فى إحدى ليالى أوائل الثمانينيات رأى العقيد معمر القذافى كابوسا: فهو يدخل محل حلاق ويجلس على كرسى مبطن ويغمض عينيه. وفجأة يشعر بموسى الحلاق يشق جانب رقبته الحليقة. يغوص الموسى لمسافة أعمق، ثم يمضى فى طريقه. يستيقظ خائفا وهو مقتنع بأن الرجل الذى سوف يغتاله يوما ما سيكون حلاقا. أو على الأقل تلك هى القصة التى انتشرت لتفسر سبب ما قيل عن أن «القائد» أصدر أحد أغرب مراسيمه وهو إغلاق محال الحلاقة فى ليبيا. ولم يعد بإمكان أحد قص شعره لعدة أيام. وبعد سنوات، فى أواخر عام 2009، نشر الروائى المصرى إدريس على رواية بعنوان «الزعيم يحلق شعره» تصف السنوات الأربع التى أمضاها فى العمل فى ليبيا فى أواخر التسعينيات. وهو يضمِّن شهادة من ليببيين عاديين عن الحياة فى عهد القذافى، ويؤثق الظروف غير الإنسانية التى عاشها فيها مصريون كثيرون وهم يكدون فى ليبيا. وهو يصور بفكاهة قاسية العبثية السوداء الخاصة بالديكتاتورية الليبية. وقد فاز بجائزة أفضل رواية مصرية عن رواية سابقة، وقوبلت روايته بحماس فى معرض القاهرة الدولى للكتاب فى عام 2010. لكن على انتظر ظهور ناشره، غير أنه تلقى مكالمة تليفونية تخبره أنه فى وقت سابق من صباح ذلك اليوم اعتقل ضباط أمن الدولة المصريون ناشر الكتاب وصادروا ما لديه من نسخ «الزعيم يحلق شعره»، وهو يُفترَض أنه تم بضغط من الحكومة الليبية. وتم تجريم بيع الكتاب فى مصر. وبعد بضعة أشهر مات على بسبب نوبة قلبية. تأثرت حياتى كذلك تأثرا شديدا بالتواطؤ بين حكومة حسنى مبارك والنظام الليبى. فقد ترك والداى ليبيا فى عام 1979 هربا من القمع السياسى، واستقرا فى القاهرة. كنت فى التاسعة من عمرى. وبعد أحد عشر عاما، عندما كنت فى الجامعة بلندن، اختُطِف أبى، وهو أحد أبرز المعارضين الليبين فى الخارج، من بيت أسرتنا بالقاهرة. فقد زارنا ضباط أمن الدولة المصريون عصر أحد الأيام. وطلبوا من أبى أن يتفضل بمصاحبتهم فى مشوار قصير. ولم يعد قط. وبعد ذلك علمنا أنه وُضِع على متن طائرة خاصة وأُرسِل إلى ليبيا. وهو يعد من بين «المختفين» الليبيين. فى عام 2006 أصدرت أولى رواياتى «فى بلد الرجال». ووفر لى نشر الكتاب منبرا أكبر للحديث عن خطف والدى وسجل حقوق الإنسان الليبى. وبالرغم من وجودى فى لندن، كنت فى كل مرة أكتب فيها مقالا أو تجرى معى مقابلة بشأن هذه الأمور كنت أتجول أياما وأنا أشعر بثقل حملقة النظام الليبى خلفى. كان الأمر وكأن ريحا شديدة تهب عبر غرفى. وبالطريقة نفسها التى تآمرت بها مصر وليبيا ل«إخفاء» والدى وإسكات كُتَّاب مثل إدريس على، فقد جعلتانى أنا كذلك، بقدر أقل بكثير، أشعر بالخطر على الإفصاح عما فى نفسى بصوت مرتفع. لم أعد أستطع زيارة أسرتى فى مصر، حيث كان ذلك يتسم بقدر شديد من الخطورة. بعد خمس سنوات، بعد أن ذهب مبارك ويوشك القذافى على الذهاب، صعدت على متن طائرة متجهة إلى القاهرة. وبينما كنا نهبط، نظرت على المدينة، المضاءة بالكامل والمتلألئة. شعرت أن مصيرا رهيبا قد تم تغييره للأفضل. فى المطار، بدأ الألم القديم الذى كنت أحمله لمصر لسنوات عديدة، وأعزوه إلى خيانة والدى، فى التلاشى. وعندما تصفح ضابط الجوازات جواز سفرى البريطانى وسألنى «ما هو بلدك الأصلى؟» لم تكن نبرة صوته تتسم بالشك. وحين قلت إنى ليبى ابتسم وأجاب «تشرفنا. هيا أسرعوا. تخلصوا من الطاغية.» وضحكنا، وهو شىء لم أفعله من قبل مع ضابط شرطة مصرى. عندما دخلت بيت أسرتى لأجد أسرتى وأصدقاء طفولتى فى انتظارى، وأرى أشياء أسرتى القديمة المألوفة كتب والدى وصور أسرتى شعرت بالقبضة المحكمة التى داخل قلبى تنبسط. الأصدقاء المصريون الذين شعروا بالحرج والذنب فى صمت حولى منذ اختفاء والدى فجأة أصبحوا أقرب من أى وقت مضى. لقد بات جليّا لى أن أحد الأشياء التى حاول هؤلاء الديكتاتوريون عملها هو إذلالنا وإبعادنا عن بعضنا. كل من قابلتهم فى مصر مشغولون، شأنهم شأن أسرتى، بالأحداث الجارية فى ليبيا. وكان هناك اقتناع مقبول بأن الثورتين تعتمد كل منهما فى نجاحها على الأخرى. حينما كنت أجد نفسى جالسا على مقهى مع كتَّاب ليبيين ومصريين كنت أتمنى أن يكون إدريس على، الرجل الذى لم ألتق به قط، موجودا. والآن وقد سقطت طرابلس فى أيدى الثوار، فإن الرجل الذى أتمنى إلى أقصى حد أن يكون موجودا ليشهد هذا الفجر الجديد، الذى نمسك فيه بأيدينا إمكانية مستقبلنا الأفضل الغالية جدا، هو والدى.