إن أى دارس لتاريخ مصر سيلحظ هذه العلاقة الجدلية بين مصر والخارج؛ سيلحظ أن مصر تحصد خيرا وفيرا وتتجنب أزمات كبرى عندما تدير علاقاتها بالخارج باقتدار وواقعية، وبالمقابل فإنها تتعرض لأزمات أو ربما هزائم وتضيع منها فرص كبرى للبناء والتقدم عندما لا تحسن إدارة هذه العلاقات، فالسياسة الخارجية بالنسبة لمصر وتر بالغ الحساسية إيجابا وسلبا.. وفى القرنين الماضيين من تاريخ مصر ظهرت ثلاث شخصيات كبيرة كانت لديها رؤية لما تكون عليه مصر القوية وكانت هذه الرؤية تمتد إلى خارج الحدود المصرية. هذه الشخصيات الثلاث.. محمد على وإسماعيل وعبدالناصر.. كان لكل منهم مشروعه لبناء مصر القوية الحديثة.. مشروع يقوم على ركيزتين أساسيتين.. تحديث فى الداخل وتوسيع لرقعة النفوذ فى الخارج وتحديدا فى منطقتين حيويتين للأمن القومى المصرى، المنطقة الأولى هى منطقة الشام التى جاءت منها أغلب الغزوات لمصر، ودارت فيها أشهر المعارك دفاعا عن مصر والمنطقة الثانية هى منطقة السودان ومنابع النيل، واختلفت وسائل تحقيق هذا الامتداد باختلاف الظروف، وفى كل مرة كان الباشا (محمد على) أو الخديو (إسماعيل) أو الرئيس (عبدالناصر) يحقق نجاحا... فإنه لا يلبث أن يصطدم بقوى كبرى تعتبر أن مصر قد أصبحت تشكل خطرا على مصالحها.. فتعمل على إيقافها عند حدها وإعادتها إلى حجمها داخل حدودها وكان ذلك يجرى إما بالعمل العسكرى المباشر كما حدث لمحمد على عندما قامت هذه القوى بتدمير الأسطول المصرى فى نافارين ثم فرض معاهدة 1840.. كان هذا أيضا ما حدث بعد ذلك لإسماعيل بعد أن حقق نجاحا كبيرا فى بناء امبراطورية أفريقية تصل إلى منابع النيل والقرن الافريقى فتآمرت عليه الدول الكبرى وقامت بعزله ثم تولية ابنه توفيق ثم احتلال مصر عسكريا.. وفى عهد عبدالناصر كان التآمر هو الذى استدرجه إلى حرب 67 بعد أن كان قد نجح فى تأميم قناة السويس وإجهاض العدوان الثلاثى وتحقيق إنجازات كبيرة جعلت حلم الوحدة العربية يبدو وكأنه ممكن التحقيق فكان التآمر عليه ثم استدراجه لحرب 67 الكارثية.
●●●
يأتى الرئيس مرسى اليوم ليكون أول رئيس مصرى منتخب.. جاء بعد رئيس قضى ثلاثين عاما لم تكن له فيها سياسة خارجية فاعلة تنبع من رؤية لتلك العلاقة الجدلية بين مصر والخارج.. يأتى الرئيس الجديد ومصر تواجه مجموعة من المشكلات والأزمات الضخمة تدور حول محورين رئيسيين، أولهما هو المحور الأمنى المتصل بالتعامل مع الجماعات الإرهابية فى سيناء والبعد الأمنى المتصل بحالة الأمن فى الداخل أى أمن الأفراد وأمن الطرق والشوارع. أما المحور الثانى فهو المحور الاقتصادى حيث تواجه مصر اليوم وضعا اقتصاديا خطيرا لم يسبق لها أن واجهت مثيلا له فى تاريخها الحديث.
فما الذى يمكن أن يقال لهذا الرئيس الجديد بالنسبة للسياسة الخارجية وهو يبدأ ولايته فى هذه الظروف بالغة الصعوبة والدقة؟ وسيكون عليه أن يراعى هذه العلاقة الجدلية التى تجعل قضايا الداخل وقضايا الخارج قضايا واحدة.
