حين يتحدث المرء مع قيادات العمل التنفيذى فى مصر يجدهم يتحدثون عن مجهود ضخم يبذلونه فى اجتماعات ونقاشات واقتراحات وتعديلات للوائح ومشروعات قوانين، ويحكون لك عن عدد ساعات العمل الطوال. وهم محقون فى وصف كم المعاناة التى يعيشونها كى يتخطوا القواعد البيروقراطية الراسخة التى استقرت على الأوراق، والأهم فى ضمائر وعقول الموظفين المصريين. صاحب المصلحة يتمنى من الموظف أو التنفيذى أن يتخطى كل الحواجز البيروقراطية كى ينجز له مصلحته، وفى أحيان كثيرة يكون محقا فى ذلك لأن الكثير من التعقيدات موجودة تحوطا لحالات لا تنطبق عليه. ولا أنسى صدمتى حين عدت من الولاياتالمتحدة ومعى رسالتى للدكتوراه باللغة الانجليزية وشهاداتى للمقررات الدراسية التى حصلت عليها لأجد موظفا كريما يقول عليك أن تأتى بشهادة تثبت أنك تجيد اللغة الانجليزية كجزء من إجراءات معادلة درجة الدكتوراه فى الخارج بالدكتوراه المصرية. بالنسبة للموظف هو يستوفى الأوراق المطلوبة وهذه هى «مخرجاته» الوظيفية ولكن بالنسبة لى المهم النتيجة وهى أننى اضطررت أن أتعطل لإثبات بالأوراق ما هو ثابت بالضرورة بحكم الواقع. هكذا الأمر حين تتحدث مع المسئولين التنفيذيين، هو يحكم على أدائه بحكم مخرجات العمل الحكومى البيروقراطى (outputs) والمواطن يحكم على أداء المسئول التنفيذى بالنتائج الملموسة على الأرض (outcomes). فلو قال وزير ما للمواطنين، تم اقتراح 10 مشروعات قوانين، وتغيير 20 لائحة، وإصدار 40 أمر إدارى، وإنشاء 50 لجنة، وبحث 80 فكرة، وهذا هو ما أنجزته خلال الستة أشهر الماضية، فقطعا سيسمع ما لا يحب. المواطن يريد نتائج ملموسة على الأرض، ويعتبر أن اللوائح والإجراءات البيروقراطية عوائق لا بد من تخطيها، فى حين أن نفس هذه اللوائح والقوانين وغيرها هى بالنسبة للتنفيذى قيود لو تخطاها يتعرض للمحاسبة، ولو أحسن، وظن آخرون أنه أساء، استخدام المساحة التقديرية المتاحة له بحكم القانون واللوائح، فقد يقع تحت طائلة الاتهامات والتحقيقات وربما السجن. وتزداد الأمور تعقيدا حين يلاحظ الإنسان الفجوة الملحوظة بين قدرة المثقف أو الإعلامى على رصد الأخطاء وتبسيط الواقع، وقدرة الأكاديمى على تحليل المشاكل واقتراح الحلول، وقدرة التنفيذى على الانطلاق من التنظير والتبسيط والتحليل والاقتراح إلى التنفيذ الفعلى. هذه الفجوة لها ثلاثة أسباب فى تقديرى: أولا، أن بعض مثقفينا وإعلاميينا لم يكونوا قط جزءا من البيروقراطية المصرية، ولم يعوا أنها أقرب إلى ديناصور ضخم متهالك أخلد إلى الأرض واستراح فيها، وأن تطويرها يقتضى جهدا استثنائيا ربما يصرف التنفيذى عن المهام الأصلية لموقعه التنفيذى وصولا لأن ينفق كل جهده ووقته فى إصلاح ما هو فى الأصل أداته لخدمة المجتمع. ثانيا، أن معظم الأكاديميين المصريين الذين تلقوا تعليمهم فى الخارج ينطلقون من أطر تحليلية وافتراضات أكاديمية ليست على اتصال بالكثير من واقعنا المعاش، ما لم تكن دراستهم انصبت أساسا على دول الجنوب. ثالثا، التنفيذى المصرى فى مرحلة ما بعد الثورة، وبافتراض النزاهة الكاملة والسعى التام نحو تطهير وزارته أو محافظته أو مؤسسته، سيكتشف أن الفساد الضارب بجذوره فى مؤسساتنا ليس قائما على جشع فقط، وإنما هو فساد ضرورة عند من يستحيل أن «يعيش» اصلا براتبه الرسمى من الدولة. الكلام سهل، وسهل جدا. وها أنا أكتب وأقترح، ولكن ساعة الجد ستجد داخل جهاز العمل الحكومى من لا يحبك، وسيسعى لتسفيه ما تقول، ويختلق الثغرات حتى يبقى الكلام كلاما لا يخرج من دائرته إلى دائرة الفعل. وستجد من لدغه الحنش، فيعتبر كل حبل ثعبانا محتملا. ولكن مصر أعز علينا من ألا نحاول مرارا وتكرارا فى أن نجعلها أقوى وأفضل. هذه الكلمات ليست لتقديم الأعذار، وإنما هى فقط «محاولة للفهم».