتقاده بأن البرادعى «بعنده» قد أهدر فرصة تاريخية كبيرة بإصراره على الحفاظ على جدول سفره الزمنى وانشغاله وعدم رغبته فى الخروج إلى الشارع للتفاعل مع الناس الحقيقيين.
يستذكر خليل كيف أن اللحظة المحورية فى فهم البرادعى جاءت فى 25 يونيو عام 2010، عندما حضر احتجاج فى الاسكندرية فى ذكرى خالد سعيد. كان غضبا متأججا قد أشعله العديد من المواطنين العاديين الذين اتجهوا إلى الشوارع على نحو غير معهود. أثار حضور البرادعى المخطط له توقعات بأن هذا سيكون البداية الحقيقية لحملته ضد نظام مبارك على مستوى الشارع. إلا أنه سرعان ما سرت خيبة الأمل بين جمهوره عندما استمر بقاؤه أقل من عشر دقائق لوح فيها للحشود مرحبا وأعطى فيها مقابلة قصيرة ل السى إن إن قبل مغادرته.
وعن انطباع خليل الشخصى عن البرادعى فى مقابلة أجراها معه لأكثر من ساعة فى منزله، هو رجل مخلص ذكى يفهم بوضوح عمق مشاكل مصر، لكنه فى نفس الوقت متغطرس بعض الشىء وعنيد.
ميدان التحرير.. الرمز
سرد خليل تفاصيل الساعات الملتهبة التى سبقت حريق القاهرة فى 28 يناير 2011، والتى شهدت ازدياد المد البشرى فى القاهرة فى مواجهة الدولة البوليسية لمبارك، والتى أدت إلى اشتعال معارك عنيفة فى الشوارع المحيطة لميدان التحرير بين عشرات آلاف من المتظاهرين فى مواجهة مع قوات الأمن المركزى التى استخدمت دروع مكافحة الشغب والهراوات الخشبية وخراطيم المياه ووابل من القنابل المسيلة للدموع والاستخدام العشوائى للرصاص، فى حين كان المتظاهرون فى مواجهة هذا العنف يهتفون «سلمية».
نجح الثوار فى النهاية من تحرير ميدان التحرير من أيدى رجال مبارك التى كانت تحميه من شعبه ليضطر مبارك للتعامل مباشرة مع مواطنيه ولأول مرة منذ أجيال. وأصبح التحرير فى حد ذاته كائنا ثوريا أكبر من أى مواطن أو فصيل سياسي، والأهم من ذلك أكبر من مبارك وحكومته. ورفض الثوار التخلى عن سيطرتهم على الميدان فى ظل حملات تشويه لهم من وسائل الاعلام واعتداءات مباشرة عنيفة، حتى سقط مبارك.
لم يكن هذا هو الاحتلال الأول للتحرير، فقد سبقه محاولة ناجحة، وان كانت فى طى النسيان، وقعت فى 20 مارس عام 2003، فى الليلة التى خرجت الجموع الغاضبة فى اتجاه ميدان التحرير على اثر بدء الولاياتالمتحدة غزوها للعراق وسماح مبارك بالسفن الحربية الأمريكية بعبور قناة السويس، ووقعت مواجهات مع قوات الأمن المركزى انتهت بسيطرة المتظاهرين على الميدان لليلة واحدة. كان هذا بالنسبة لهم نقطة تحول رئيسية فى طريق الثورة، والتى ظهرت معها هتافات لأول مرة تحمل لهجة عدائية لمبارك بدأت ب «تسقط أمريكا» وانتهت ب «يسقط مبارك».
مصر بعد الثورة
يختم خليل بأنه كما هو الحال فى الوضع ما بعد الثورات، البراعة هى معرفة متى التوقف لمصلحة البلد. لو أن كل من استفاد من أو شارك فى فساد نظام مبارك كان من المقرر أن يحاسب، إذن فإن نصف الأمة ستمكث العشر سنوات القادمة تحاكم النصف الآخر.