وقبل الحديث عن هذه القضايا فإن ثمة ملاحظة مبدئية مهمة؛ أعتقد أنه من المهم أن يتذكر الرئيس الجديد طوال فترة حكمه أن ولاءه الوحيد هو لمصر ومصالحها الحيوية vital interests فمصر هى مشروعه وهمه الأوحد؛ أمنها وسلامتها ورخاؤها وتقدمها.
والدستور الجديد الذى تجرى صياغته الآن ينبغى أن يعكس هذه الحقيقة، والرئيس الجديد مطالب بأن يضع رؤيته الأيديولوجية جانبا ويوجه كل همه إلى مصر والعبور بها من أزماتها.
لا يعنى ذلك ألا يعمل الرئيس المصرى على تحقيق التعاون بينه وبين الدول الإسلامية والدول العربية والدول الأفريقية، فتلك هى الدوائر الطبيعية التى توليها مصر أهمية خاصة بحكم انتمائها لها.
●●●
يأتى الرئيس محمد مرسى إلى كرسى الرئاسة ليجد أمامه مجموعة من الملفات الساخنة سواء فى الداخل أو فى الخارج.. يجد اقتصادا يكاد يكون منهارا وسط مناخ محتقن تتزاحم فيه الطلبات الفئوية، كما يجد نفسه أمام وضع متفجر فى سيناء على الحدود المصرية سواء مع قطاع غزة أو مع إسرائيل.. مع نشاط متزايد للجماعات الإرهابية التى أخذت توجه ضرباتها وترفع راياتها السوداء ليس فقط على الحدود بل وفى الداخل كما كان الحال فى أحداث السفارة الأمريكية الأخيرة.. والرئيس مرسى وهو يحاول أن يضرب تلك الجماعات الإرهابية بيد من حديد فإنه يجد نفسه مكبلا بالقيود الموروثة من معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية.. التى وضعت حدودا على أعداد وتسليح القوات المصرية التى تتواجد فى سيناء.
يجد نفسه أيضا يتعامل مع أطراف ذات أجندات متطرفة فهناك إسرائيل الدولة الوحيدة فى المنطقة التى تملك ترسانة من أسلحة الدمار الشامل ولديها عقيدة عنصرية جاهزة للحرب وهناك جماعات ستعمل على توريط مصر فى مواقف يمكن أن تؤدى إلى حرب جديدة فى المنطقة وأغلب هذه الأطراف لديها طموحات وأطماع بل ومشروعات أيديولوجية وأطماع فى سيناء التى تركها نظام حكم مبارك فى فراغ سكانى وتنموى رهيب لأسباب مازالت غير مفهومة حتى الآن. وسيحتاج الرئيس الجديد إلى فكر جديد للتعامل مع القضايا المتفجرة فى سيناء، وكيف تدخل سيناء ضمن الخطة المصرية الشاملة للتنمية وتطوير مصر.. وتصبح سيناء مصدر رخاء لمصر كلها بدلا من أن تكون مصدر استنزاف لمصر.
●●●
بالتوازى مع ذلك فإننا نتوقع أن يولى الرئيس ومعه أجهزة الدولة اهتماما للحفاظ على حقوق مصر المشروعة فى مياه النيل وستكون الدبلوماسية ساعده الأيمن فى هذا الشأن، وعندما يجلس الرئيس ويضع مع مساعديه خطة العمل لسنوات قادمة سيكون البعد الأفريقى فى قمة أولويات العمل الوطنى.. فلقد دخلت مصر بالفعل منطقة الفقر المائى.. وسيكون موضوع المياه مع موضوع الطاقة من أهم أهداف الخطة القومية للفترة القادمة..
فى أثناء ذلك كله سيعمل الرئيس على معالجة المشكلة الاقتصادية وسيكون محتاجا إلى وقوف العالم والقوى الكبرى إلى جانبه.. وهو لن يستطيع أن يحصل من هذا العالم على ما يريد إلا إذا استطاع اقناعه أنه ملتزم بالإصلاح الاقتصادى ووقف اهدار موارد مصر فى الطاقة والمياه.
سيعمل الرئيس على أن يكوّن صداقات مع دول رئيسية فى المنطقة العربية والشرق الأوسط مثل السعودية وتركيا وعليه أن يستعيد الريادة المصرية فى العالم العربى.. ولقد أصبحت تركيا لاعبا رئيسيا ومؤثرا فى المنطقة.. وتركيا دولة إسلامية وتعطى مثالا ناجحا فى الأداء الاقتصادى.. أما إيران فليس بيننا وبينها عداء وعلينا أن ننتبه لمحاولات إسرائيل زرع الفتنة فى العالم الإسلامى وعلينا أن نعمل بكل قوة على ألا تدخل المنطقة فى حرب جديدة تستعد إسرائيل لشنها.. أما أفريقيا وهى ظهير مصر تقدم فرصا كبيرة للاقتصاد المصرى وعلاقاتنا مع دول حوض النيل لها أولوية خاصة ونختار لها أفضل مبعوثينا، وعلاقاتنا مع الدول الكبرى تتخذ مكانا مهما فى سياسة مصر الخارجية خاصة مع الولاياتالمتحدة التى نرى دورها حاضرا فى أغلب الملفات التى تهمنا.
وبعد فلقد أظهرت الأزمة التى نجمت عن اقتحام السفارة الأمريكية وإنزال العلم الأمريكى ووضع علم تنظيم القاعدة الأسود محله إلى وجود حاجة إلى جهاز تكون لديه الصلاحية للتعامل مع الأزمات التى تطرأ على السياسة الخارجية وتمس مصالح مصر الحيوية وذلك من خلال استراتيجية متكاملة ومتطورة.. فقد شعرنا فى أثناء هذه الأزمة أن صوت مصر كان غائبا لقرابة يومين كانت الأزمة فيها فى ذروتها، وكان المطلوب أن تكون مصر حاضرة بتصريحات ومؤتمرات صحفية تذكر طول الوقت أن مصر حريصة على التزاماتها كدولة مضيفة، وأنها لن تتوانى عن الاضطلاع بمسئولياتها فى الحفاظ على أرواح المبعوثين الدبلوماسيين وعلى سلامة المنشآت التابعة للسفارات الأجنبية.
●●●
إن كل القضايا المثارة على أجندة السياسة الخارجية المصرية هى قضايا متشابكة وذات تأثير متبادل مع موضوعات أخرى داخلية وخارجية على السواء.. الأمر الذى نعيد معه التأكيد على أهمية إنشاء مجلس للأمن القومى يرأسه الرئيس ويشارك فى عضويته الوزراء الذين يتصل عملهم بالأمن القومى مثل وزراء الدفاع والخارجية والداخلية والمالية ورئيس الأركان ورئيس جهاز المخابرات العامة على أن يقوده مستشار للأمن القومى ذو شخصية قادرة على استيعاب وتحليل المعلومات والتقارير وهى المسئولة عن إبلاغ الرئيس بما يجرى يوما بيوم بل ساعة بساعة فى حالة الأزمات.. ولقد سبق لى ولغيرى من الزملاء أن كتبوا عن أهمية هذا المجلس ودوره فى إدارة الأزمات التى تنشأ.. ويحتاج الأمر دائما إلى مخاطبة الرأى العام سواء فى الداخل أو فى الخارج على مدار الساعة.. وفى اعتقادى أنه لو كان هذا المجلس موجودا لكان أداء الدولة أفضل أثناء أزمة الفيلم المسىء للرسول الكريم وما نتج عنها من أزمات خاصة أزمة اقتحام السفارة.
وعلينا ن نحرص على أن تكون صورة مصر التى نبعث بها للخارج هى صورة دولة حديثة وناهضة تحترم حقوق الإنسان كما تحترم التزاماتها.. دولة تسعى لصداقة العالم وكسب ثقته.
●●●
إن الرئيس الجديد يحتاج إلى دعم كل الشعب ومن حق الرئيس أن يتوقع هذا الدعم ولكى يحصل عليه فعليه دائما أن يؤكد قولا وفعلا أن مصر هى همه الوحيد فى الليل والنهار، وفى حركاته وسكناته، ونحن ندعو له بالتوفيق فى مهمته الكبيرة بل مهمته المقدسة.